منظمة التجارة العالمية باقية لكن دورها الى تراجع

  • 2024-03-24
  • 13:36

منظمة التجارة العالمية باقية لكن دورها الى تراجع

الامارات نجحت بإبقاء القضايا المستعصية على سكة التفاوض

  • فيصل أبوزكي

 

نجحت الامارات العربية المتحدة بإبقاء القضايا الأساسية للتجارة في العالم على سكة التفاوض بعد جولات شاقة وحثيثة من المباحثات التي جرت خلال المؤتمر الوزاري الثالث عشر لمنظمة التجارة العالمية الذي انعقد أخيراً في ابوظبي وشارك فيه قرابة 4 آلاف من كبار المسؤولين الحكوميين من اكثر من 200 بلد ومنظمة عالمية. واهمية اجتماع الامارات ليست فقط في ما تمكن من تحقيقه بخصوص تمديد قرار تعليق الرسوم على التبادل الالكتروني (Electronic Transmissions) الى حين الاجتماع الوزاري المقبل في 2026، والتأكيد على التزام المؤتمر الوزاري الثاني عشر بإعادة تفعيل نظام تسوية المنازعات ليكون متاحاً بشكل فعال لجميع الاعضاء خلال 2024، واعتماد اتفاقية لتسهيل الخدمات المحلية (Plurilateral Agreement) والتي جاءت نتيجة مبادرة مشتركة شاركت فيها 71 دولة ومرت من دون اعتراض من الهند وجنوب افريقيا، بل في انها ابقت التفاوض قائماً على القضايا الرئيسية العالقة منذ اجتماع الدوحة في العام 2001 مثل اصلاح المنظمة والزراعة والتنمية ومصائد الاسماك وغيرها بانتظار مناخات جيوسياسية وعالمية افضل.

وهذا يعني ان محاولات البت بمواضيع حيوية تهدد فعالية هذه المنظمة التي تضم 166 عضواً مسؤولة عن 95 في المئة من التجارة العالمية والتي يتم عبرها تطوير وتطبيق قواعد التجارة العالمية، وكذلك البت في النزاعات التي تنشأ نتيجة تطبيق هذه القواعد او عدمه ستبقى حية، وان كانت الواقعية تتطلب إبقاء التوقعات من حدوث اختراقات وشيكة ضمن الحدود الدنيا. وتتضمن اجندة اعمال الاجتماع مواضيع عالقة مثل إصلاح الدعم الزراعي وآلية تسوية المنازعات وهيئة الاستئناف المعطلة عن العمل نتيجة فقدانها النصاب، وأيضاً إصلاح عمليات المنظمة لتصبح أكثر فعالية وسهولة في التعامل اليومي معها، هذا بالاضافة الى مواضيع مستجدة مثل التجارة الرقمية وكيفية التعامل معها ضريبياً وجمركياً وتنظيم انسياب البيانات وحماية الخصوصية، وايجاد تعريف اكثر تحديداً لبند استخدام الأمن القومي كمبرر للإجراءات التجارية التقييدية والحمائية. فمثلاً، زاد عدد الاجراءات التجارية التقييدية في العالم من نحو 650 إجراء في العام 2017 إلى أكثر من 3000 اجراء في العام 2023، فيما زادت التعرفة الجمركية على تجارة البضائع بين الصين والولايات المتحدة من ثلاثة الى ستة اضعاف منذ العام 2017.  وتحمل المنظمة الأعباء الثقيلة لهذه المواضيع منذ فشل دورة مفاوضات الدوحة في العام 2001 في التوصل الى اتفاق نهائي حولها. وفي الوقت الذي يستعجل فيه البعض نعي دور المنظمة كمنظم للتجارة العالمية ويشكك بقدرتها على ايجاد الحلول للتحديات الجمة التي تواجهها، يعتقد بعض آخر أن دور المنظمة لا يزال مطلوباً اكثر من أي وقت مضى لتوفير مرجعية أساسية متعددة الاطراف لقواعد التجارة ولحسم المنازعات التجارية ومنع تحولها إلى حروب وتفادي تشرذم التجارة العالمية وتعدد وتضارب المعايير والمرجعيات في ظل مناخ عالمي ضاغط سياسياً واقتصادياً، وجنوح المزيد من الدول والمجموعات الى الدخول في اتفاقات للتجارة الحرة تتناسب مع سياساتها وحاجاتها وتموضعها الاقتصادي والجيوسياسي.

