"أرماني" بعد جورجيو
"أرماني" بعد جورجيو
-
أولا- الاقتصاد والأعمال
رحيل جورجيو أرماني عن عمر يناهز الحادية والتسعين شكّل لحظة فارقة في تاريخ الموضة العالمية، ليس فقط لأنه أحد أعمدة صناعة الفخامة والرفاهية، بل لأن إلامبراطورية التي بناها منذ منتصف السبعينات تقف اليوم أمام مفترق طرق حقيقي. أرماني لم يكن مجرد مصمم أزياء، بل كان رمزاً لفلسفة في الأناقة جعلت من البساطة رفاهية ومن الراحة أسلوب حياة. الرجل الذي رفض مراراً الانضواء تحت لواء المجموعات العملاقة مثل LVMH و Kering، وفضّل أن يحافظ على استقلالية علامته، ترك وراءه مؤسسة صلبة وهياكل قانونية رسمت بدقة ملامح ما بعد غيابه، لكنه ترك أيضاً فراغاً هائلاً لا يمكن أن يُملأ بسهولة.
منذ العام 2016 أنشأ مؤسسة جورجيو أرماني ليؤمن الاستمرارية كما يراها هو وليضمن أن تبقى العلامة وفية لروحها، بعيدة عن الاستحواذات، وأن تبقى العائلة والمقربون هم من يقودون الدفة. وقد بدا واضحاً في وصاياه وتصريحاته الأخيرة أن هاجسه الأكبر كان انتقال القيادة من بعده من دون أن تتحول اللحظة إلى انقطاع أو قطيعة مع روح وتاريخ وتراث المؤسسة، بل إلى مسار طبيعي يحمل بصمته ويطورها في آن واحد. هذا الهاجس يعكس إدراكه العميق لصعوبة المرحلة المقبلة، حيث تواجه صناعة الفخامة والرفاهية ضغوطاً لم تعهدها منذ عقود، من أبرز عناوينها: تباطؤ النمو في الأسواق الآسيوية، تغير أذواق الأجيال الجديدة، وصعود منصات رقمية غيّرت قواعد اللعبة.
اليوم، بينما تتأهب شقيقته روزانا وابنتا أخته سيلفانا وروبرتا، إلى جانب ابن شقيقه أندريا كاميرانا وبعض المقربين مثل بانتسالي ديلوركو، لحمل الشعلة، تقف الشركة أمام اختبار مزدوج: كيف تحافظ على الهوية التي صنعها أرماني بلمساته الرصينة، وفي الوقت نفسه كيف تعيد ابتكار نفسها لتواكب المنافسة الشرسة التي تقودها كيانات ضخمة واخرى صاعدة بمفاهيم جديدة؟ الأمر ليس سهلاً، خصوصاً وأن الأداء المالي للشركة في السنوات الأخيرة لم يكن في أفضل حالاته، ما يفتح باباً واسعاً للتساؤلات حول مستقبلها واستراتيجياتها المقبلة.
الاستقلالية او التبعية؟
ولعل التجارب السابقة في بيوت الموضة الكبرى تقدم إشارات مهمة لما قد ينتظر أرماني بعد رحيل مؤسسها، فعائلة "فيرساتشي" على سبيل المثال عاشت سنوات من الارتباك بعد اغتيال جياني فيرساتشي العام 1997، إذ وجدت نفسها أمام مسؤولية ضخمة في الحفاظ على هوية جريئة ارتبطت بشخصية مؤسسها، لكنها لم تتمكن من الحفاظ على الزخم المالي طويلاً، ما اضطرها لاحقاً إلى بيع حصص استراتيجية لمستثمرين خارجيين وصولاً إلى استحواذ مجموعة "كابري هولدينغز" عليها. أما "ديور"، فقد واصلت مسيرتها بفضل إصرار قيادات جديدة على احياء روح المؤسس من خلال أسماء مبدعة مثل "إيف سان لوران" ثم "جون غاليانو"، لتثبت أن العلامة يمكن أن تستمر بل وتزدهر إذا ما وُجدت قيادة قادرة على إعادة تفسير الإرث بروح جديدة. وفي حالة "شانيل"، فإن وفاة غابرييل (كوكو) شانيل لم تضعف العلامة بل فتحت الباب لمرحلة ذهبية تحت قيادة كارل لاغرفيلد الذي حافظ على روح المؤسِسة وأضاف إليها لمسة عصرية جعلت "شانيل" أحد أقوى أسماء الفخامة في العالم. هذه النماذج تكشف أن مصير العلامات بعد وفاة مؤسسيها يتوقف على قدرة الورثة أو القادة الجدد على إيجاد توازن بين الحفاظ على الإرث وإعادة ابتكاره بما يتناسب مع العصر، وهو التحدي الأكبر الذي يواجه أرماني اليوم.
