لبنان وصندوق النقد في انتظار "غودو"!

  • 2020-12-12
  • 11:23

لبنان وصندوق النقد في انتظار "غودو"!

المواطنون تكبّدوا الأكلاف مسبقاً.. ماذا عن الدولة ؟

  • علي زين الدين

 

في الطريق الى "الجحيم" الموعود، يتبصر المواطنون اللبنانيون تباعاً حقائق مذهلة كانت الى أمد قريب موضع شكوكهم وجدلياتهم. ومن المرجح انكشاف المزيد في قادم الأيام مع قرب نفاد المسكنات الموضعية التي وفّرها مصرف لبنان لأهل الحل والربط، بدءاً من شراء الوقت في حماية الاستقرار النقدي في لبنان وانتهاء بآخر "سنت" سيتم انفاقه على دعم موصوف بالاستغلال والسرقة والتهريب في أغلب سلعه، وباللاعدالة المطلقة في وصله كاملاً الى مستحقيه من الفقراء والمعسورين.

فعلى مدى سنوات، تبارى المسؤولون في حبك مظلة منيعة فوق اقتصاد البلاد، ليس اعترافاً بالفساد والمحاصصة وتقاسم "الأخضر" وتجفيف عروقه، بل بذريعة حماية الناس من " آلام وصفات" صندوق النقد الدولي. المثير انهم تناغموا في تقديم هذه الطروحات كجوقة محترفة ومتعاونة في أداء لحن "الافقار والفوضى" الوارد من المؤسسة الدولية في واشنطن. ولم يفتهم الاستدلال بتجارب دول عانت والحقت الضيم بشعوبها جراء الشروط المسبقة لانسياب " التدخل المالي الخارجي".

بالتجربة المتواصلة، أدرك اللبنانيون، أو غالبيتهم على الأقل، ان ما بلغوه من هوان وشظف العيش في اشهر معدودات، فاق بأضعاف ما يطلبه الصندوق وفق برنامج محدد يتم الاتفاق على تنفيذه خلال سنوات، انما يسير بهم الى الضوء في نهاية النفق. وبمعزل عن استعادة التخويف و"التهويل" بالآتي الأعظم، بات انكشاف السلطة ساطعاً للعيان محلياً ودولياً، وذاب ما يكفي من "الثلج الأسود" ليتحسس الناس أي قعر انزلقوا "غصباً" اليه بأيدي "حماتهم".

في الوقائع، تركّزت مخاوف المواطنين على "الليرة "، فالصندوق جاهر بانتقاده للإستمرار في سياسة الاستقرار النقدي من دون مقابلته بموارد خارجية تكفل تغطية الحاجات المالية بالعملات الصعبة لبلد وصل اجمالي مستورداته الى 20 مليار دولار سنوياً ، فيما تتقلص، بشكل صريح ومتسارع، الاستثمارات الوافدة وتقل التحويلات الواردة من لبنانيين عاملين في الخارج ومغتربين.

كان يمكن للدولة ومؤسساتها أن ترد الصاع بصاع من وزنه عبر خيارين لا ثالث لهما. فإما تعالج الأسباب السياسية والادارية لانكفاء الرساميل الوافدة وهي في الأغلب خليجية، من خلال اظهار الجدية والموضوعية في انتظام المؤسسات وسيادة القانون واستقلالية القضاء والنأي بالبلد عن المحاور وصراعات المنطقة، وإما تعتمد منهجية متدرجة للخروج الطوعي من استراتيجية تثبيت النقد، بالتوازي مع خطة منصفة لتعويض أصحاب المداخيل المتدنية.

واقع الأمر، أن التحكم في القرار و "الكيدية" السياسية أحبطا تماماً الخيار الأول، ثم اجتمع "القوم" على معاندة أي خيارات بديلة، طالما أن دجاجة البنك المركزي "تبيض" دولارات رغم الكلفة الكبيرة لجمعها وإعادة انفاقها في "مزاريب" عجز الكهرباء وتضخيم الاستيراد المدعوم، والذي يجري تبديد مبالغه تقاسماً وتفخيخاً للفواتير ومتاجرات عبر الحدود واحتكارات وتهريباً في السرّ والعلن.