 

يأتي هذا كله على خلفية توترات جيوسياسية وجيواقتصادية عميقة بين الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة من جهة، والصين ومعها عدد من البلدان النامية من جهة اخرى، وما يجري من تحولات لإعادة تشكيل التدفقات التجارية العالمية ومعها سلاسل القيمة والامداد ولاسيما بين ما يمكن تسميته بالممرات التجارية العالمية الرئيسية (Trade Corridors) والتي يترافق معها تبني سياسات نشطة جديدة لدعم بناء سلاسل امداد محلية او صديقة جغرافياً  وجيوسياسياً تقتضيها اولويات الأمن القومي اكثر منها الجدوى الاقتصادية. وتثير هذه التوجهات المخاوف من شرذمة التجارة والقواعد التي تعمل عليها من خلال منظمة التجارة العالمية والعودة الى الاعتماد على الاجراءات الحمائية والتقييدية المشابهة للتجارة، كما إن العديد من البلدان النامية والأقل نمواً (Least-Developing Countries) تبدي تشدداً في المفاوضات الحالية لاعتقادها بأن نتائج جولة الاورغواي، التي انطلقت على أساسها منظمة التجارة العالمية، كانت بالمجمل لمصلحة البلدان المتقدمة وانها تستحق المعاملة التفضيلية والخاصة التي تنص عليها قواعد المنظمة، بالإضافة الى إعادة الهيكلة المستمرة لسلاسل القيمة، بدأت التجارة العالمية للبضائع تشهد تباطؤاً في نموها مقارنة مع نمو الناتج المحلي العالمي وتمركزاً اكبر لبعض القطاعات.

 

عصرنة المنظمة وحل معضلة نظام تسوية المنازعات

 

لم تؤد الدعوات المتصاعدة إلى ضرورة إدخال اصلاحات على طريقة عمل المنظمة اليومي بهدف جعل مشاركة الاعضاء أسهل واكثر فعالية من دون تغيير ميزان  الحقوق والواجبات بين الاعضاء الى اي اتفاقات محددة خلال اجتماع ابوظبي. وتتضمن الاقتراحات التي جرت مناقشتها في الاجتماع الوزاري الثالث عشر تحسين العمل اللوجيستي لاجتماعات المنظمة وتسهيل عملية الابلاغ عن التغييرات الحاصلة في سياسات وقوانين الاعضاء التي تؤثر على التجارة بهدف تحسين الشفافية، وكذلك تسهيل وتسريع النقاش حول القضايا التي تثار عن السياسات التجارية للبلدان الاعضاء. وفيما تكتسب هذه الاصلاحات أهمية في تحسين عمليات المنظمة وافادة الاعضاء منها، فإن الاصلاح الاكبر هو في نظام تسوية المنازعات الذي ابدى الاعضاء بخصوصه التزاماً بايجاد نظام متكامل يعمل بشكل جيد لمصلحة كل الاعضاء قبل نهاية 2024. ومن الواضح ان المفاوضات الحثيثة بهذا الخصوص لم تؤد الى اتفاق محدد وبقي تجديد الالتزام بإعادة تفعيل النظام غامضاً وفاقداً لأية اجراءات عملية في الوقت الذي لا تزال فيه هيئة الاستئناف معطلة. وتكمن المشكلة الاكبر في هيئة الاستئناف التي توقفت عن العمل منذ 2019 نتيجة افتقارها للنصاب بسبب التعطيل الأميركي لتعيين اعضاء جدد لخلافة الاعضاء المنتهية ولاياتهم ما ادى الى فراغ كامل في عضوية الهيئة. وإذا كانت ادارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قد أظهرت تشدداً كبيراً تجاه المنظمة وعطلت تعيين اي عضو جديد في الهيئة، فإن التغيير في الموقف الاميركي من الهيئة بدأ مع ادارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك اوباما، ولا يزال مستمراً في عهد الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن. وفي حين لم تطرح الولايات المتحدة أي اقتراحات محددة لمعالجة النقاط التي اثارتها ضد نظام تسوية المنازعات تتمحور الشكاوى الاميركية حول النقاط التالية:

