عبد الله السعودي… إرث مصرفي عربي عالمي لا يزول برحيل صاحبه

  • 2025-09-26
  • 12:03

عبد الله السعودي… إرث مصرفي عربي عالمي لا يزول برحيل صاحبه

  • كتب فيصل أبوزكي

رحيل عبد الله السعودي يُمثل خسارة كبيرة للقطاع المصرفي العربي وللتجربة الاقتصادية الحديثة في المنطقة. كان رجلاً استثنائياً صنع من حلمه الشخصي مؤسسة مصرفية عربية عالمية تركت بصمة واضحة في المنطقة، وجعلت اسمه مرادفاً للعصامية والرؤية الاستشرافية  والمهنية المصرفية. لم يكن مجرد مصرفي ناجح، بل كان صاحب مشروع نهضوي يسعى إلى تعزيز موقع العرب ليس فقط في الصناعة المصرفية بل ايضا في الاقتصاد العالمي، وإلى تأسيس كيان مصرفي قادر على المنافسة في الساحات المالية الكبرى.

وُلد السعودي في ليبيا، لكنه اختار البحرين لتكون مقر مسيرته المصرفية. هناك أسّس المؤسسة العربية المصرفية عام 1980، بعد أن نجح في إقناع ليبيا وأبوظبي والكويت بالمساهمة في مشروع كان بمثابة مغامرة جريئة: إنشاء مصرف عربي عالمي في وقت كان فيه القطاع المصرفي العربي محلي الطموح ويفتقر إلى الحضور الدولي الوازن. بفضل رؤيته الثاقبة وعلاقاته الواسعة، تمكن من أن يجعل من المؤسسة العربية المصرفية نموذجاً للمصرفية العابرة للحدود، عبر استحواذات في إسبانيا وهونغ كونغ وتأسيس بنوك في الأردن وتونس والجزائر وغيرها.

ما ميّز عبد الله السعودي لم يكن مجرد القدرة على بناء مؤسسة مصرفية كبرى، بل إيمانه العميق بأن النجاح يقوم على ثلاثة ركائز: الإمكانات المالية، رأس المال البشري، والمعرفة الفنية. لذلك حرص على استقطاب كفاءات عربية وأجنبية رفيعة المستوى، ووضع ثقته في جيل من المصرفيين الذين تخرجوا من عباءته، ليصبحوا لاحقاً قادة في مؤسسات مصرفية عربية ودولية. وقد تمكّن المصرف تحت قيادته من تجاوز أزمات عالمية كبرى مثل أزمة ديون أميركا اللاتينية وغيرها، وظل متمسكاً بصلابة الرؤية على الرغم من تقلب الظروف.

ومع أن العقوبات الأميركية على ليبيا أجبرته على الاستقالة عام 1994، إلا أن خروجه من المؤسسة لم يُنهِ مسيرته ولا مسيرة المؤسسة. استمرت المؤسسة  واستمر  السعوديي في العمل الاستثماري عبر شركته الخاصة، وشارك في صفقات وشراكات كبيرة مع مستثمرين في المنطقة، وظل مرجعاً مصرفياً وماليا يحظى بالاحترام والثقة. وحاول بعد سقوط نظام القذافي أن يعود إلى بلاده ليساهم في إعادة البناء، لكن الأوضاع المضطربة حالت دون ذلك، فعاد إلى البحرين ليستكمل نشاطه بهدوء، حاملاً معه خبرة استثنائية وإرثاً لا يضاهى.

لقد ترك عبد الله السعودي أثراً يتجاوز حدود المصرف الذي بناه. فقد نقل العمل المصرفي العربي من الاعتماد على الدولة والتركيز المحلي إلى ثقافة الإدارة المهنية والحوكمة والتطلع الى العالم، وغرس قيم الاحتراف في عالم كان بحاجة إلى هذه المعايير. إنه يمثل نموذجاً للرجل العصامي الذي لم يرضَ بأن يكون متلقياً للتطورات، بل صانعاً لها، ومبادراً في اقتحام الأسواق العالمية في وقت لم يجرؤ فيه الكثير على التفكير بمثل هذه الخطوة.

برحيله، يغلق باب عصر استثنائي من الريادة المصرفية العربية. يبقى عبد الله السعودي في الذاكرة رمزاً لرجل آمن بأن العرب قادرون على تأسيس مؤسسات مالية تضاهي كبريات البنوك العالمية، وأثبت ذلك بالفعل. سيظل اسمه محفوراً في تاريخ المال العربي، ليس فقط كمؤسس لمصرف عالمي، بل كقائد أعطى المثال على أن الطموح والعصامية يمكن أن يصنعا انجازات فارقة. رحم الله عبد الله السعودي رحمة واسعة، وجعل إرثه شاهداً على أن الرجال الكبار يرحلون بأجسادهم، لكن أعمالهم تبقى.