المكاسب الاقتصادية للسلام الخليجي الايراني تواجه حائط العقوبات

  • 2023-04-18
  • 16:30

المكاسب الاقتصادية للسلام الخليجي الايراني تواجه حائط العقوبات

لا أفق اقتصادية لإيران قبل فك منظومة العقوبات

  • "أوّلاً- الاقتصاد والأعمال"

 

يعتبر توقيع الاتفاق الصيني السعودي الإيراني في العاصمة الصينية بكين في العاشر من آذار/مارس 2023 حدثاً تاريخياً بكل ما للكلمة من معنى، وذلك على الرغم من أن العائد الإيجابي من هذا الاتفاق لكل من الأطراف الموقعة، قد يأخذ بعض الوقت قبل أن يتجلّى بكل أبعاده. فما هو العائد الاقتصادي الذي يمكن لإيران ولدول الخليج أن تحققه من مرحلة سلام طويل ومن بناء الثقة وانفتاح أبواب التعاون الشامل في المنطقة؟

 

 

إقرأ أيضاً:

قطار بكين السريع: اتصال شي وبن سلمان واتفاق الرياض وطهران

     

     

    منعطف استراتيجي

     

    يتسم الاتفاق الصيني السعودي الإيراني الذي وقع في العاصمة الصينية في 13 آذار/مارس الماضي بأهمية فائقة للغاية لأنه يعتبر أول انفراج سياسي حقيقي في العلاقات الخليجية الإيرانية منذ 43 عاماً، أي منذ تسلم الثورة الإسلامية مقاليد الحكم في إيران العام 1979. وليس خافياً أن عقود الصراع وما رافقها من حصار دولي للنظام الإيراني وإنفاق هائل على الجيوش والحروب والأسلحة شلت مسيرة التطور الاقتصادي في إيران كما جعلت مرود الاستثمار في التنمية في الخليج اقل مما يمكن تحقيقه فيما لو كان هناك سلام حقيقي مع إيران يمكن ان يطلق طاقات كامنة في التبادلات الاقتصادية من تجارة واستثمار وسياحة. 

    في الواقع، فإن السعودية وإيران حاولتا في السابق معالجة خلافاتهما عبر توقيع اتفاقات للتعاون الاقتصادي والأمني في كل من العامين 1998 و2001، إلا أن هذين الاتفاقين لم يفلحا في التأسيس لعلاقات طبيعية بين البلدين بل شهدنا في 14 أيلول/سبتمبر 2019 تصعيداً غير مسبوق تمثل في الهجوم بالصواريخ الباليستية والمسيرات على منشآت تصدير النفط السعودي في المنطقة الشرقية وتصاعد الادوار الاقليمية لإيران. وهذا الهجوم الذي عطل بصورة مؤقتة 5 في المئة من طاقة تصدير النفط السعودي أدى إلى تحول جذري في التفكير الاستراتيجي السعودي في مجموعة عناوين رئيسية:

    1. إن الولايات المتحدة لم تعد حليفاً استراتيجياً ولا ضامناً موثوقاً لأمن المملكة العربية السعودية.
    2. إن واشنطن لم تعد تعتبر الاعتداء على النفط السعودي تهديداً لأمنها نظراً لأنها استغنت عن النفط السعودي (والخليجي) تقريباً وباتت مكتفية ذاتياً بل هي تتجه لأن تصبح دولة مصدرة للنفط في العام 2023 بحسب تقرير لوكالة رويترز. (راجع الرسم البياني).
       
       
       