  1. اعتماد تقارير الهيئة كسوابق مستقبلية اي اكتساب الهيئة صفة تشريعية.
  2. تجاوز الهيئة لتفويضها الاساسي وهو التأكد من قرارات اللجان المرفوعة اليها التزمت بقواعد المنظمة وليس اعادة بحث حيثياتها، 3) اصدار آراء استشارية في قضايا ثانوية ليست في صلب القضايا المستأنفة.
  3. اعادة النظر في حيثيات تقارير اللجان وبخاصة بما يخص تفسير القوانين المحلية.
  4. تجاوز الهيئة مدة الـ 90 يوماً المنصوص عليها في نظام المنظمة للبت في القضايا المطروحة امامها.
  5. استمرار عمل الاعضاء المنتهية ولاياتهم على القضايا التي يتولونها. ويعكس الموقف الاميركي من هيئة دور هيئة الاستئناف ومنظومة تسوية المنازعات بشكل عام حساسية تاريخية من وجود اية منظمات او مرجعيات خارجية فوق القانون الاميركي، وهذا كان من الاسباب الرئيسية لعدم مصادقة الكونغرس الاميركي في العام 1947 على اتفاقية تأسيس منظمة التجارة الدولية وعدم انضمام الولايات المتحدة الى محكمة العدل الدولية مثلاً.

ربما تنجح المقترحات المطروحة حول هذه الجوانب او بعضها، لكن حتى ذلك الحين، بدأ بعض الدول الاعتماد على آليات بديلة للمساهمة في حل النزاعات الناشئة واهمها ترتيب التحكيم المؤقت المتعدد الاطراف للاستئناف (Multi-Party Interim Appeal Arbitration Arrangement) الذي يمكنه تأمين استمرارية عمل نظام تسوية المنازعات من دون القدرة على الاستئناف الى حين الوصول الى اتفاق جديد حول هيئة الاستئناف. ويبلغعدد الاطراف المنضوية تحت هذا الترتيب الاختياري 50 بلداً في الوقت الحالي، وهناك اليوم العديد من الاقتراحات المطروحة للتوصل الى تسوية في هذا المجال وإعادة تفعيل هيئة الاستئناف.

 

الزراعة: عقدة العقد

 

لا تزال الزراعة على قائمة اولويات التفاوض في منظمة التجارة العالمية منذ التوصل الى اتفاقية الزراعة في جولة الاورغواي في العام 1994. وقد بدأ التفاوض على اتفاقية جديدة منذ جولة الدوحة في العام 2001، وساهمت قضايا عدة في افشال المفاوضات المعقدة التي جرت خلال دورة الدوحة، لكن بقيت الزراعة الموضوع الرئيسي الذي حال دون التوصل الى النتائج المرجوة من تلك الدورة. وبالتحديد تمحور الخلاف حول الدعم المقدم للقطاع الزراعي وللصادرات الزراعية والعوائق امام النفاذ الى الاسواق (Market Access) وحق الدول في دعم الانتاج الزراعي لغرض تأمين المخزون الضروري للأمن الغذائي. وتمثل انظمة الدعم المختلف الاشكال للقطاع الزراعي موضع خلاف رئيسي بين الدول الاعضاء التي لا يزال القطاع الزراعي فيها يكتسب اهمية خاصة، ان كان من حيث مساهمته في الأمن الغذائي وفرص العمل والناتج المحلي أو من حيث التأثير الذي يمارسه المزارعون في العملية الانتخابية والمجتمعات المحلية.  ويشهد معظم البلدان الاوروبية تظاهرات متواصلة منذ عام لمزاريعها الذين يطالبون باستمرار الدعم وتخفيف القيود البيئية المتصاعدة على القطاع، وكذلك درجة الالتزام بالمعايير التي حددتها السياسة الزراعية المشتركة للاإحاد الأوروبي. وتشير معلومات منظمة التجارة العالمية الى ان حجم تجارة المنتجات الزراعية وصل الى اكثر من 1.48 تريليون دولار اميركي في نهاية العام 2022، في حين بلغت قيمة الدعم المقدم الى المنتجين نحو 630 مليار دولار سنوياً ما بين العامين 2020 و 2022. ولم تؤدِ جهود المفاوضين في ابوظبي للتوصل الى مسودة قابلة للتفاوض وبقيت المواقف متباعدة. وتأتي الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي والهند على رأس الدول التي تعارض اية تعديلات جوهرية في الدعم وفي طريقة معاملة بناء المخزون لغرض الأمن الغذائي. وهناك مواقف تطالب بتفاوض شامل حول القضايا كافة للتوصل الى اتفاق جديد، في حين تشدد مواقف أخرى على ضرورة التركيز على القضايا القابلة للحل. بالنسبة إلى الدعم، تقترح دولاً رئيسية مصدرة للسلع الزراعية خفض الدعم المقدم حالياً بنسبة 50 في المئة، في حين تدعو دول أخرى إلى خفضه الى النسب الدنيا التي تجعل تأثيره السلبي على التجارة محدوداً، كما يصر بعض الدول وعلى رأسها الهند على التمسك باتفاق اجتماع بالي في العام 2013 الذي سمح للدول بشراء المنتجات الزراعية من المزارعين بأسعار مدعومة بغرض دعم الأمن الغذائي من دون تعرضها لمساءلات قانونية لانتهاكها قواعد منظمة التجارة العالمية في خصوص الدعم.

