حرب تحجيم الصين: أمّ المعارك الأميركية!

  • 2020-02-17
  • 17:50

حرب تحجيم الصين: أمّ المعارك الأميركية!

  • رشيد حسن
            
قبل سنتين بالتحديد في الثالث عشر من شباط/فبراير أصدر مدير وكالة التحقيقات الفدرالية الأميركية FBI تحذيرا للأميركيين يحذرهم فيه من شراء الهواتف الذكية لشركة هواوي الصينية. بعد ذلك بأسابيع أعلن البنتاغون عن حظر بيع هواتف هواوي في القواعد العسكرية الأميركية.  
هذان التحذيران من أعلى الجهات الأمنية والعسكرية في الولايات المتحدة حول ما يفترض أنه منتج تجاري مثل غيره من المنتجات في السوق كانا في الحقيقة هبة الريح التي تؤذن بالإعصار القادم. إذ أظهرت واشنطن أن حربها الوشيكة مع ما هواوي والصين ستقوم على ذرائع أمنية وإن الإطباق على هواوي من كافة الجهات سيتخذ صيغة الدفاع عن الأمن القومي للولايات المتحدة وللدول الغربية التي ستدعى للانضمام إلى حرب تصفية هواوي وقطاع التكنولوجيات المتقدمة الصيني الذي بات يشكل تهديدا حقيقا للموقع الأميركي المهيمن في هذا المجال.  

كذلك وبينما تناولت الطلقات الأولى للمعركة هواتف هواوي (وكذلك منتجات ZTE) فإن الهدف الاستراتيجي كان منع الصين من تحقيق اختراقات كبيرة في القطاع الحساس لنظام الجيل الخامس 5G من الاتصالات. إذ بدا واضحا في السنوات الأخيرة أن الصين حققت فعلا قفزات كبيرة في تطوير أنظمة الجيل الخامس وأن منتجات شركة هواوي في هذا المجال تفوقت بمسافة عن تلك التي تقوم شركات غربية منافسة مثل أريكسون ونوكيا بتطويرهما كأنظمة منافسة. في الوقت نفسه بدأت هواوي تهدد القلاع الكبيرة لصناعة الهواتف النقالة مثل آيفون وسامسونغ سواء في حجم المبيعات أو التصاميم أو الأسعار، بل أن الزخم التقني والتجاري لهواوي جعلها تنتقل بسرعة إلى مجالات أخرى مثل الكمبيوتر المحمول وأجهزة التلفزيون والألواح الرقمية Tablets وبدا أكثر فأكثر للعالم وخصوصا الولايات المتحدة أن قطار التكنولوجيا الصينية بات مندفعا بقوة تجعله يعزز تفوقه يوميا تجاه المنافسين خصوصا في الغرب واليابان.

 


 

إن أكثر ما أثار فزع الأميركيين كان التقدم الكبير الذي حققته هواوي في مجال تقنيات الجيل الخامس G5 والذي جعل أنظمتها هي الأفضل عالميا والأكثر قدرة على اجتذاب الطلبيات من دول العالم التي بدأت في نشر تقنيات الجيل الخامس والتي يتوقع أن تحل محل تقنيات الجيل الرابع 4G على مدى العقد المقبل. وهذا السوق الهائل قدرته أوساط صناعة الاتصالات بنحو 3.6 ترليون (3,600 مليار) دولار بين الآن والعام 2035. وما أثار قلق واشنطن أن العديد من دول العالم بما في ذلك دول حليفة كانت قد دخلت مفاوضات مع هواوي تتعلق باحتمال شراء منظومتها للجيل الخامس وأن هواوي بدت في طريقها للسيطرة على الحصة الأكبر من السوق وبالتالي وضع أقدامها في عدد كبير من الأسواق.  وفي نظر واشنطن فإن كسب هواوي لمعركة نظام الجيل الخامس كان سيوطد سيطرة الصين على أخطر مجالات التقنيات العالية والدقيقة لأن شبكات الـ 5G لا بد وأن تفتح الطريق أمام مختلف المنتجات الصينية المكملة في حقل الطرفيات والهواتف النقالة والإنترنت وغيرها.


لذلك، تم في وقت ما في الولايات المتحدة اتخاذ قرار استراتيجي بشن هجوم مضاد على النطاق العالمي لوقف التقدم التجاري والتكنولوجي الصيني وإجبار الصين على التزام حجم معين في موازين التجارة الدولية لا يخل بالتوازنات التجارية والاستراتيجي. وكانت حرب الرئيس ترامب التجارية على الصين نموذجا على "استراتيجية التحجيم" التي قررت واشنطن اعتمادها مع القوة الأسيوية العظمي الصاعدة، لكن الجبهة الأهم التي كانت واشنطن تستعد لمهاجمتها كانت شركة هواوي والتفوق الصيني في أنظمة اتصالات الجيل الخامس وهي تمكنت بالفعل من صدم التقدم الصيني بل حتى وقفه من خلال اعتبار نظام هواوي لاتصالات الجيل الخامس وحتى كل ما تصنعه هواوي وشقيقتها "زد تي إي" مصمم للتجسس أو سرقة المعلومات والبيانات بالتالي يمثل خطرا على أمن الولايات المتحدة وكافة الدول الغربية الحليفة.

