أبعاد ودلالات الاتفاق الأميركي السويسري حول العملة

  • 2025-09-30
  • 10:37

أبعاد ودلالات الاتفاق الأميركي السويسري حول العملة

بعد الاتفاق الاميركي السويسري حول العملة: الملاذات الامنة تحت الاختبار

  • أولا- الاقتصاد والأعمال

في التاسع والعشرين من سبتمبر 2025 أعلنت الولايات المتحدة الأميركية وسويسرا في بيان مشترك عن التزامهما بأن لا يستخدم أي طرف منهما سياسة الصرف الأجنبي كأداة لتحقيق ميزة تنافسية وإنما للتعامل فقط مع تقلبات غير منضبطة في أسواق العملات. هذا الاتفاق جاء بعد أشهر من إدراج وزارة الخزانة الأميركية لسويسرا على قائمة الدول الخاضعة للمراقبة بتهمة التلاعب بالعملة، وهو ما دفع الحكومة السويسرية والبنك الوطني السويسري (البنك المركزي) إلى تبرير تدخلاتهما في سوق العملات في الحاجة الى احتواء التقلبات وليس إلى منح الصادرات السويسرية ميزة غير عادلة. الاتفاق يعكس تحولاً من حالة التوتر والاتهامات إلى حالة من التنسيق، ويمنح البنك الوطني السويسري غطاءً سياسياً وقانونياً للاستمرار في إدارة تقلبات العملة من دون أن يتعرض لاتهامات مباشرة بالتلاعب.

الفرنك السويسري كملاذ آمن

يُصنَّف الفرنك السويسري تقليدياً كإحدى أبرز العملات التي يلجأ إليها المستثمرون في أوقات الأزمات والتقلبات المالية إلى جانب الدولار الأميركي والين الياباني. هذا التصنيف ينبع من الاستقرار السياسي والمؤسساتي لسويسرا ومن قوة اقتصادها ونظامها المالي ومن سجلها الطويل في المحافظة على معدلات منخفضة من التضخم وسياسات نقدية متزنة. هذه العوامل تجعل من الفرنك اداة للتحوط من المخاطر وأصلاً مفضلاً عند هروب السيولة من الأصول الأكثر مخاطرة. الاتفاق الأخير مع الولايات المتحدة يعزز هذه المكانة لأنه يقلل المخاطر السياسية المرتبطة في التدخلات المفاجئة في سوق العملات ويطمئن المستثمرين بأن أي تحرك في السياسة النقدية السويسرية سيأتي ضمن إطار شفاف ومفهوم وليس كمناورة تجارية مفاجئة.

دور البنك الوطني السويسري في إدارة تقلبات الفرنك

البنك الوطني السويسري (SNB) هو الجهة المسؤولة عن السياسة النقدية في البلاد ويستهدف أساساً استقرار الأسعار مع مراعاة التطورات الاقتصادية والمالية. في هذا السياق يلعب سعر الصرف دوراً مهماً لأنه إذا ارتفع الفرنك على نحو مفرط قد يتأثر قطاع التصدير والاقتصاد المحلي، لذلك يستخدم البنك الوطني أدوات متعددة للتعامل مع تقلبات العملة أبرزها التدخل المباشر في أسواق الصرف من خلال شراء أو بيع العملات الأجنبية مقابل الفرنك، وإجراء عمليات مبادلة قصيرة الأجل لإدارة السيولة، وترتيب خطوط تبادل مع بنوك مركزية أخرى لضخ الفرنك في الأسواق الأجنبية عند الحاجة، والتحكم بأسعار الفائدة ومرافق السيولة الداخلية بما يؤثر على الطلب على الفرنك. هذه الأدوات تمكّنه من الحد من القوة المفرطة للعملة أو من دعمها عند الضرورة لكن ضمن حدود مدروسة حتى لا تتعارض مع الهدف الأساس المتمثل في الاستقرار النقدي. الاتفاق مع الولايات المتحدة يمنحه شرعية إضافية لهذه التدخلات ويجنبه الانتقادات المحتملة بأنها تدخلات لأغراض تحقيق مكاسب تجارية.