 

 

من يصنّف الدول.. ومن يستحق المعاملة التفضيلية؟

 

وفقاً لنظام منظمة التجارة العالمية فإن للدول الاعضاء الحق في تصنيف نفسها كدول متقدمة او نامية او اقل تنمية، من دون ان يكون هناك معايير ومتطلبات محددة للالتزام بها. وفيما يفترض ان تتمتع الدول الاعضاء بالحقوق والواجبات نفسها، فإن الانتماء الى تصنيف البلدان النامية والاقل تقدماً يحمل معه معاملات خاصة وتفضيلية (Special and Differential Treatment)، وهو ما تعترض عليه البلدان المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة ولاسيما في ما يتعلق بتصنيف الصين لنفسها كدولة نامية. وفوق ذلك، تعترض الولايات المتحدة على النظام الاقتصادي الموجه الذي تتبناه الصين باعتباره يتناقض مع مبادئ تحرير التجارة التي تنادي بها اتفاقات منظمة التجارة العالمية. وليس من الواضح كيف يمكن التوصل الى اتفاق في خصوص إعادة النظر في نظام التصنيف الحالي واي معايير اقتصادية واجتماعية وبشرية جديدة يمكن اعتمادها ومن الجهة او الجهات المخولة اقتراح هذه المعايير الجديدة. ولا تبدو هذه المسألة قابلة للحل في الوقت القريب خصوصاً في ظل حالة الاستقطاب السائدة في العالم حالياً وتصاعد حدة الاحتكاك السياسي والاقتصادي والتجاري بين الصين والولايات المتحدة الاميركية والحرب في اوكرانيا وكذلك الحرب على غزة واصرار البلدان النامية على المحافظة على العلاقة بين تصنيفها والمعاملة التفضيلية والخاصة التي تحظى بها. ويعزز هذا الموضوع التساؤلات المطروحة حول دور التجارة في التنمية. فالكثير من البلدان النامية يشعر بأنه لا يستفيد بما فيه الكفاية من فتح اسواقه وانه بحاجة الى المزيد من الدعم لتطوير بناه التحتية وانظمته وطاقاته المؤسساتية والبشرية للاستفادة مما تقدمه العضوية في المنظمة، كما ان هناك مطالبات بتسهيل انضمام الاعضاء المتقدمين للعضوية وجميعهم من البلدان النامية، وأيضاً مساعدة البلدان الاقل تنمية في العبور الى تصنيف البلدان النامية. علماً أن التنمية كانت العنوان الأساسي لدورة الدوحة التي لم تصل الى خواتيمها المنشودة.

