تحدّي كورونا للإقتصاد العالمي.. انهيار من دون أفق أم اختراق طبّي؟

  • 2020-09-18
  • 22:30

تحدّي كورونا للإقتصاد العالمي.. انهيار من دون أفق أم اختراق طبّي؟

  • د. كمال ديب

تدحرجت الكارثة لتعم الكرة الأرضية هكذا: حادثة بسيطة في مدينة ووهان الصينية في كانون الأول/ديسمبر 2019، عدم اكتراث غربي استمر ثلاثة أشهر، إصابات ضئيلة وضحايا تعدّ على الأصابع في معظم البلدان خارج الصين، تبادل اتهامات بين الحكومات، بدء اتخاذ إجراءات في آذار/مارس 2020، إقفال دولي واسع وتعطيل التجارة الدولية وركود اقتصادي نسبي يصيب العالم، توقعات أن تنجلي الأمور وتتحسّن الأحوال الاقتصادية في حزيران/يونيو 2020.

ولكن الانفراج لم يحصل في حزيران/يونيو وفي أواخر تموز/يوليو وأواسط آب/أغسطس أخذت الدول تعود الى الاقفال مجدّداً. وعد حدوث ثغرة في جدار الأزمة العالمية التي أطلقها وباء كورونا قبل ستة شهور لم يتحقق، والآن ثمّة تصورات أنّ الأزمة طويلة وأن الفيروس سيبقى لسنة أو سنتين مقبلتين، على الرغم من إعلان روسيا والصين عن اكتشاف لقاح، وأنّ التراجع الاقتصادي قد يستمر من عامين إلى خمسة أعوام، الوقع قد يكون شديداً على الدول العربية وبخاصة المنتجة للطاقة ولكن التأثير أكثر إيلاماً سيكون على الولايات المتحدة الأميركية: 4 في المئة من سكان العالم و30 في المئة من الإصابات والوفيات. 

 

هكذا تلاشت فرصة الحدّ من انتشار الوباء وتحاشي الخسائر 

 


حتى أوائل آذار/مارس الماضي كانت الاقتصادات الغربية الكبرى لا تزال تتعامل بتساهل ونكران مع خطورة انتشار وباء كورونا الذي بدا وكأنّه شأن آسيوي اقتصر على الصين وكوريا الجنوبية واليابان، ولكن عندما أصبح وباء عالمياً وبدأت هذه الدول تتخذ الإجراءات، كانت فرصة الحدّ من انتشاره وتحاشي الخسائر قد ولّت، إذ خلال أسابيع قليلة، اجتاح فيروس "كوفيد-19" أكثر من 200 دولة وفاق عدد الإصابات 2.2 مليون نسمة وناهز عدد الوفيات 150 ألفاً، وبعد إنذارات منظمة الصحة العالمية، دقّ صندوق النقد الدولي الخطر في 9 ابريل أنّ جائحة "كوفيد-19" ستسبّب "أسوأ العواقب الاقتصادية منذ الكساد الكبير العام 1929"، وأنّ أكثر من 170 دولة من أصل 189 دولة عضواً في الصندوق ستشهد انكماشاً اقتصادياً وتراجعاً في دخل الفرد لديها. وتوقّع صندوق النقد أن الاقتصاد العالمي​ سيبقى في أزمة قد تستمر طيلة العام 2020 ثم يطاله "انتعاش جزئي" في العام المقبل، شريطة أن يتمّ احتواء الوباء ابتداء من حزيران/يونيو 2020 وذلك كي تتمكّن الحكومات من رفع تدابير العزل التي فرضتها في آذار/مارس ويتم استئناف النشاط الاقتصادي.