    3. إن تراجع المصالح النفطية الأميركية في الخليج أطلق العنان في واشنطن لنفوذ ما سمي بالمحافظين الجدد في عهد الرئيس بوش الابن، وهو تيار يعتقد بأن مصلحة واشنطن هي في نشر الفوضى الخلاقة في المنطقة وإذكاء الصراع بين إيران (الشيعية) ودول الخليج (السنية) ثم استخدام ذلك الصراع لدعم مصالح إسرائيل في المنطقة ورفع مبيعات الاسلحة في المنطقة. وقد برز تأثير هذا التيار في غزو العراق في العام 2003 ومن ثم في الحملات المتزايدة على السعودية وتخفيض موضوع الأمن الخليجي إلى درجة ثانوية جداً من الأهمية كما برز في رد الفعل الفاتر لواشنطن إزاء العدوان الشامل الذي تعرض له قلب الصناعة النفطية السعودية.
    4. إن عدم إمكان الاعتماد على واشنطن لتوفير "سياج حماية" للنهضة الاقتصادية السعودية جعل من الضروري إعطاء الأولوية للتوصل إلى "اتفاق سلام" أو "تنظيم الخلاف" طويل الأمد مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
    5. إن أي اتفاق مع إيران يمكن ان لا يكتسب القوة التنفيذية الطويلة الأجل وان يكون عرضة للنقض في اي وقت كما حصل مع اتفاقات سابقة بالنظر للصراعات الدائمة داخل بنية السلطة الإيرانية وعدم بروز استراتيجية سلام إيرانية ثابتة أو استراتيجية واضحة لتطوير قوة إيران الاقتصادية حتى الوقت الحاضر، الامر الذي يتطلب تطبيعاً شاملاً لعلاقات إيران مع الغرب والامتثال لمعاييره السياسية والاقتصادية والامنية والقانونية.

     

     

    التحول السعودي باتجاه الصين

     

    إن العوامل السابقة مجتمعة شجعت المملكة على التحول باتجاه الدولة العظمى الثانية وهي الصين وتوقيع معاهدة الشراكة الاستراتيجية الشاملة معها في ديسمبر من العام الماضي وذلك في ختام زيارة رسمية تاريخية للرئيس الصيني تشي جينبنغ إلى السعودية التقى خلالها قادة الدول العربية والخليجية.

     

     

    يجب علينا التوقف أمام حقيقة مهمة وهي أن المدة الزمنية بين توقيع معاهدة الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين السعودية والصين في 8 أيلول/ديسمبر 2022 وبين اتفاق "المصالحة" السياسية بين السعودية وإيران في 10 مارس 2023 لا تزيد على ثلاثة أشهر، كذلك يجب التوقف عن حدث لا يقل أهمية لا يمكن فصله عن الاتفاق الصيني السعودي الإيراني في بيجنغ وهو توقيع معاهدة الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الصين وبين الجمهورية الإسلامية الإيرانية في 27 مارس من العام 2021 في العاصمة الصينية أيضاً والتي حددت مدتها بـ 25 عاماً وأهم أهدافها استثمار أكثر من 280 مليار دولار لتطوير صناعة النفط والغاز الإيرانية. وهذه الاتفاقية المهمة جداً لم تعط الاهتمام الكافي وخصوصاً البند المالي الذي يسمح للصين بأن تدفع ثمناً لمشترياتها من النفط الإيراني باليوان ثم البند الدفاعي الذي قبلت فيه إيران بتأجير الصين جزراً إيرانية في الخليج يتوقع أن تكون في البداية قاعدة لقوة صينية من 5,000 عسكري وفني. ويلاحظ أيضاً إن اتفاقية الشراكة الاستراتيجية تجعل إيران شريكاً في مشروع الحزام والطريق الصيني مثلما أن اتفاق الشراكة الاستراتيجية بين الصين والسعودية جعل المملكة أيضاً شريكاً في هذا المشروع الاستراتيجي ذي الأهداف البعيدة الأمد.

     

     

    قد يهمك:

    أوبك والولايات المتحدة وثمار الاتفاق السعودي الإيراني

       

      إن السرد السابق يستهدف تسليط الضوء على أن الاتفاقية الصينية السعودية الإيرانية لم تأتِ من فراغ، بل جاءت كنتيجة لتزايد الثقل الصيني الاقتصادي والدبلوماسي في منطقة الخليج (في أعقاب التخلي الأميركي التدريجي) والتي جعلت من الصين شريكاً استراتيجياً لاثنين من أكبر دول النفط في المنطقة وأكسبتها دوراً محورياً في ترتيب العلاقات والأدوار المستقبلية بين هاتين الدولتين وبين دول المنطقة بصورة غير مباشرة.

      لكن وبينما تتسارع الخطوات لإعادة فتح السفارتين السعودية والإيرانية في عاصمتي البلدين ولرفع منسوب الثقة بين البلدين، فإن السؤال الكبير المطروح الآن هو ما هي العائدات أو المكاسب الاستراتيجية والاقتصادية التي يمكن لكل من طرفي الاتفاق أن يحققاها في المديين القريب والطويل؟.

