البنوك المركزية الكبرى تنأى بنفسها عن صنع السياسات المناخية

  • 2023-01-12
  • 12:15

البنوك المركزية الكبرى تنأى بنفسها عن صنع السياسات المناخية

رداً على مطالبات بدور أكبر لها في ملف "التغيّر المناخي"

  • رشيد حسن


البنوك المركزية الأوروبية خصوصاً أمام مشكلة لم تكن في الحسبان. فهذه البنوك التي تأسست لتنفيذ سياسات تحقق الاستقرار النقدي والمالي، وتكبح جماح التضخم وتساعد على تحقيق النمو الاقتصادي، وجدت نفسها فجأة مدعوة لمهمة جديدة وضعتها جماعات الضغط المناخي، وهي تطبيق سياسات نقدية تساهم في مواجهة التغيّر المناخي ونتائجه السلبية على الاقتصاد والمؤسسات. وبالطبع، وكما كان متوقعاً، فإن هذا المطلب لم يجد بالضرورة آذاناً صاغية من الجميع. وهناك مصارف مركزية رفضت مجرد فكرة خلط السياسات النقدية للبنك المركزي مع اقتراحات عمومية، تحتاج المزيد من الادلة العلمية الحاسمة.

مواقف صارمة

من المواقف البارزة التي تصدت لمحاولة لوبي المناخ التدخل في السياسة النقدية موقف رئيس مجلس الاحتياط الفدرالي الأميركي جيروم باول الذي أشار بلهجة حاسمة إلى أن البنك المركزي الأميركي لن يجعل من نفسه "صانعاً للسياسات المناخية"، ويتدخل بالتالي في ما يتعدى التفويض المعطى له من الكونغرس الأميركي وهو إدارة السياسة النقدية.

هذا الموقف تبناه أيضاً محافظ البنك المركزي البلجيكي بيار وونش الذي قال إن التعامل مع أزمة المناخ هو مسؤولية الحكومات، وأي حديث يوحي بأن البنوك المركزية مسؤولة عن تمويل الانتقال الأخضر لنشاطات التمويل أعتبره سوء فهم للدور المناط بهذه المؤسسات.

وبرز أيضاً موقفان رافضان لتدخل لوبي المناخ في عمل البنوك المركزية، الأول عبّر عنه محافظ البنك المركزي البريطاني (بنك أوف إنغلاند) أندرو بايلي الذي صرّح قبل يومين بأن لجنة السياسات النقدية في البنك لا شأن لها بوضع سياسات تبنى على التأثير المحتمل للتغير المناخي.

وتبعه في ذلك الموقف رئيس بنك اليابان المركزي الذي شدّد على أن أي قرارات تتعلق بالسياسات النقدية، يجب أن تبقى ملتزمة بالتكليف المحدد لهذه المصارف مما يفرض عليها تجنّب الإضرار بالحياد التام لواضعي السياسات تجاه عمل الأسواق المالية.

أين القضية؟

ومن الواضح أن البنوك المركزية المنشغلة حالياً بمكافحة التضخم تواجه ضغوطاً من ناشطي المناخ الذين باتوا يتحكمون بشبكة واسعة من المؤسسات الأممية والحكومية وغير الحكومية، ويلقون دعماً من أحزاب سياسية ومن وسائل اعلام رئيسية وهو ما مكّنهم من فرض أجندة المناخ بقوة وإعطاء أهدافها أولوية شاملة.

لكن إذا كان مفهوماً أن تكون المسؤولية عن الحدّ من آثار التغير المناخي تتطلب سياسات محددة من الحكومات، فإنه لم يتضح بعد ما الذي يمكن للبنوك المركزية المناط بها مهمات مالية ونقدية أن تفعله في هذا المجال. ومن مراجعة بعض المواقف الداعية لدور البنوك المركزية في موضوع المناخ، يلاحظ قدر كبير من العمومية والطرح الافتراضي للمقترحات خصوصاً في ما يتعلق بدور البنوك المركزية في التعامل مع الأضرار والخسائر التي يتوقع أن تنتج عن التغير المناخي، إذ يطلب من هذه البنوك بلورة سياسات متكاملة لتقدير الأخطار وتقييم الأضرار المادية التي يمكن أن تنجم عن كوارث المناخ، ومن ثم وضع مجموعة سياسات الهدف منها مساعدة البنوك والمؤسسات والشركات والأفراد على احتواء تلك الأضرار. والمشكلة هي أن كل هذه المقترحات مبنية على فرضية أن العالم بدأ يشهد "أحداثاً مناخية غير عادية"، لكن من دون أن يتمكن أي من المحللين من إعطاء أمثلة محددة على أحداث مناخية من نوع جديد تسببت فعلاً بخسائر جسيمة للشركات أو المستثمرين أو إثبات وجود رابطة سببية حاسمة بين تلك الأحداث وبين التغير المناخي. وبالطبع، فإن السؤال الذي يطرحه البعض هو أولاً: هل هناك فعلاً أحداثاً مناخية غير عادية عند مقارنة مسار المناخ الأرضي الحالي مع حقبات سابقة؟ وكيف يمكن إثبات الصلة بين ما يجري من أحداث مناخية مثل الأعاصير والفيضانات أو موجات الصقيع وبين التغيّر المناخي المفترض؟

ويمكن لأي متابع أن يقرأ أطروحة شاملة عن هذا الموضوع مبنية بكاملها على افتراضات ولم تقدم ورقة عضو مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي أنّا شانابل التي حظيت بدعاية واسعة مثالاً واضحاً يشرح طبيعة المخاطر التي تشير إليها. وقد اقترحت شانابل وضع مجموعة سياسات بناء على "سيناريوات" افتراضية للأضرار أو الأحداث المناخية الشديدة وليس بناء على أمثلة حقيقية وقعت في السنوات الأخيرة، وهو ما تفعله عادة شركات التأمين والخبراء الاكتواريين المختصين بتقدير احتمالات الأضرار بهدف تحديد أقساط التأمين التي تفرضها الشركات.   

"تهديد وجودي"؟

وتطغى على تلك الأوراق تعابير درامية مثل اعتبار التغير المناخي "تهديداً وجودياً"  وبسبب هذا الطرح المتكرر، فقد تم خلق إطار دولي سمي" شبكة تخضير النظام المالي" ngfs التي انطلقت بثمانية أعضاء في العام 2017 إلا أنها أصبحت حالياً تضم 95 عضواً و15 مراقباً بما في ذلك البنوك المركزية الكبرى كافة وصندوق النقد الدولي الذي انضم إلى الشبكة كمراقب في العام 2019.

ورغم أن قضية المناخ مطروحة، وتحتاج إلى جهود حقيقية، إلا أن هذه الشبكة غير الحكومية تقدم مثالاً عن التكاثر السريع للمنظمات والمؤسسات الدولية المعنية كلها بموضوع المناخ، وتؤلف في ما بينها شبكة من الخبراء والباحثين والناشطين والبيروقراطيين الذين توفر قضية المناخ لهم تأثيراً متزايداً في المجال الحكومي والدولي.

واللافت للانتباه أخيراً هو أن النقاش أثير في وقت تواجه البنوك المركزية تحدي السيطرة على أعلى معدلات تضخم يعاني منها الاقتصاد العالمي منذ 40 عاماً، وهو ما جعل المسؤولين النقديين يتخوفون من أن يسبب طرح لوبي المناخ للبنوك المركزية إرباكات تصرفها عن دورها الأساسي وهو إدارة السياسة النقدية وحماية الاستقرار المالي والاقتصادي.