كانت أذية انتشار الفيروس قد بدأت تظهر حول العالم حتى قبل الإجراءات في الدول الغربية. فقد شهد الفصل الأول من العام الحالي (كانون الثاني/يناير – آذار/مارس) أسوأ وضع اقتصادي عالمي غير مسبوق، فاق في نتائجه الانهيارات العالمية، وانتشرت توقعات أن ينكمش الاقتصاد الدولي بنسبة 12 في المئة. من ناحيتها، أكّدت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في 23 آذار/مارس 2020 أنّ آثار الجائحة الاقتصادية السلبية ستتواصل لسنوات عدة، إذ إنّ عدداً من الاقتصادات الكبرى ستعاني من ركود قد يستمر لخمس سنوات، في حين ذكر بيان مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية أنّ بطء الاقتصاد الدولي خلال أربعة شهور قد كلّف التجارة الدولية ما قيمته ألف مليار دولار وتوقّع تقرير البنك الآسيوي للتنمية أنّ التكلفة العالمية للوباء قد تصل إلى 4.1 تريليونات دولار خلال 2020 لأنّ الوباء قد تراجع في شرق آسيا وتوقف في الصين، ثم تمركز منذ الربيع في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، وهذه الدول تساهم بأكثر من 45 تريليون دولار من الناتج العالمي وقيمته 83 مليار دولار، وأنّ ما يحصل في هذه الدول البالغة الأهمية من انكماش سينتشر على بقية العالم.

 

الأزمة الحالية أسوأ بكثير من أزمة البترول

 

لقد تبيّن سريعاً أنّ الأزمة الحالية هي أسوأ بكثير من أزمة البترول حيث تراجع النمو العالمي الحقيقي بنسبة 8 في المئة (من قمة 9.2 إلى حضيض 1.8 في المئة) في العامين 1973 و1974، ومن الأزمة المالية الآسيوية سنة 1998 عندما تراجع الاقتصاد العالمي بنسبة 5.5 في المئة (من 6.7 إلى 1.2 في المئة)، ومن الأزمة العالمية في 2008-2009 التي أحدثت تراجعاً بنسبة 4.2 في المئة (من 8.8 إلى 4.6 في المئة)، أمّا في أزمة كورونا فقد توقّع صندوق النقد أن يبلغ الانحدار 12 في المئة.

وعلى الرغم من التحرّك السريع للمصارف المركزية في الدول الصناعية الرئيسية لتخفيض أسعار الفوائد (مجلس الاحتياط الفدرالي في أميركا خفّض سعر الفائدة إلى الصفر) لاستعادة ثقة المستثمرين ولإجراءات اقوى من تلك التي اعتمدوها بعيد الأزمة المالية العالمية سنة 2008، إلا أنّ ذلك لم يمنع هبوط البورصات العالمية الرئيسية، حيث سجّل مؤشّر ستاندرد آند بورز هبوطاً بنسبة 15 في المئة[1]، وواجهت الشركات والمصانع حول العالم خسارة مداخيل مهمة بسبب إقفال أو تعثّر شبكات المواصلات وبسبب إغلاق المصانع وإجراءات الحجز الصحي التي تعرقل التجارة والحركة البشرية، وبلغ انهيار المعدّل المجمّع للبورصات الرئيسية في العالم نسبة 23 في المئة.

 

ارتفاع غير مسبوق في البطالة

والملايين يطلبون المعونة من الحكومات

 

لقد أدّت الإقفالات وتعطيل التجارة والسفر إلى ارتفاع غير مسبوق في البطالة وصل إلى عشرات ملايين الأفراد الذين قدّموا طلبات معونة من الحكومات، كما وجّهت حكومات العالم قدراتها المالية والنقدية بعيداً عن الأعمال التقليدية مثل الانفاق على البنى التحتية والاستثمارات وسواها لتستعملها في مواجهة الوباء وتعزيز الوقاية الصحية وغوث المواطنين المتضررين اقتصادياً، فقد أعلنت دول عدة ومنظمات دولية عن برامج انقاذية منها برنامج الاتحاد الأوروبي بقيمة 750 مليار يورو لتوزيعها على الدول الأعضاء المتضرّرة، في حين أعلنت بريطانيا عزم الحكومة على تعويض 80 في المئة من رواتب العمال الذين خسروا وظائفهم، وكانت حزمة إجراءات الولايات المتحدة هي الأكبر حيث أقرّ مجلس الشيوخ الأميركي برنامجاً بقيمة 2000 مليار دولار (2 تريليون) بما فيها توزيع شيكات لملايين العائلات الأميركية بقيمة 1200 دولار للعائلة، إضافة إلى معاشات 23 مليون عامل وموظف خسروا وظائفهم أخيراً وتسجّلوا في وزارة العمل الفدرالية. لقد وصلت البطالة في ربيع 2020 إلى 15 في المئة من أصل قوى عاملة أميركية هي 156 مليون شخص.             

