"غوغل" تتفادى التفكيك وتحتفظ بـ "كروم"

  • 2025-09-03
  • 16:28

"غوغل" تتفادى التفكيك وتحتفظ بـ "كروم"

  • أولا- الاقتصاد والأعمال

قررت محكمة اتحادية في الولايات المتحدة الأميركية، في حكم قضائي تاريخي صدر في الثاني من أيلول/ سبتمبر 2025، عدم اجبار شركة "غوغل" على بيع متصفحها الشهير "كروم"، ونظام التشغيل "أندرويد"، وذلك في إطار قضية مكافحة الاحتكار أقامتها الحكومة الاميركية على الشركة منذ سنوات، والتي اتهمتها فيها بالاحتكار غير القانوني لسوق البحث على الإنترنت، واستخدام اتفاقيات حصرية مع شركاء مثل "أبل" وصانعي الأجهزة المحمولة لمنع المنافسين من الحصول على فرصة للدخول الى السوق والمنافسة في مجال البحث والإعلانات الرقمية.

وعلى الرغم من أن "غوغل" تمكنت نتيجة هذا الحكم من الاحتفاظ بسيطرتها على محرك البحث ومتصفح الويب ونظام التشغيل، إلا أن القاضي فرض عليها الالتزام بمشاركة بيانات البحث مع المنافسين، بما يسهم في تعزيز المنافسة وتوفير بيئة أكثر عدالة في هذا القطاع الحيوي. كما حظر القاضي عليها إبرام عقود حصرية تُلزم الشركات المصنعة للأجهزة المحمولة باستخدام محرك البحث أو التطبيقات الخاصة بها، وهو ما كان يُعتبر أحد أبرز أدواتها للهيمنة على السوق.

ومن ضمن الاتفاقيات التي سمح بها القرار، استمرار علاقة "غوغل" مع "أبل"، حيث يتوقع ان تدفع "غوغل" نحو 20 مليار دولار خلال العام 2025 لتكون محرك البحث الافتراضي على أجهزة "آيفون"، وهو اتفاق يُعتبر من الأكثر ربحية في قطاع التكنولوجيا.

بداية القضية

القضية التي بدأت في العام 2020 باتهامات من وزارة العدل الأميركية وعدد من الولايات، شكَّلت تحدياً حقيقياً لهيمنة "غوغل"، حيث تبين أن الشركة دفعت مليارات الدولارات بشكل حوافز لضمان استمرارية وضعها كمحرك بحث رئيسي لدى شركائها، ما أدى إلى تقليل فرص شركات مثل "DuckDuckGo" و"مايكروسوفت بين" في المنافسة بشكل حقيقي. ويُظهر الحكم أهمية وضرورة تعزيز الشفافية وتعدد الخيارات أمام المستخدمين، إضافة إلى منع الشركات الكبرى من حجب البيانات الحيوية التي يحتاجها المنافسون لتطوير خدمات ذات جودة عالية.

ويتوقع ان يكون تأثير هذا الحكم على قطاع التكنولوجيا واسع وعميق، حيث يعزز استقرار "غوغل" القانوني ويمنحها فرصة للاستمرار في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تُعوّل عليها لتوسيع أعمالها والهيمنة على هذه السوق مستقبلاً بأساليب أكثر تطوراً وابتكاراً، كما يُعيد فتح الباب أمام منافسين جدد قد يكون لديهم القدرة على تقديم بدائل مبتكرة في مجال البحث والذكاء الاصطناعي، خصوصاً مع الالتزام بمشاركة البيانات والحفاظ على المنافسة العادلة.

توجه جديد

هذه التطورات تعكس توجهاً جديداً في التعامل مع عمالقة التكنولوجيا، حيث لا يتم اللجوء إلى تفكيك الشركات الكبرى بشكل صارم كما في الماضي، بل إن الإطار القانوني يركز على فرض رقابة أكثر دقة ومنع الاحتكارات المؤثرة من دون المساس بالابتكار والاستثمار. وبهذا تبقى "غوغل" لاعباً رئيسياً في التكنولوجيا العالمية، لكنها ستواجه بيئة أكثر تنافسية، ما قد يحفز المزيد من الابتكارات التي يُفترض أن تخدم المستهلك النهائي بشكل أفضل.