 

 

هل يمكن المواءمة بين تنمية التجارة ومكافحة التغير المناخي؟

 

يوماً بعد يوم تتصدر أجندة مكافحة التغير المناخي اولويات النقاش في المحافل والمنظمات الدولية مع جنوح العديد من الدول والمنظمات الى التطرف في مطالبها ولاسيما لناحية التخلي عن استخدام الوقود الاحفوري والفحم الحجري، والانتقال بالكامل الى الطاقات المتجددة المتوافرة حالياً من دون الاخذ في الاعتبار الواقع الحالي للعرض والطلب وكيفية تأمين انتقال عادل ومنظم وتدريجي. وبما ان الانتقال الى عالم متدني الانبعاثات يتطلب جهوداً كبيرة لتعديل وسائل الانتاج والتوزيع والاستهلاك ونقل البضائع، فإن ادخال معايير مناخية الى التجارة اصبح هدفاً اساسياً للقوى الاقتصادية التي تقود عجلة مكافحة التغير المناخي. ويمكن لقطاع التجارة ان يساهم بشكل كبير في الحد من الانبعاثات ولاسيما في قطاع النقل البحري والبري والجوي عبر الاعتماد على مصادر طاقة جديدة مثل الطاقة الشمسية والهيدروجين الاخضر والوقود الحيوي وغيرها. لكن الشأن المناخي في التجارة لا يقتصر على مسألة تخفيض الانبعاثات بل يتعداها الى السياسات الصناعية وعمليات الدعم النشط التي بدأت تقدمها الكثير من الدول لقطاع  الطاقات الخضراء والصناعات والتقنيات المرتبطة بها، واصبح هناك تخوف حقيقي من تصنيف بعض الدول لهذه السياسات النشطة كغطاء لسياسات حمائية جديدة لبعض القطاعات مثل السيارات الكهربائية وانظمة توليد الطاقة الشمسية في حالة الولايات المتحدة، والصناعات الثقيلة مثل الحديد والصلب والالمنيوم في حالة اوروبا. فمثلاً يسعى نظام خفض التضخم (Inflation Reduction Act) الذي اقرّته ادارة الرئيس الاميركي جون بايدن الى تقديم انواع مختلفة من الدعم تتراوح قيمتها ما بين 400 مليار الى 2 تريليون دولار تتجاوز مفاعيلها مدة العشر سنوات المحددة في القانون، لتشجيع عملية الانتقال الى الطاقات الخضراء. ويركز بشكل اساسي على منح دعم لشراء السيارات الكهربائية المصنعة بالغالب في السوق الاميركية او في الدول التي تتمتع باتفاقات تجارة حرة مع اميركا. كما يوفر القانون انواعاً من الدعم للمصنعين في حال قيامهم باستثمارات جديدة في هذا المجال. وتعتبر الصين، وهي المصنع الاكبر للسيارات الكهربائية والبطاريات والالواح الشمسية، ان هذا القانون يهدف بجزء اساسي منه الى ابعادها عن السوق الاميركية قدر الامكان في هذه المجالات، وتكوين سلاسل امداد جديدة داخل الولايات المتحدة وبعض الدول الصديقة لها. كذلك اقرّت الولايات المتحدة حزمتي دعم منذ العام 2021 لدعم قطاعات محددة في الاقتصاد، الحزمة الاولى (قانون البنى التحتية للعام 2021 بقيمة 1.2 تريليون دولار) لدعم البنى التحتية والنقل والحزمة الثانية (قانون الرقائق والعلوم للعام 2023 بقيمة 280 مليار دولار) بهدف دعم صناعة الرقائق (Chips) والابحاث العلمية المرتبطة بها. وتتكون اشكال الدعم هذه من دعم مباشر واعفاءات ضريبية وضمانات قروض، كما ان الاتحاد الاوروبي طور اخيراً عدداً من السياسات لتشجيع التحول عن الطاقات الجديدة، وكان ضمنها حديثاً آلية تعديل الكربون على الحدود (Carbon Border Adjustment Mechanism CBAM)، وذلك ضمن مساعي  الحد من دخول البضائع ذات الانبعاثات العالية والمتدنية الاسعار مثل الحديد والالمنيوم من دخول الاسواق الاوروبية عبر فرض رسوم عليها ومساواتها بالصناعات المحلية ذات الانبعاثات المنخفضة. ويعتقد البعض ان هذه الآلية ستفسر كأحد الاجراءات الحمائية التي قد تخالف قواعد منظمة التجارة العالمية وقد تستجلب اجراءات مضادة من بعض الدول المتأثرة. وتطرح كل هذه التطورات الحاجة الى تعديل بعض قواعد المنظمة المرتبطة بالاعانات وفرض اجراءات حمائية وتقييدية تحت ضرورات الامن القومي والعلاقة بين التجارة والبيئة، وهي مواضيع جديدة تضاف الى المواضيع القديمة المتراكمة على أجندة التفاوض المتعدد الاطراف لتطوير قواعد التجارة العالمية تحت مظلة المنظمة.