إضافة إلى عدد الضحايا الذي كان يتفاقم باستمرار مع توقعات أن تصل الإصابات المعروفة إلى ثلاثة ملايين نسمة في منتصف نيسان/ابريل والوفيات إلى 250 ألفاً، توقّعت وكالة  FAO منظمة الاغذية الزراعة العالمية ومنظمة الإغاثة OXFAM في 9 نيسان/ابريل الماضي ازدياد عدد الفقراء في العالم بنحو 500 مليون شخص بسبب تدهور الاقتصاد العالمي نتيجة انتشار الفيروس، منهم 12 مليوناً في المنطقة العربية، ومعالجة هذا الأمر تحتاج إلى ضخ معونات مالية وعينية عاجلة إلى الدول الفقيرة أو التي يصيبها الإفقار، وتتضمن انقاذ الأُجراء الذين يخسرون وظائفهم وأصحاب الاعمال الذين أُقفلت أبوابهم، وكذلك تقليص ديون بعض الدول وتقديم حزمات دعم من صندوق النقد الدولي مع نصائح بفرض الضرائب على الأغنياء والأرباح الفاحشة والاستثمارات الريعية.

 

خيبة أمل في صيف 2020

 

في أيار/مايو 2020، اختلفت الآراء حول موعد نهاية الجائحة وانقسمت إلى معسكرين: الرأي الأول كان أنّ "كوفيد-19" هو فيروس ومن طبيعة جائحات الفيروسات السابقة في القرن العشرين أن تبدأ في الشتاء ثم تصل مداها في شهر أيار/مايو أو عندما يدفأ الطقس. وسيحصل الشيء نفسه هذا العام ويختفي "كوفيد-19" لبضعة أشهر، ولكنّه سيعود بشكل أخف وطأة في شهر تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، ولذلك على الحكومات اغتنام الفترة الدافئة كفرصة نقاهة تستمر 6 شهور لتكون الأمم أكثر استعداداً وللعثور على لقاح. وكان التحدي لأصحاب هذا الرأي هو العثور على لقاح فعّال خلال فترة قياسية وليس مجرّد أدوية مسكنّة، ولكن أصحاب الاختصاص الطبي والصيدلي أكّدوا أنّ العثور على لقاح فعال قد يحتاج إلى 12 وربما 24 شهراً، لسببين، أولاً أنّ الهند التي تنتج نصف الأدوية في العالم قد أقفلت مصانعها منتصف مارس الماضي وهي تعاني من انتشار الوباء بعدد إصابات ناهز الثلاثة ملايين، وثانياً لأنّ التجارب السابقة تقول إنّ العثور على لقاحات احتاج في الماضي إلى خمس أو عشر سنوات.    

وإذا كان الرأي الأول أعلاه ليس متفائلاً كفاية ويشوبه بعض القلق، فإنّ معسكر الرأي الثاني كان متشائماً ويقول إنّ انتشار الوباء سيستمر من دون توقّف حتى مع حلول فصل الصيف وأنّ من الأفضل استمرار الإقفالات والانتكاسات، ولكن في هذه الحال، رأت حكومات الدول الأكثر تطوراً – أوروبا الغربية والولايات المتحدة – أنّ الإقفال لم يعدّ ممكناً لأنّ الجزء الأعظم من فاتورة الوباء هو ليس في عدد الضحايا من وفيات وإصابات بل في تراجع اقتصاداتها وتقهقر الوضع المعيشي.

وبين الرأي الأول المخفّف والمتفائل والرأي الثاني القاتم، برز سيناريو وسطي أنّ الأزمة لن تكون طويلة وسيتعافى الاقتصاد الدولي مع بعض التموضعات والتغييرات الرئيسية طالما أنّ الأزمة تشابه الأجواء التي تسبق حرباً عالمية، ولكن أثبتت الأيام أنّ أصحاب الرأي الثاني المتشائم كان صائباً وعدد الإصابات قفز دراماتيكياً في الصيف.

 

خريف 2020 وتوقعات 2021

 

لقد كان متوقّعاً أن تتراجع جائحة "كوفيد – 19" لعوامل عدة منها:

 

أوّلاً: ضعف حدّة الفيروس في النصف الشمالي من الكرة الأرضية حيث يقيم معظم سكان الكوكب بسبب الطقس الحار.
ثانياً: نجاح الحكومات في ضبط الانتشار بفضل الإجراءات التي اعتمدتها.
ثالثاً: إمكانية التوصّل إلى علاج أو لقاح (أو وقاية جديّة) يحدّ من تأثير "كوفيد-19" وانتشاره.