الموضوع الأمني


لكن هل تحمل أنظمة هواوي لاتصالات الجيل الخامس فعلا خطرا على أمن الولايات المتحدة والدول التي تستخدم التقنية الصينية؟ هناك جدل واسع في أوساط الحكومات والخبراء وحتى في الولايات المتحدة نفسها حول هذا الأمر والغريب أنك لا تجد عمليا جواباً قاطعاً حول الموضوع رغم كثرة الخبراء في الأمن السيبراني وفي التقنية الصينية. المهم هو أن الحكومة الأميركية واثقة من أن تقنيات هواوي للجيل الخامس تسمح لها بالتنصت على حركة الشبكة وما ينساب عليها من بيانات ومعلومات، وتشير مختلف الادبيات حول الموضوع إلى أن الشك الأميركي بتقنية هواوي يستند إلى معطيات لا تفصح واشنطن عنها ربما لعدم إعطاء الجانب الصيني فكرة عن نتائج بحثها، لكن في الوقت نفسه نشرت مقالات متخصصة أشارت إلى وجود نقاط ضعف أمنية في نظام هواوي وإلى بطء الشركة الصينية في المعالجة بينما كشفت شبكة هاتف مثل فودافون أن هواتف هواوي تحتوي على "مهارب" back doors تسمح باختراقها. بل أن بعض الخبراء أكدوا أن أي نظام من نوع شبكة الـ 5G يمكن اختراقه بسبب الكمية الهائلة من التجهيزات والهوائيات التي يحتاجها والتي لا يمكن فحصها واحدا واحدا. ومن الأمور الطريفة التي تؤكد إمكان استخدام شبكات الجيل الخامس للتجسس العرض الذي قدمه رئيس هواوي في 5 يونيو 2019 للولايات المتحدة باستعداد هواوي لتوقيع "معاهدة عدم تجسس" مع الولايات المتحدة، وهذا العرض الغريب يؤكد عمليا إن هواوي قادرة على استخدام تقنياتها للتجسس، كما أنه يؤكد للدول التي قررت السير بنظام هواوي للجيل الخامس أن الشركة قادرة على استخدام تقنياتها في أعمال التجسس أو حصة البيانات أو المعلومات.  ومن أبسط التقنيات لزرع شيفرات التنصت أو الاختراق عمليات التحديث الأوتوماتيكية لبرامج التشغيل والتي يمكن استخدامها كستار لزرع الشيفرات المعادية.

 


 

يجب القول أن الولايات المتحدة خصوصا تحت قيادة الرئيس ترامب تعتبر الصين مذنبة في كل شيء حتى ثبوت براءتها فالصين حسب واشنطن نظام شيوعي بوليسي مخاتل وغير شفاف وماهر جدا في الخداع وهو بالتالي غير أهل للثقة أو للتعامل معه كبلد صديق، والصين متهمة من قبل واشنطن بسرقة الأسرار الصناعية للتقنيات الأميركية المتقدمة بما في ذلك تقنيات طائرة Stealth من شركة لوكهيد التي تصنعها وبتزوير المنتجات وتقليدها وغير ذلك. وهناك أيضا التصادم المتزايد بين البلدين في منطقة بحر الصين وجنوب شرق آسيا والموقف من تايوان وانهماك الصين ببناء أحد أقوى الجيوش في العالم.


إذن وبغض النظر عن المحذور الأمني لأنظمة هواوي لاتصالات الجيل الخامس فإن لدى واشنطن مال يكفي ويزيد لشن حربها الحالية على هواوي والتقنية الصينية

تحذيرات للحلفاء

من أجل أن تكون فاعلة في وضع حد لتقدم هواوي يجب على حملة المقاطعة الأميركية أن تستقطب كل الدول الحليفة والتي تمثل أكبر أسواق محتملة للشركة الصينية، وحتى الآن تمكنت واشنطن من استقطاب سوق كبير مثل أستراليا التي أصدرت حظرا تاما على هواوي وتبعت اليابان التي لا يوجد ود كبير بينها وبين الصين فأعلنت منع التعامل بمنتجات هواوي وأصدرت دول الاتحاد الأوروبي قرارا ظاهره السماح وباطنه المنع لأنه يطلب من الدول الأعضاء مراعاة المحذور الأمني في استخدام تقنيات هواوي، حتى بريطانيا التي أعلنت أنها ستستخدم تقنية هواوي في المكونات غير الحيوية حدت كثيرا من آمال هواوي في السوق البريطانية بينما تستعد فرنسا لما يشبه الحظر على هواوي وكذلك ألمانيا الغربية وربما كندا..