 

 

التجارة الرقمية: اي ضريبة وكيف؟

 

تشهد التجارة الرقمية نمواً متسارعاً منذ اكثر من عقدين وتمّ الاتفاق في منظمة التجارة العالمية في العام 1998 على تجميد فرض أية رسوم او تعرفات جمركية على هذا النوع من التجارة (Electronic Transmissions) بانتظار التوصل الى فهم افضل لكيفية التعامل الضريبي مع هذه المعاملات الضخمة التي لا تتضمن اية تبادلات سلعية، وتم تجديد هذا الالتزام خلال الاجتماع الثاني عشر ويتوقع استمرار العمل في عملية التجميد هذه خلال الاجتماع الثالث عشر على الرغم من الاعتراض الذي تبديه بعض الدول النامية وعلى رأسها الهند وجنوب افريقيا واندونيسيا. ونظراً لهيمنة البلدان المتقدمة عبر شركاتها العملاقة على هذه التجارة وسيطرتها على انتاج البرامج والمعدات ومعظم مكونات الاقتصاد الرقمي والتقنيات المرتبطة به، فهي تسعى الى الابقاء على هذا الاجراء الى اطول مدى ممكن، وقد تشاركها الصين في هذا الموقف نظراً لنمو صادراتها الرقمية، في حين أن معظم البلدان النامية تفتقر الى المنظومات الرقمية القادرة على انتاج خدمات قابلة للتصدير. ولا يزال العديد منها يعاني من ضعف البنى التحتية للاتصالات والانترنت وحتى الطاقة الكهربائية، ناهيك عن النقص في الاستثمارات والبنى القانونية والموارد البشرية. كما إن التجارة الرقمية بحاجة الى ايجاد قواعد وقوانين متناسقة وعادلة وشفافة تنظم تدفق البيانات وتوازن بينها وبين خصوصية الافراد وأمن هذه البيانات. وتسعى كل دولة حالياً الى تنظيم هذه التجارة وفق مصالحها ويبدو الاتحاد الاوروبي سباقاً في هذا المجال عبر القوانين التي اصدرها في الاعوام الاخيرة لتنظيم الخدمات والاسواق الرقمية والبيانات، في حين تعيش الولايات المتحدة في مقلب آخر ولاسيما في ما يتعلق بالخصوصية. كذلك بدأت بكين تظهر تشدداً في موضوع انتقال البيانات ما دفع الكثير من الشركات الاجنبية المتواجدة في الصين الى فصل بيانات الصين عن بياناتها في بقية العالم. نجحت دورة ابوظبي في تمديد الحظر المفروض على فرض رسوم او ضرائب على التجارة الرقمية منذ اكثر من عقدين حتى الاجتماع الوزاري المقبل في العام 2026 متجاوزة بذلك الاعتراض الذي ابدته كل من الهند واندونيسيا وجنوب افريقيا على مثل هذا القرار. ويبقى هناك تفاوت كبير في مواقف الدول تجاه كيفية تنظيم التجارة الرقمية بين الدول وحتى بين الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي ما يجعل التوصل الى اتفاق شامل حول هذا الموضوع بعيد المنال في الوقت الحاضر. ومن هنا، فإن نجاح منظمة التجارة العالمية في ايجاد قاعدة جديدة للتجارة الالكترونية والرقمية قد يتطلب نظرة شاملة تتضمن معاملة تفضيلية للبلدان النامية لتطوير انتاجها وصادراتها الرقمية عبر استقطاب الاستثمارات وتطوير البنى التحتية والقدرات المؤسساتية والقانونية والبشرية المطلوبة للمشاركة في الصناعات الرقمية.