على الأقل، كانت هذه العوامل مصدر التفاؤل الذي دفع الحكومات إلى بدء فتح  مطاراتها وحدودها واستقبال السيّاح والزائرين مجدّداً، إلا أنّ أياً من هذه الشروط الثلاثة لم يتوفّر، لا في شهر حزيران/يونيو ولا في شهر تموز/يوليو 2020، بل واصل مؤشّر الإصابات بالوباء في منحى تصاعدي في أنحاء العالم حتى وصل إلى 22 مليون إصابة وثمانية آلاف حالة وفاة تقريباً في أواخر شهر آب/أغسطس، مقارنة بأقل من 120 ألف إصابة في أواسط آذار/مارس 2020، وزاد الطين بلّة إعلان منظمة الصحة العالمية يوم الإثنين 27 تموز/يوليو أنّ "جائحة فيروس كورونا هي أخطر حالة طارئة أعلنتها على مستوى العالم منذ تأسيسها"، مشيرة إلى أنّ انتشار المرض تسارع في الصيف مع تقارير "الجائحة تواصل التسارع" وتضاعفت الإصابات مرّتين من 8 ملايين إلى 16 مليوناً خلال 6 أسابيع فقط، وتسارع الانتشار مؤكد، حيث وصل عدد الإصابات إلى ثلاثة أضعاف خلال 4 اسابيع في حلول نهاية شهر آب/أغسطس.

 

المنظمات المالية والاقتصادية الدولية

تسجل توقعات سوداوية تنبئ بتدهور حال الإقتصاد الدولي

 

بعد ان تبخّر الأمل بتحقيق العوامل الثلاثة أعلاه، سجّلت المنظمات المالية والاقتصادية الدولية توقعات سوداوية تنبىء بتدهور حال الاقتصاد الدولي وتعثّر التجارة وارتفاع عدد الفقراء من 500 مليون انسان – كما كان متوقّعاً في نيسان الماضي - إلى مليار بشري في حلول 2021، كما لم ينجُ أي قطاع صناعي في العالم من جائحة "كوفيد-9، في حين تراجعت الاقتصادات الرئيسية في العالم بنسبة 15-20 في المئة في النصف الأول من 2020، أمّا قطاع السفر والسياحة فقد كان الأكثر تأثّراً لأنّ الدول أقفلت على نفسها وحظرت التنقّل والطيران.

وتأكيداً على المنحى الانحداري، في 8 تموز/يوليو 2020 أعلن صندوق النقد الدولي عن ارتفاع مستويات الدين في الاقتصادات الناشئة والمتقدّمة على حدّ سواء، بسبب الإنفاق الموجّه لتنشيط الاقتصاد في ظل أزمة فيروس كورونا، وأضاف التقرير أنّه من المتوقع أن يتجاوز الدين العام العالمي الناتج المحلي الإجمالي وذلك بسبب الإجراءات التي اعتمدتها الحكومات في مواجهة الأزمة الصحية، فقد بلغت الديون السيادية في العالم في مطلع العام 2008 (قبل الأزمة المالية العالمية ذلك العام) 34 تريليون دولار (تريليون دولار يساوي ألف مليار أو ألف بليون دولار)، ثم أخذت ترتفع كل عام حتى وصلت إلى 70 تريليون دولار في 2019، أي إلى الضعف خلال عشر سنوات، في حين كان الناتج المحلي العالمي للعام 2019 أيضاً نحو 87.8 تريليون دولار وفق بيانات البنك الدولي  (أي أنّ نسبة الدين إلى الناتج المحلي العالمي بلغ 80 في المئة).

لقد توقّعت وكالة فيتش للتصنيفات الائتمانية أن الناتج المحلي العالمي بسبب جائحة كورونا سيتراجع إلى 80 تريليون دولار، فيما سيصعد إجمالي الديون إلى 76 تريليون دولار، أي أنّ نسبة دين ستوازي 95 في المئة من الناتج العالمي. وعلى هذا الأساس، ولتلافي انهيار العملات والاقتصادات في عدد كبير من الدول، ثّمة دول كثيرة تحتاج إلى إعادة هيكلة لديونها في أعقاب جائحة فيروس كورونا العالمية وتداعياتها الاقتصادية، وستكون هناك حاجة ملحة إلى تخفيف أعباء ديون الدول الأكثر فقراً في هذا العالم.