      الجواب يقع في عدد من الحقائق الأساسية:

      الحقيقة الأولى: هي أن الصين استخدمت ثقلها الاستراتيجي المتزايد وحجم الاعتماد الإيراني عليها لدفع طهران للقبول بإنهاء النزاع مع السعودية باعتبار أن ما يثيره النزاع من اضطرابات أمنية وعدم استقرار سياسي بات يمس بمصالحها الاستراتيجية في المنطقة، أي أن الصين لم تدخل مع الجانب الإيراني كوسيط بل دخلت كشريك حيوي في اقتصاد إيران المحاصر وكدائن كبير يريد أن يضمن استرداد دينه المتزايد.

      الحقيقة الثانية: هي أن اتفاق المصالحة الذي يمكن أن يترجم قريباً بحل النزاع اليمني وإحلال السلام في اليمن، يمنح المملكة (بضمانة الصين) مكسباً استراتيجياً بالغ الأهمية هو الأمن الطويل الأمد وخصوصاً أمن النفط وامن الاستقرار ويوفر بالتالي مناخ الاستقرار والانفراج الذي تحتاجه المملكة للمضي بكل قوة ببرنامج التحول الاقتصادي والاستثمارات الضخمة في مختلف قطاعات الاقتصاد وفق رؤية 2030. لقد ضمنت المملكة بديلاً قوياً ومهماً لتراجع الحماية الأميركية لأمنها، وهو ما ظهر في أكثر من مناسبة بالتهديدات الأميركية بسحب مظلة الصواريخ كما ظهر في رد الفعل الأميركي الفاتر تجاه العدوان المدمر على منشآت تصدير النفط في أبقيق في 14 أيلول/سبتمبر 2019 والاجواء السلبية التي تثقل نظرة الادارة الاميركية الحالية الى السعودية منذ تولي هذه الادارة زمام الامور في واشنطن.

      الحقيقة الثالثة: رغم أجواء الانفراج التي سيولدها اتفاق المصالحة، فإن السؤال الكبير سيبقى كيف يمكن لإيران أن تستفيد من الانفراج الإقليمي في ظل منظومة عقوبات متجذرة أدت إلى عزل قطاعاتها الاقتصادية والنفطية والمالية والمصرفية عن العالم؟ وهل سيمكن لإيران أن تحقق المكاسب من المناخ الإيجابي للمصالحة قبل التوصل إلى معالجة الملف المعقد لبرنامجها النووي وبالتالي رفع اللائحة الطويلة من العقوبات الأميركية والدولية عليها؟

      الحقيقة الرابعة: هي أن العيش في ظل اقتصاد عسكري وفي ظل نظام عقوبات مستمر منذ عقود متواصلة أدى إلى تشوهات هيكلية ونواحي ضعف عديدة في الاقتصاد الإيراني بحيث بات غير مؤهل للتعامل الفعّال مع السوق الدولية، بما في ذلك الاقتصادات القوية والتنافسية لدول الخليج وغيرها في العالم، وهذا يعني أنه حتى لو قررت النخبة الحاكمة في طهران الانضمام مجدداً إلى النظام العالمي (بعد رفع الحصار)  فإنها ستحتاج إلى سنوات يتم خلالها إعادة نظر شاملة في البيئة القانونية والسياسية والتنظيمية كما ستحتاج إلى خلق بيئة شفافة والقدرة على استقطاب المستثمرين.

      الحقيقة الخامسة: هي أن إيران تستفيق اليوم على حقيقة أن التوظيف السخي في الجيوش والميليشيات والتقنيات العسكرية المتطورة والتركيز على برنامجها النووي أدى إلى تكبيدها تكلفة باهظة على شكل مداخيل نفطية ضائعة وتأخر متزايد في استقطاب التقنيات والاستثمارات الضرورية لتطوير الاقتصاد، وأدى التركيز الأحادي الجانب على القوة وسياسات بسط النفوذ إلى ضعف متزايد في الاقتصاد وإلى حصار عالمي لإيران تستفيد منه الآن دولة كبيرة مثل الصين التي أصبح في إمكانها أن تحصل على النفط الإيراني بخصم لا يقل عن 30 في المئة، بل أن السياسات المكلفة للاستثمار في النفوذ بدأت تؤثر على درجة سيطرة ايران على مواردها الطبيعية عبر اتفاقات اعطت الصين مثلاً نفوذاً كبيراً على قطاع النفط الايراني يتمثل بامتيازات غير مسبوقة بما في ذلك حق الأفضلية للشركات الصينية على الشركات الدولية في تنفيذ مشاريع النفط والمشاريع الضخمة المندرجة ضمن مبادرة الحزام والطريق.