 

 

لا يموت الصيادون ولا تفنى الاسماك

 

تشهد البحار تزايداً مفرطاً في عمليات الصيد غير الخاضعة لقواعد ضابطة ما يهدد باستنفاذ الثروة السمكية، وبالتالي تهديد العديد من الدول التي تعتمد على الصيد في معيشتها وهي بمعظمها دول جزرية. وانتج التفاوض في الاجتماع الوزاري الثاني عشر اتفاقاً على مصائد الاسماك، وهو ثاني اتفاق تنجزه المنظمة منذ تأسيسها بعد اتفاقية تسهيل التجارة. يركز الجزء الاول منه على الحدّ من حجم وبرامج الدعم المقدم للصيد غير القانوني وغير المصرّح به وغير المنظم والذي صادقت عليه 71 دولة حتى الآن ولا يزال يحتاج الى تصديق 39 بلداً كي يصبح نافذاً. ولا يزال التفاوض قائماً على المرحلة الثانية والتي تهدف الى ايجاد قواعد للحدّ من الدعم المقدم لزيادة طاقة الصيد بشكل غير مستدام عبر توسعة الاساطيل والمساهمة بالصيد المبالغ به (Overfishing and Overcapacity) على شكل دعم العمالة والوقود وغيرها من أشكال الدعم، وتركز المفاوضات حول وضع قيود على عمليات دعم الصيد في البحار القريبة والبعيدة، ولم يتوصل الاجتماع الوزاري الثالث عشر الى اتفاق حول المرحلة الثانية. واهمية اتفاقية مصائد الاسماك في أنها الاولى التي تلامس قضايا البيئة والاستدامة والتي تتقاطع مع اهداف التنمية المستدامة التي اطلقتها الامم المتحدة في العام 2015.

 

 

الصين وتضارب النماذج

 

يمثل وضع الصين كدولة نامية في منظمة التجارة العالمية ودور الشركات المملوكة من الحكومة والدعم المقدم للصناعة فيها ونظرتها الى حقوق الملكية الفكرية نقاط تماس اساسية بينها وبين الولايات المتحدة والى حد ما مع الاتحاد الاوروبي. فبنظر الولايات المتحدة الاميركية، لا تبدو قواعد منظمة التجارة العالمية الحالية كافية للتعامل مع الخصوصية الصينية المتمثلة بنظام اقتصادي يعتمد رأسمالية الدولة كقاعدة عمل، اي أنها ترى تناقضاً في معايير التعامل مع غالبية الدول الاخرى التي تعتمد اقتصاد السوق كأساس للنشاط الاقتصادي على الرغم من الاشارات التي ترسلها الصين بأنها تلتزم بقواعد المنافسة العادلة والتي تدعو فيها ايضاً الى احترام التنوع في نماذج التنمية بين اعضاء منظمة التجارة العالمية. وتفتح المسألة الصينية الباب امام سؤال اساسي وهو ما اذا كان بالامكان تطبيق قواعد المنظمة بالطريقة نفسها على نظامين اقتصادين مختلفين جوهرياً في طريق عملهما. ويرى البعض انه بدلاً من انتظار اي تغيير جوهري في النموذج الصيني يمكن التركيز على التوفيق على كيفية تطبيق قواعد المنظمة بطريقة تسمح بالتفاعل بين هذين النظامين المتباينين في طريقة عملهما مع توقع استمرار فصل المسارات الحاصل في التجارة بين الولايات المتحدة والصين ولاسيما في مجالات التكنولوجيات الحساسة والقطاعات الاخرى الخاضعة لمبررات الامن القومي. ولا شك ان اضافة البعد الجيوسياسي يزيد هذا الوضع تعقيداً خصوصاً مع تصنيف الولايات المتحدة للصين كمنافس حقيقي على الساحة العالمية، وهذا ما يعزز الاعتقاد السائد بأن هذا التنافس سيقلل من فرص التقدم نحو انجاز اتفاقات جديدة لمعالجة القضايا العالقة واستيعاب القضايا الجديدة والمستجدة التي برزت خلال العقدين الاخيرين نتيجة التحولات الكبيرة جيوسياسياً وتكنولوجياً وبيئياً.