يقول "معهد التمويل الدولي" إن الدين العالمي المجمّع (أي السيادي والشركات والأفراد) قد زاد 10 تريليونات دولار خلال العام 2019 ليصل إلى ما يزيد على 255 تريليون دولار في كانون الأول/ديسمبر الماضي، توزّعت كما يلي:

 

الديون العالمية 2019 (تريليون دولار)

الحكومات الشركات والمؤسسات غير المالية القطاع المالي الأسر والأفراد مجموع ديون العالم
70 74.2 63.1 48 255


ولكن يتوقع المعهد أن يرتفع حجم الدين العالمي المجمّع إلى 306 تريليونات هذا العام، مدفوعاً بالانكماش الاقتصادي الذي سبّبته تداعيات كورونا وحاجة الدول إلى المزيد من الاقتراض لتحفيز اقتصاداتها. وفي الوقت نفسه، أوقفت الجائحة عمالة 375 مليون شخص حول العالم منهم 60 مليوناً في الولايات المتحدة الأميركية، كما إنّ تعطّل التجارة الدولية ووسائل النقل من طيران وبواخر وقطارات سيؤذي الاقتصاد العالمي بنسبة 18 في المئة وليس كما كان متوقعاً 12 في المئة.      

ويبقى أنّ تأثير الجائحة سيكون أشدّه على الدول الفقيرة، إذ تشير تقارير إلى أنّ 500 مليون شخص في العالم سيخسرون مصدر رزقهم ويصبحون في طبقة الفقراء، ما يستوجب إجراءات عاجلة من الدول الغنية للدول النامية والفقيرة. عدد كبير من الدول النامية أغلقت قطاعات كاملة في اقتصادها الضعيف ما أدّى إلى تسريح جماعي لذوي الدخل المنخفض، وحال انعدام الاستقرار في هذه البلدان وربما اندلاع اعمال عنف قد تصل إلى تغييرات أساسية.

 

الصين واميركا

 

على الصعيد الأمني، تشبه جائحة الفيروس حرباً عالمية ثالثة، ما دفع الدوائر الامنية والدبلوماسية منذ آذار/مارس 2020 إلى تقصّي الانعكاسات السلبية الكبيرة على الكوكب من ركود اقتصادي وانهيار شبكات الأمان الصحي والاجتماعي، وهذه الظروف كانت هي نفسها في ثلاثينات القرن العشرين وساهمت في اندلاع الحرب العالمية الثانية التي أنتجت نظاماً عالمياً جديداً. ويذهب السيناريو القاتم إلى احتمال وقوع انهيار طويل الأمد وفشل الشبكة الصحية والاجتماعية وشلل الأمن من ضبط النزاعات الأهلية.

لقد تخلّفت ​واشنطن​ عن دورها الريادي وبدت فاشلة في قيادة الحرب ضد الوباء حتى في أميركا نفسها، فهي تمثّل 25 في المئة من الناتج الاقتصادي العالمي ولكن على صعيد الوباء بلغت نسبة الإصابات والوفيات فيها 30 إلى 40 في المئة من المجموع العالمي في حين أنّ عدد سكانها لا يزيد على 4 في المئة من عدد سكان الكرة الأرضية، إذ رغم طاقاتها المالية والاقتصادية وتفوقها الطبي والتكنولوجي، فشلت فشلاً ذريعاً في احتواء الجائحة، في حين انتصرت دول مثل آيسلاند وكوريا الجنوبية والسويد وألمانيا، ولا يقتصر الأمر على الاقتصاد حيث تراجعت القطاعات الصناعية في الولايات المتحدة بنسبة 6 في المئة خلال أسابيع قليلة ثم بنسبة 15 في المئة خلال ستة شهور، بل ثمّة تراجع في القدرات الأميركية على التدخل العسكري حول العالم، لأنّ حاملات الطائرات والاساطيل الضخمة هي أساس التدخّل، و"كوفيد-19" وصل إلى طاقم أربع حاملات طائرات جعلها  خارج الخدمة، وبقي واحدة فقط في المحيط الهندي، كما تمّ تجميد معظم أنشطة الجيش الاميركي باستثناء القوات الجوية. وفي المقابل برزت الصين سواء في سرعة مكافحة الوباء على أراضيها وعودة عجلة اقتصادها وانتقالها إلى مساعدة الدول الأخرى، في مقابل غياب اميركي شبه كامل، ولكن هذا لا يعني صعود الصين وتراجع أميركا.