وبشكل عام، يُعد الحكم الصادر في سبتمبر 2025 محطة مهمة في مسلسل مكافحة الاحتكار في صناعة التكنولوجيا، كونه يوازن بين الحفاظ على قوة الشركات الكبرى والحد من ممارسات الاحتكار الضارة التي يمكن أن  تُعيق المنافسة والابتكار، وهو ما سيكون له تداعيات تمتد إلى جميع الشركات التي تنافس في مجال الإنترنت والذكاء الاصطناعي، ويُعيد تشكيل مستقبل سوق البحث الرقمي والعلاقات بين الشركات التقنية الكبيرة في العالم.

كيف يمكن ان يؤثر القرار على الإعلانات الرقمية؟

 يُتوقع  أن يحمل هذا الحكم في قضية مكافحة الاحتكار ضد "غوغل" عام 2025   آثاراً مهمة على قطاع الإعلانات الرقمية بشكل خاص وعلى صناعة التكنولوجيا بشكل عام. في هذا الحكم، رغم عدم إلزام "غوغل" في بيع متصفحها "كروم" أو نظام التشغيل "أندرويد"، فقد فرض القاضي على الشركة التزاماً بمشاركة بيانات البحث مع منافسيها، إضافة إلى منعها من إبرام عقود حصرية تجعلها محرك البحث الحصري على الأجهزة المحمولة. وسيؤثر هذا القرار بشكل مباشر على سوق الإعلانات الرقمية الذي يُعد مصدراً كبيراً للدخل في "غوغل".

ومن خلال اشتراط مشاركة بيانات البحث، يُمكن لمنافسي "غوغل"، وخصوصاً الشركات التي تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي ومحركات البحث الجديدة، مثل OpenAI و Perplexity وDuckDuckGo، استخدام هذه البيانات لتحسين خوارزمياتها وإنشاء بدائل أكثر تنافسية لخدمات "غوغل"، ما يعزز من فرص المنافسة في سوق الإعلانات الرقمية التي تعتمد بشكل كبير على بيانات البحث لتوجيه الإعلانات وتحقيق استهداف دقيق للمستخدمين. وبالتالي، من المتوقع أن يؤدي ذلك إلى تقليل هيمنة "غوغل" على هذا القطاع وفتح المجال أمام منافسين جدد.

ومع ذلك، يرى بعض النقاد أن التدابير التي فرضها القاضي قد تكون أقل حدّة من ما كان متوقعاً، حيث لا تزال "غوغل" قادرة على دفع مبالغ مالية ضخمة لتثبيت مكانتها كمحرك بحث على أجهزة مثل "الآيفون"، ما يحافظ على قوتها في السوق. ويحذر بعض المراقبين من أن "غوغل" قد تستمر في ممارساتها الاحتكارية التي تُعيق نمو المنافسين، خصوصاُ في مجال البحث باستخدام الذكاء الاصطناعي، ما قد يؤخر تحقيق منافسة حقيقية تعود بالفائدة على المستهلكين.

كما أن القرار يشير إلى التحديات الجديدة التي تفرضها التطورات السريعة في مجال الذكاء الاصطناعي والتي غيّرت ديناميكيات سوق البحث والإعلانات الرقمية، وهو ما أشار إليه القاضي نفسه حين أكد الحاجة لمراعاة هذه المتغيرات المستقبلية في فرض العقوبات. هذه الأبعاد تجعل من الحكم نقطة تحول تعكس توازناً بين الحفاظ على ابتكار "غوغل" وفرض قواعد جديدة لضبط ممارساتها ومنعها من السيطرة الحصرية التي تخنق المنافسة.