 

متعددة ام ثنائية؟

 

أعطى التعثر الحاصل في التفاوض حول اجندة الدوحة زخماً اكبر لاتفاقات التجارة الحرة الثنائية والاقليمية والتي يوجد منها حتى الآن ما لا يقل عن 600 اتفاقية. ويرى البعض ان هذه الاتفاقات لا تتعارض بالضرورة مع قواعد منظمة التجارة العالمية بل انها طريق اخرى لمتابعة مسار تحرير التجارة وهي تسمح باستيعاب المتغيرات الحاصلة منذ تأسيس المنظمة ولاسيما في مجال التكنولوجيا الحديثة والبيئة وصعود الصين. ويعتبر هؤلاء ان هذه الاتفاقات تمثل مرحلة جديدة للتجارة يمكن تسميتها بـ WTO+ او WTO More، وتعطي هذه الاتفاقات الدول حرية اختيار الاطراف الاخرى او القطاعات التي تريد التفاوض معها وعليها واخضاعها لقواعد التجارة الحرة وهي تتيح للعديد من الدول الكبرى استعادة قوتها التفاوضية التي تكون محدودة نسبياً وفق نظام منظمة التجارة العالمية التي تعمل على طريقة الاجماع واقرار الاجندة المطروحة للتفاوض بالكامل او عدمه. لكن هناك رأي آخر يعتبر هذه الاتفاقات مصدر إعاقة لتطبيق قواعد منظمة التجارة وللجهود المتعددة الاطراف التي تجسدها وهي تؤدي الى خلق مرجعيات ومعايير متعددة ومتضاربة احياناً وتساهم في النهاية بزيادة نسبة التركز في التجارة بين مجموعات محدودة وانحسار التنوع في سلاسل القيمة والامداد والى ارتفاع كلفة التجارة، وحتى تستعيد الولايات المتحدة الاميركية الدفء في علاقاتها مع المنظمة، تبقى اتفاقات التجارة الحرة الثنائية او الاقليمية هي اللعبة الاكثر رواجاً حالياً في عالم التجارة.

تؤكد الاشكاليات المطروحة والقضايا العالقة على طاولات التفاوض الحاجة الى إعادة تقييم عميق للمواقف ولميزان الربح والخسارة في الاقتصاد العالمي في المرحلة المقبلة، وليس هناك من خلاف حول الحاجة الى تطوير وتحديث قواعد التجارة تحت مظلة منظمة التجارة العالمية لاستيعاب التحولات التكنولوجية والبيئية وصعود اقتصاد الخدمات وزيادة حصة الصين ومعها بعض الدول النامية من الاقتصاد والتجارة في العالم، وربما يتطلب الامر الاخذ في الاعتبار الملاحظات التي تبديها الولايات المتحدة حول نظام تسوية المنازعات ومعايير التعامل مع الصين وغيرها، وفي الوقت نفسه، قبول الولايات المتحدة بتعددية الاقطاب الاقتصادية في العالم وبحاجتها الى استيعاب الدور الصيني وبالتالي تفادي الحروب التجارية وتعطل آليات وقواعد عمل منظمة التجارة العالمية وبالتالي تراجع دور التجارة كمحرك للنمو في العالم.

 

 

أين تقف الدول العربية؟

 

تصنف جميع الدول العربية الاعضاء في منظمة التجارة العالمية وعددها 13 كدول نامية واقل تنمية، وهي بالتالي تستفيد من المعاملة التفضيلية والخاصة التي تنطوي عليها قواعد المنظمة. ويمكن للدول العربية ان تستفيد من معظم الاصلاحات المطروحة على اجندة المنظمة الحالية، وبالتحديد يمكنها الاستفادة من اي تخفيض للدعم المقدم للمنتجات الزراعية كونها بين اكبر مستوردي السلع والمواد الغذائية في العالم في حال ادى هذا التخفيض الى تراجع الاسعار عالمياً. كذلك يمكن للبلدان العربية الاستفادة من الاتفاق على تحديد قواعد جديدة للرسوم والضرائب التي يمكن فرضها على تجارة المنتجات الرقمية كون البلدان العربية هي مستورد صافي لهذه المنتجات ولا تصدر الكثير منها، ويمكن للدول العربية المنتجة للنفط ان تتأثر بأي توجهات جديدة للمواءمة بين قواعد التجارة واجندة مكافحة التغير المناخي، كذلك يمكن لبعض الدول العربية التي تتمتع بثروات سمكية كبيرة التأثر بإقرار المرحلة الثانية من اتفاقية مصائد الاسماك.