ابتكار أم تحول الى متحف ذكريات؟
ما يميّز أرماني أن استقلاليته لم تكن مجرد خيار مالي بل فلسفة كاملة. لقد بنى علامته على رفض المبالغة، وعلى تقديم بديل أنيق عن الترف المفرط الذي ساد الموضة في الثمانينات. هذه الفلسفة لا تزال لها جاذبية قوية، لكن الحفاظ عليها في عالم بات يطلب التجديد المستمر ويستهلك الصيحات والموجات بوتيرة غير مسبوقة يتطلب ذكاءً استثنائياً وخيالاً واسع. التحدي الأكبر أمام الورثة والادارة القائمة هو كيف يظلون أوفياء لجوهر العلامة من دون أن يتحولوا إلى متحف لذكريات مؤسسها، وكيف يبتكرون من داخل فلسفته ما يضمن بقاء أرماني لاعباً أساسياً في عالم الفخامة.
الأسئلة المطروحة كثيرة: هل يمكن لأرماني أن يظل مستقلاً إلى الأبد أم أن ضغوط السوق ستدفع الشركة في النهاية نحو تحالفات أو شراكات؟ هل ستستطيع العائلة الحفاظ على وحدة القرار في ظل مصالح متباينة، خصوصاً وأن قوانين المؤسسة تمنحهم قوة تصويتية كبيرة؟ وهل سيظل المستهلك الشاب، الذي تربى في عالم رقمي وسريع الإيقاع، يجد في البساطة الكلاسيكية لأرماني ما يشبع ذوقه ورغبته في التميز؟ كيف تواجه "أرماني" وغيرها من بيوت الموضة العالميين الصعود الآسيوي في هذه الصناعة.
في النهاية، ما يعيشه بيت "أرماني" اليوم هو اختبار لواحدة من أكثر القصص نجاحاً في تاريخ الموضة: قصة رجل بدأ حياته كبائع بسيط في متجر، ليصبح رمزاً عالمياً للذوق الإيطالي. رحيله يفتح فصلاً جديداً، قد يكون مليئاً بالصعوبات، لكنه أيضاً مليء بالفرص. فإذا ما نجحت المؤسسة والعائلة في الجمع بين الوفاء للإرث والتجديد المبدع، فإن "أرماني" لن يكون مجرد اسم من الماضي، بل علامة قادرة على إعادة تعريف الأناقة لسنوات طويلة مقبلة.
الأكثر قراءة
-
"رينج روڤر" تكشف عن طراز SV كاربون: مزيج من الأداء الفائق وخفة الوزن
-
الرئيس عون في افتتاح مؤتمر "الاقتصاد الاغترابي الرابع" يدعو لدبلوماسية اقتصادية تفتح للبنانيين أبواب العمل والاستثمار
-
صافي أرباح "يلا" الإماراتية يرتفع 16.4% في الربع الثاني 2025
-
"أوكيو للاستكشاف والإنتاج" تسجّل نمواً قوياً في النصف الأول من 2025
-
"روتانا" تطلق منصة تشغيلية من الجيل الجديد