      إن إيران تجد نفسها في مأزق لأن عليها (ربما بمعاونة مباشرة من السعودية ودول الخليج) أن تجد وسيلة لترجمة الاتفاق مع السعودية إلى مكاسب قريبة ومباشرة في التجارة والاستثمار ومثل هذه المكاسب تساعد على تحسين الاقتصاد الإيراني وإراحة النظام داخلياً وتقديم الدليل على أنه أخذ - مثل أطراف الاتفاق الأخرى- حصته من الصفقة، لكن هذا الامر لن يكون يسيراً في ظل منظومة العقوبات التي تحاصر الاقتصاد الايراني وقبل النجاح في بناء الثقة مع المملكة وباقي دول الخليج والمساهمة في تبريد الساحات الاقليمية (اليمن، العراق، سوريا، لبنان..) وايجاد حلول لأزماتها والانهيارات السياسية والاقتصادية غير المسبوقة التي تشهدها.

      الحقيقة السابعة: إن دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية تريد العمل بكل جدية لترجمة اتفاق المصالحة إلى أكبر قدر ممكن من المبادلات الاقتصادية والتجارية والاستثمارات لأنها تريد أن تعطي لإيران ما يكفي من الحوافز للحفاظ على الاتفاق وتعزيز الانفراج وتدعيم العلاقات الإيرانية الخليجية في المدى الطويل، إلا أنه وبالنظر للقيود الشديدة المفروضة على الاقتصاد الإيراني وعلى التعاملات المالية والبنكية مع إيران، فإن هذه الدول تواجه تحدي إيجاد السبل لتنمية العلاقات التجارية والاستثمارية مع إيران لكن من دون الاصطدام بحاجز العقوبات، ومن السبل المحتملة هنا، التنامي التدريجي لاستخدام العملات المحلية أو عملات أخرى في المبادلات التجارية بين الدول أو مساعي عدد من الدول أو منظمة بريكس لإطلاق عملة مدفوعات واحتياط جديدة خارج منظومة الدولار وهي آليات لم تثبت فعاليتها العملية بعد.

       

       

       

      يمكنك المتابعة:

      الاتفاق السعودي الإيراني: لكي ينتج الشرق الأوسط الطاقة وتصديرها بسلام

         

         

       

      ميزة الاقتصادات الخليجية

       

      تتميز الاقتصادات الخليجية باندماجها الكبير في الاقتصاد العالمي وعلاقاتها الاقتصادية الممتازة مع الولايات المتحدة الاميركية واوروبا والصين وروسيا وباقي القوى الاقتصادية العالمية بما فيها البلدان النامية الرئيسية مثل الهند والبرازيل وغيرها، وهي تملك بنى تحتية وقطاعات مالية متطورة هي بين الافضل في العالم ولديها فوائض مالية كبيرة تديرها صناديق سيادية في غاية الاحتراف، كما يلعب القطاع الخاص دوراً فعالاً في النشاط الاقتصادي، وبالتالي فإن دول الخليج يمكنها رفد الاقتصاد الايراني بالاستثمار والخبرات العالمية في قطاعات مهمة مثل الطاقة التقليدية والمتجددة والبتروكيماويات والسياحة والخدمات اللوجيستية والاقتصاد الرقمي. بالإضافة للاستفادة من الاستثمارات الخليجية، يمكن لإيران زيادة الاستفادة من القدرة الشرائية المرتفعة في الاسواق الخليجية لزيادة صادراتها الى هذه الاسواق. وفي المقابل يمكن لبلدان الخليج الاستفادة من طاقاتها التصديرية المتنامية لزيادة صادراتها التي هي سوق كبيرة متعطشة للمزيد من المنتجات.

       لكن مهما حاولت دول الخليج تجاوز القيود الأميركية والدولية المفروضة على التجارة والتعاملات المالية مع إيران والمؤسسات الإيرانية، فإن هذه الجهود الخلاقة لا يمكنها توفير بديل عن توصل إيران إلى تسوية قريبة حول برنامجها النووي تؤدي إلى رفع الحصار عن اقتصادها، وإطلاق دينامية شاملة تعود فيها طهران إلى موقعها المفترض في الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية، وتصبح شريكاً موثوقاً مع بلدان المنطقة والقوى الاقتصادية العالمية مثل الولايات المتحدة وأوروبا واليابان وغيرها.