وكما في حالة إيران حيث اعتبر ترامب يوما أن من يريد التعامل مع إيران لن يمكنه التعامل مع الولايات المتحدة فإن سلاحا مماثلا أشهر هذه المرة وهو تحذير واشنطن من أنها لن تتبادل المعلومات الاستخبارية مع أي دولة حليفة تقبل بإدخال تقنية هواوي للجيل الخامس من الاتصالات، ويتضح من الجدول أعلاه أن أكثر الدول الغريبة ستبقى على الأرجح في منأى عن تقنية هواوي والتي ستلاقي ترحيبا أوسع من روسيا والدول الآسيوية وربما من دول أفريقية توفر لها الصين القروض اللازمة لبناء الشبكة الجديدة.

هواوي تترنح

أدت الحرب الأميركية على هواوي وتقنية الاتصالات الصينية إلى إحباط الخطط التوسعية الطموحة لهواوي والتي تواجه الآن ليس فقط خسارة الحصة الأكبر من السوق العالمية لأنظمة الجيل الخامس بل تواجه أيضا توجيه ضربات موجعة لأنظمة الهواتف المحمولة التي باتت في مستوى لا يقل تقدما عن أبل وسامسونغ، فقد أجبرة واشنطن شركة غوغل على وقف مد هواتف هواوي بنظام تشغيل أندرويد الأمير سيضطر الشركة لتطوير نظام تشغيل خاص بها وكذلك تطوير ألوف التطبيقات التي يمكنها العمل مع نظام تشغيل هاتف هواوي الجديد "هونغ منغ" وعلى سبيل المثال فقد أعلن رئيس هواوي أن الشركة تتوقع خسائر بما لا يقل عن 30 مليار دولار كنتيجة لحملة المقاطعة الأميركية كما أن اضطرار الشركة لطرح هواتفها في السوق من دون نظام تشغيل غوغل وتطبيقاته التي لا تحصى سيخلق لها مشكلة كبيرة مع المستخدمين قد يحتاج حلها لبعض الوقت. في الوقت نفسه وربما توقعا لحرمانها من نظام "ويندوز" الذي توفره مايكروسوفت فقد أعلنت هواوي أنها أوقفت إلى أجل غير مسمى مشروعها لتصنيع كمبيوتر هواوي المحمول.

أحد الأدلة على شعور هواوي بوطأة الحصار وباحتمال إغلاق المزيد من الأسواق في وجهها إعلان رئيس الشركة في سبتمبر 2019 عن استعداده لبيع القسم المتعلق بتصنيع أنظمة اتصالات الجيل الخامس لأي شركة غربية مهتمة

هل تذكرون اتفاق "بلازا"

A screenshot of a cell phone  Description automatically generatedتشبه استراتيجية التحجيم التي تطبقها الولايات المتحدة ضد الصين الاستراتيجية التي طبقتها في العام 1985 لوقف ما سمي المعجزة اليابانية عن طريق فرض رفع سعر صرف الين على الدولار الأميركي الأمر الذي حرم اليابان من الميزات التي سببت بازدهار صادراتها إلى العالم وخفض كثيرا فائضها التجاري مع الولايات المتحدة. في الوقت نفسه حصلت واشنطن من حلفائها بريطانيا وألمانيا وفرنسا على تنازل مماثل تمثل في خفض سعر صرف الدولار بما عزز تنافسية الصادرات الأميركية وخفف كثيرا من عجز الميزان التجاري الأمريكي مع الأسواق الأوروبية.

بدائل واشنطن

فوجئت واشنطن ولاشك بالسرعة الكبيرة التي تمكنت بها الصين من بناء زعامة لها في أكثر القطاعات أهمية لمستقبل التنافس العالمي، وهي اكتشفت في الوقت نفسه أنها لا تملك أي رد حقيقي على تقدم هواوي إذ أنها وإن كانت متقدمة جدا في كل مجالات التكنولوجيا لا تمتلك "هواوي" أميركية بينما يتوزع العمل على منافسة الشركة الصينية العملاقة بين شركات مستقلة أوروبية مثل أريكسون السويدية ونوكيا الفنلندية. من هنا اقتراح المدعي العام الأميركي وليم بار أن تقوم الولايات المتحدة بشراء حصة مسيطرة في أي من الشركتين بحيث يصبح لها شركة توظف فيها لوقف التقدم الصيني علما أن كلا الشركتين تعتبران منافستان لهواوي في أنظمة اتصالات الجيل الخامس. وهذا ما يجعلهما أكبر مستفيدين من الحظر التي تحاول واشنطن فرضه على هواوي في كل الدول التي يمكنها التأثير عليها.