النتيجة ساطعة كما الحقيقة. التهويل بنية الصندوق تصحيح سعر الصرف، تحول الى سقوط حر لليرة بصناعة محلية بحتة. فقد اللبنانيون 80 في المئة من مداخيلهم، ثم فقد أغلبهم نصف المدخول. والمحزن أن مئات آلالآف فقدوا عملهم في القطاع الخاص، وخسر نحو 300 ألف من موظفي القطاع العام النسبة عينها من تقلص القدرة الشرائية، وبما يشمل "مكتسبات" السلسلة التي " تمتعوا " بها عامين متتاليين.

ولأن الهم بالهم يذكر، فقد شكل دعم السلع الاستراتيجية (محروقات ودواء وقمح) بالسعر الرسمي للدولار ( 1515 ليرة ) والسلع الأساسية بسعر المنصة ( 3900 ليرة )، الذريعة الجاهزة لتخويف اللبنانيين من "وصفة الصندوق"، وكان في الظن أن "صاحب" النقد سيتدبر أمور التمويل وهندسته، بعدما انساب يسيراً انفاق اكثر من 5 مليارات دولار على الدعم هذا العام، وحتى لو قضى بانفاق آخر ذخائر الاحتياط الالزامي للودائع.

بالنتيجة، تم تبديد أقصى مبلغ يمكن أن يناله لبنان من خلال برنامج تمويلي مع صندوق النقد لمدة 3 سنوات، وتدفقت أغلب المواد المدعومة بغزارة الى مقاصد لا تخص الناس، وطرفت "العيون" الى أمانة الـ 15 في المئة المودعة الزامياً في البنك المركزي من أصل مدخرات المودعين بالدولار في المصارف البالغة نحو 113 مليار دولار، والعاصية بدورها بالصرف بعملة الايداع او التصريف بالسعر الواقعي للدولار البالغ نحو 8200 ليرة حالياً.

أيضاً، أفشوا الهلع في نفوس موظفي القطاع العام. الصندوق يعارض الكلفة المرتفعة التي تستهلك نحو 6.5 مليارات دولار ( بالسعر الرسمي ) سنوياً، ويطالب بتحجيم الوظائف في الادارة والاسلاك والمصالح، ومجرد الاستجابة لشروط الصندوق ووصفاته سيعني الاستغناء عن آلاف العاملين و" المسترزقين" من الدولة.

الحقيقة، أن انتفاخ القطاع العام يستحيل أن يتم ذاتياً ولا بمعجزة "الحبل بلا دنس". فالحشو والتحايل بما يزيد على 35 ألف توظيف جديد في السنتين الأخيرتين، تم على عينك يا "خادم" الدولة بالعلم والكفاءة والذود عن أمنه. هي عينها الأغراض مصالحية والانتخابية وضرب القوانين والتشريعات والتوصيات بعصي واضعيها، والأنكى أن يتم هذا الانحراف بالتوافق والمحاصصة.   

وبعد،

تكبّد الناس كامل كلفة تدخل الصندوق مضاعفة. وهم يدركون أن أكلافاً أشد ألماً سترد اليهم تباعاً من أبواب الصحة والتعليم والاتصالات . فتدحرج الدومينو يشمل كل القطع من الليرة الى وسط الترتيب ليبلغ خط النهاية ..

وحتى إشعار آخر، سيسعى أصحاب القرار الى التنصل من مسؤولياتهم وواجباتهم. فمن أفتى بأن الحوكمة ومكافحة الفساد وسد مزاريب الهدر والتهرب والتهريب وسيادة القانون واستقلالية القضاء هي أولويات في برامج التمويل الدولية ؟ . وأليس كافياً أن يحمل الناس الذين ارتضوا خسارة مدخراتهم ومداخيلهم القليل المتبقي من الأثقال ..؟؟

يقتضي التنويه: مفاوضات لبنان مع الصندوق "معلقة" على تأليف حكومة جديدة والتقدم بخطة عمل جديدة وموحدة وتأليف فريق عمل لبناني جديد وموحد.. هي خطوات عادية في بلد عادي ... أما في بلد الاستثناء، فربما يصبح "غودو" كائناً حقيقياً ويقرر طوعاً التحول الى سراب، بديلاً من المشاركة في المسير الى "الجحيم".