حتى العام 2020، كانت الصين مرشّحة لريادة اقتصاد العالم، ولكن بسبب الفيروس دفعت الصين ثمناً اقتصادياً باهظاً في النصف الأول من 2020 بسبب آثار الفيروس وتراجع نمو اقتصادها، ورغم أنّ الصين نالت إعجاب العالم في سرعة ضبط انتشار الفيروس وبعدد قليل من الإصابات والوفيات نسبياً، وعادت إلى تدوير عجلاتها الاقتصادية الضخمة، فإنّ تراجعها بقي مستمراً لأسباب خارجة عن إرادتها، فهي تغلّبت على انتشار الفيروس واستعادت العجلة الاقتصادية بسرعة مدهشة، ولكن العالم خارجها قد تغيّر بسبب أزمة الفيروس، وحصل هبوط حاد في الطلب العالمي على بضائعها وخدماتها، ما فرض تدهوراً في انتاج مصانع الصين هو الأعمق منذ 30 سنة، وبديهي أن الطلب العالمي ليس مقتصراً على البضائع الاستهلاكية من الصين بل أيضاً على البضائع التي تدخل في عجلة الانتاج الصناعي في عدد كبير من الدول حول العالم وحتى في الدول الصناعية الكبرى، وانقطاع مثل هذه السلع يعني توقّف عشرات آلاف المصانع حول العالم عن الانتاج. 

 

المنطقة العربية

 

تراوح وقع الجائحة اقتصادياً بين بلد وآخر في المنطقة العربية. فالدول التي تتمتّع بقطاعات طاقة منتجة والتي نجحت في تطوير بنيتها التحتية في العقود السابقة كانت أوفر حظاً من الدول العربية التي لا تتمتّع بالثروات أو تواجه حروباً وأزمات.
إنّ ركود اقتصادات العالم لشهور عدة بسبب الوباء قد خفّض الطلب على ​النفط والغاز​، وأوجد منافسة عالمية بين مصدّري النفط والغاز في العالم، وفاقم في الوضع خطوة السعودية في زيادة الانتاج بكميات ضخمة في 6 مارس الماضي ما دفع سعر البرميل للهبوط بنسبة 30 في المئة في يوم واحد، إذ بعد ان كان سعر برميل النفط يناهز 70 دولاراً في نيسان/ابريل 2019، وهبط بنسبة 17 في المئة في كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير 2020 بسبب تراجع الطلب العالمي، أتت خطوة السعودية في زيادة الانتاج لتدفع السعر إلى هاوية سحيقة حيث انتهى إلى 20 دولاراً في 30 آذار/مارس 2020، أي نسبة هبوط خلال آذار/مارس هي 40 في المئة.

وإذ تحسّن السعر في مطلع نيسان/ابريل الماضي مع التوصّل إلى توافق على خفض الكميات المطروحة في مجموعة أوبك + بنحو 10 ملايين برميل يومياً، وارتفع إلى حافة 28-30 دولاراً للبرميل، عاد للإنتكاس مجدداً بسبب أزمة "كوفيد-19" إلى 20 دولاراً للبرميل في 15 من الشهر نفسه[2]. لقد تعرّضت أسواق النفط للضغوط في ظل تراجع الطلب على الخام بسبب جائحة كورونا وتدابير العزل التي اتخذتها حكومات الدول الرئيسية المستهلكة للطاقة للحدّ من انتشار الفيروس، حتى إنّ مخزونات الولايات المتحدة أظهرت ارتفاعاً غير ملحوظ إلى 504 ملايين برميل بسبب تقليص شركات التكرير نشاطها وانخفاض طلب المصانع والعامة نتيجة جائحة فيروس كورونا، وتأثير ذلك سيكون شديداً على اقتصادات السعودية وقطر والكويت وعُمان ولكن بدرجة أقل بكثير على الإمارات والبحرين لأنّ هذين البلدين قد نجحا منذ عشرين عاماً وبخاصة منذ 2015 في تنفيذ خطوات تنويع القاعدة العسكرية.