هل يفقد الدولار مكانته كعملة احتياط عالمية؟

في الوقت الذي يعزز فيه الاتفاق الأميركي-السويسري من مصداقية الفرنك كملاذ آمن، لا بدّ من الحديث هنا عن دور الدولار الأميركي، خصوصاً في ظل التراجع الملحوظ الذي شهده منذ مطلع العام. فالدولار احتل دائماً مكانة محورية في النظام المالي العالمي كعملة احتياط ووجهة لجزء كبير من السيولة الدولية، لكن سياسات الإدارة الأميركية الحالية، ولا سيما بما يخص التعرفات الجمركية والتخوفات المتصاعدة من استمرار ارتفاع الدين الأميركي إضافة إلى التوترات التجارية، أدّت إلى اهتزاز بعض الثقة في دوره كملاذ آمن أو مفضّل في أوقات الأزمات. وقد انخفض مؤشر الدولار بنحو 10 في المئة منذ بداية 2025 في مواجهة سلة العملات الرئيسية، وهو أكبر تراجع تشهده العملة الأميركية خلال نصف عام منذ عشرات السنين. ويعزى ذلك إلى مزيج من العوامل، منها تنامي العجز المالي والتوقعات بتخفيضات في أسعار الفائدة، وأيضاً المخاوف من أن الولايات المتحدة قد تفقد السيطرة على الدين العام أو تُفاقم منه عبر سياسات الإنفاق الضخمة. هذا التراجع أثار تساؤلات بين المستثمرين والمراقبين حول ما إذا كان الدولار لا يزال يحتفظ بمكانته كملاذ آمن حقيقي خصوصاً عندما يرى البعض أنه لم يعد يُظهر الصلابة التقليدية في أوقات الاضطرابات المالية. فبدلاً من أن يرتفع تلقائياً حين تهبط الأسواق شاع أن الدولار وبعض سندات الخزانة الأميركية تُباع أحياناً جنباً إلى جنب مع خسائر الأصول الأخرى، ما يضع تحت المجهر فكرة أن الثقة في الملاذ الأميركي قد تآكلت إلى حد ما. إلا أن تحليلات أخرى تؤكد أنه على الرغم من هذا التراجع المؤقت فإن الدولار لا يزال يتمتع بامتيازات هيكلية يصعب أن تُزاح بسهولة مثل عمق الأسواق المالية الأميركية والسيولة الضخمة التي توفرها والاعتماد العالمي على الدولار كعملة تسعير في التجارة الدولية وكذلك الدور المركزي للسندات الأميركية في أنظمة الاحتياط العالمية. في هذا السياق يمكن النظر إلى التراجع الحالي على أنه إعادة ضبط لأسعار الأصول وتوزيع الاصول وليس انهياراً في المكانة.  لكن إذا استمرت مخاوف الاسواق من سياسات الإدارة الحالية في الاستدامة المالية قد تصبح المنافسة من العملات الأخرى أو التنويع الاحتياطي أقل طموحاً من مجرد فرضية إلى واقع قد يُختبر على المدى الأوسع.

دلالة الاتفاق على الأسواق والمستثمرين

الاتفاق بين واشنطن وبرن يُرسل إشارة مهمة إلى الأسواق والمستثمرين بأن سياسات العملة في سويسرا ستظل شفافة وقابلة للتوقع، وأن الفرنك سيبقى ملاذاً آمناً إلى جانب الدولار والين، كما إنه يعزز صورة سويسرا كمركز مالي ملتزم بالقواعد الدولية، ويُخفف من احتمالية وقوع مفاجآت قد تؤثر على قيمة العملة. في المقابل تستفيد الولايات المتحدة من هذا الالتزام بالحصول على تأكيد علني بأن تدخلات البنك الوطني السويسري لن تُستخدم لإضعاف الفرنك من أجل تعزيز الصادرات، وهو ما يقوي دورها في الرقابة الدولية على سياسات العملات.

 إن الاتفاق الأميركي السويسري حول العملة ليس مجرد بيان سياسي عابر بل هو إطار جديد يوازن بين حق سويسرا في استخدام أدواتها النقدية لضبط سوق الصرف وبين التزامها بالقواعد الدولية، ويمنح المستثمرين إشارة إلى أن الفرنك السويسري سيظل عملة آمنة ومستقرة تحافظ على مكانتها في النظام المالي العالمي. ومن خلال هذا الاتفاق يواصل البنك الوطني السويسري إدارة تقلبات العملة بطريقة مدروسة تجعل سويسرا نموذجاً للتوفيق بين السيادة النقدية والشفافية الدولية، وبين الحفاظ على دور الفرنك كملاذ آمن في أوقات عدم اليقين العالمي، فيما يستمر الدولار رغم الضغوط، في احتفاظه بمكانته كعملة احتياط عالمية.