باختصار، يُعد الحكم الصادر خطوة نحو تعزيز المنافسة في سوق الإعلانات الرقمية، خصوصاً من خلال فتح امكانية الوصول إلى بيانات البحث التي تشكل أساساً لتوجيه الإعلانات الإلكترونية، لكنه في الوقت نفسه لا يقطع الطريق نهائياً أمام "غوغل" من أجل استخدام قوتها السوقية لتمديد سيطرتها. لذلك، من المتوقع أن تشهد السوق مزيداً من التنافس وتحولات في الاستراتيجيات من جانب كبار اللاعبين في قطاع التكنولوجيا والإعلانات الرقمية، مع إمكانية تدخل تشريعات وتنظيمات إضافية لمعالجة ما تبقى من تحديات هيكلية في هذا المجال.

"كروم" ينفذ بريشه

يشكل مستقبل متصفح "غوغل" "كروم" بعد أوامر التفكيك المحتملة نقطة محورية في صناعة التكنولوجيا الرقمية، خصوصاً في ضوء المطالبات السابقة في بيع متصفح "كروم" كجزء من جهود مكافحة الاحتكار في السوق الاميركية. وتواجه "غوغل" منذ آب/ أغسطس 2024 دعوات لفصل متصفح "كروم" عن الشركة الأم، وترى الجهات التنظيمية أن احتكار "غوغل" لهذا المتصفح الذي يحكم نحو 61 في المئة من سوق متصفحات الإنترنت في الولايات المتحدة الميركية يعطيها قوة هائلة في سوق الإعلانات الرقمية وبيانات المستخدمين.

إن بيع "كروم" قد يكون خطوة غير مسبوقة، تقدر قيمتها بأكثر من 15 إلى 20 مليار دولار بسبب عدد مستخدميه النشطين الذين يتجاوز عددهم 3 مليارات مستخدم شهرياً، ما يجعل المتصفح ليس مجرد مُنتج برمجي بل بوابة رئيسية لكافة خدمات "غوغل"، خصوصاً محرك البحث والذكاء الاصطناعي. ومع تعرض "غوغل" لضغوط قانونية لإجبارها على بيع "كروم"، برزت عروض من شركات منافسة مثل Perplexity، التي عرضت مبلغاً غير مسبوق لشرائه واستثمرت خططاً ضخمة لتطوير المتصفح وتقديم نسخة مدعومة بالذكاء الاصطناعي.

من جانبها، تعتزم "غوغل" استئناف الأحكام التي تصنفها كمخالفة لقانون الاحتكار، مُدّعية أن بيع "كروم" سيضر بالمستهلكين والمطورين، لأنه قد يؤدي إلى تعديل نموذج العمل المفتوح المجاني الحالي، الذي يعتمد عليه الملايين حول العالم. كما أن القرار المتوقع قد يفرض على "غوغل" ترخيص بيانات المستخدمين بشكل موسع للمنافسين، وهو ما سيغير قواعد اللعبة في سوق البحث والإعلانات الرقمية.

إن مستقبل "كروم" بعيداً عن "غوغل" قد يحمل في طياته فرصاً كبيرة لتعزيز المنافسة والابتكار، لكنه في المقابل يثير مخاوف حقيقية حول استمرارية تطويره في نفس المستوى الحالي من الثبات والابتكار، خصوصاً وأن "غوغل" توفر الموارد الضخمة المطلوبة لتمويل عملية التطوير هذه، والتي تضمن للشركة ريادة قطاع البحث وتصفح الإنترنت.

لذلك، فإن السيناريوهات المحتملة تتراوح بين استمرار "غوغل" في الاحتفاظ بالمتصفح مع قيود تنظيمية جديدة لتعزيز المنافسة، أو الانتقال إلى ملكية جديدة ربما تُعيد تشكيل تجربة تصفح الإنترنت بشكل جذري مع إمكانية استغلال التكنولوجيا الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي بشكل أكبر. على أي حال، فإن هذا الملف يبقى حاسماً في تحديد ملامح صناعة التكنولوجيا الرقمية في العقود المقبلة.