أمّا بالنسبة الى الدول العربية الأخرى، فقد حذّر الصليب الأحمر الدولي من أنّ تفشي فيروس كورونا في المنطقة العربية يهدّد بتدمير حياة ملايين الأشخاص أولاً في الدول التي تعاني من صراعات ما قد يفجّر اضطرابات اجتماعية واقتصادية، وثانياً في الدول التي تعاني أصلاً من وضع اقتصادي ومالي صعب ولكنّها اضطرت إلى فرض إجراءات حظر التجول والعزل في إطار تدابير الحفاظ على الصحة العامة وكبح انتشار الفيروس، ما يجعل من الصعب توفير سبل العيش أمام المواطنين. والدول العربية المعرّضة لأخطار شديدة هي اليمن وسورية والعراق وفلسطين (خصوصاً قطاع غزة) ولبنان والأردن، وأنّ على السلطات في هذه البلدان الاستعداد "لتداعيات مدمِّرة محتملة" و"زلزال اجتماعي واقتصادي". إنّ تداعيات جائحة "كوفيد-19" على الدول العربية جدية حتى في حال دول مجلس التعاون الخليجي رغم احتياطاتها المتتالية واستقرارها وبنيتها التحتية المتطورة وأنظمتها الصحية والإجتماعية، وهي قد تكون كوارثية - كما أشار تقرير الصليب الأحمر الدولي - في دول المشرق العربي الأخرى.

 

الخلاصة

 

نصل إلى استنتاجين، الأول يقول: حتى لو انتهى الوباء أو تلاشى مفعوله في خريف العام الحالي أو في شتاء 2021 (يناير – مارس)، فهذا لا يعني تحسّناً فورياً في الاقتصاد، ذلك أنّ قلق البشر وإجراءات الحكومات سيستمران لشهور إضافية حيث تحتاج قطاعات الصناعة والسياحة والسفر والتجارة إلى أربعة شهور على الأقل للتعافي داخل كل بلد أو بين بلدان متجاورة، كما إنّ التعافي يتراوح بين قطاع وآخر وقطاعات قد تحتاج إلى فترات أطول لتخرج من محنتها، إذ يحتاج قطاع السفر والسياحة بين دول بمسافات بعيدة إلى ستّة شهور على الأرجح (بين أوروبا وأوستراليا واليابان مثلاً) ليعود إلى نشاطه السابق. ولأن مقياس تعافي القطاعات يكون العودة إلى مستويات انتاج ونشاط شهر تشرين الثاني /نوفمبر 2019، فالعودة إلى النشاط ستكون تدريجية على مدى عام كامل.
والاستنتاج الثاني، إنّ أي مؤشرات دولية جديدة كتلك التي كانت متفائلة قبل شهور قد غابت، فلم يعد ثمة حديث عن انفراج في تشرين الاول/اكتوبر 2020 بل الكلام الكثير أنّ موسم البرد في تشرين الثاني /نوفمبر سيحمل موجة ثانية من الفيروس، إذ رغم أنّ حكمة الإدارة الأميركية ومعظم حكومات الدول الغربية (باستثناء ألمانيا والسويد وكندا وبدرجة أقل فرنسا) قد دعت إلى إنقاذ الاقتصاد على حساب كلفة الصحة العامة (وهذا هو السبب الحقيقي لرفع الحظر في صيف 2020)، فإنّ ارتفاع عدد الإصابات في الصيف ودعوات الإقفال على أبواب الخريف يعني أنّ الأضرار الاقتصادية للجائحة متّجهة للتفاقم في الأشهر المقبلة، وربّما ستستمر طوال العام 2021 حتى لو تراجع الفيروس مجدداً في ربيع 2021 أو تمّ اكتشاف لقاح ناجح وفعال يمكن توزيعه عالمياً بسرعة.   

 


[1] يعتمد مؤشر ستاندرد آند بورز هذا المؤشر على معدّل أسعار 500 سهم أكبر الشركات.S&P500

[2] WTI West Texas Intermediate oil barrel falls to $19.67 on April 15, 2020.