الإغلاق الأميركي نسخة 2025: مرآة الانقسام السياسي
الإغلاق الأميركي نسخة 2025: مرآة الانقسام السياسي
-
كتب فيصل أبوزكي
في صباح الأول من أكتوبر 2025 خفتت الأضواء تدريجياً في مبانٍ اتحادية بواشنطن، توقفت مكاتب الإحصاء عن العمل وأُغلقت المنتزهات الفيدرالية، فيما بقيت خدمات الطوارئ وحدها تعمل. المشهد مألوف لكنه ليس عابراً؛ فالولايات المتحدة الأميركية اختبرته خمس مرات منذ منتصف التسعينيات، لكن كل إغلاق جديد يكشف أن البلد ذاته يتغير وأن الصراع حول دور الدولة يتخذ أشكالاً أعمق وأشد.
الإغلاق بين السياسة والاقتصاد
القصة تبدأ دائماً من النهاية نفسها: التفويض المالي ينتهي في آخر السنة المالية من دون قانون بديل يقرّه الكونغرس، فتتوقف كل نشاطات لا تندرج تحت "حماية الحياة والممتلكات". لكن وراء هذا التعريف البارد تختبئ حسابات سياسية حامية تعيد صياغة الإغلاق في كل مرة: مِن من كان يريد خفض العجز في التسعينيات، إلى من أراد إلغاء قانون التأمين الصحي "أوباماكير" في 2013، إلى معركة تمويل جدار ترامب في 2018. في كل مرة كان الاقتصاد يستوعب الصدمة ويواصل النمو، لكن السياسة كانت تزداد استقطاباً.
شبكة الأمان الاجتماعي
اليوم في خريف 2025 يعود المشهد في لوحة أكثر حدّة. البيت الأبيض يقوده رئيس جمهوري يملك أكثرية في مجلسي النواب والشيوخ، لكنها غير كافية لتجاوز عتبة الستين صوتاً في الشيوخ. الديمقراطيون يربطون التمويل بتمديد إعانات التأمين الصحي، والجمهوريون يتحدثون عن مراجعة للإنفاق لتقليص العجز. النقاش تخطى أرقام الموازنة إلى سؤال أعمق: هل يجب أن تبقى شبكة الأمان الاجتماعي بحجمها الحالي أم يُعاد تشكيلها؟ في الوسط يقف الموظف الفيدرالي ينتظر راتبه، والمزارع ينتظر إعانته، والمستهلك يترقب تأخر صدور بيانات التضخم والتوظيف التي يعتمد عليها الاحتياطي الفيدرالي في صياغة سياسته النقدية وبالتالي في تسعير قروضه.
الأرقام تكشف جانباًَ من الكلفة الاقتصادية. كل أسبوع إغلاق يكلف الاقتصاد نحو 0.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحسب مكتب الموازنة في الكونغرس. إذا طال الأمد تتضاعف الأضرار: تتعطل العقود الحكومية، تتوقف عمليات التفتيش والسلامة في المصانع، ويصبح الرؤساء التنفيذيون والمستثمرون بلا بيانات يعتمدون عليها. في الإغلاق الأخير عام 2019 خسر الاقتصاد نحو 11 مليار دولار عُوّض معظمها لاحقاً، لكن خبراء "الاحتياطي الفيدرالي" يحذرون من أن التعافي هذه المرة أصعب في ظل تباطؤ التوظيف وتضخم فوق المستهدف.
انعكاسات داخلية وخارجية
لكن جوهر الأزمة ليس في الأرقام وحدها، بل في السياسة نفسها. الإغلاق الحالي ليس مجرد توقف إداري بل وجه من وجوه الانقسام السياسي الحاد وغير المسبوق الذي تعيشه الولايات المتحدة. ما كان في التسعينيات خلافاً على جداول خفض العجز صار اليوم معركة هوية حول معنى دولة الرفاه نفسها: هل هي حق مكتسب أم عبء مالي؟ هل الكونغرس ساحة تفاوض أم ساحة تعطيل؟ هذا الاستقطاب يجعل الإغلاق عنصراً ثابتاً في الحسابات الانتخابية وسلاحاً لإظهار "التشدد المالي" أو "حماية البرامج الاجتماعية"، ويُضعف في الوقت نفسه ثقة المواطن في المؤسسات عندما يرى حكومته عاجزة عن تمرير الموازنة رغم وفرة الموارد.
وما يزيد الصورة تعقيداً أن الانقسام الداخلي يتقاطع مع تحولات عميقة في موقع الولايات المتحدة عالمياً. فمنذ سنوات انتقلت واشنطن من قيادة نظام تجاري متعدد الأطراف قائم على الانفتاح إلى نهج أكثر انتقائية في اتفاقيات التجارة، مع زيادة الرسوم والحواجز لحماية صناعاتها الإستراتيجية خصوصا في مجال التكنولوجيا المتقدمة والشرائح الالكترونية ومحاولة إعادة بناء قاعدتها الصناعية التي تقول الإدارة الحالية إنها تآكلت بفعل "المنافسة غير العادلة من الصين". هذه السياسات، التي تُسوّق داخلياً كخطوة لإعادة الاعتبار للطبقة الوسطى الأميركية، تجعل الإغلاق أكثر تكلفة لأنها تُفاقم حالة عدم اليقين لدى المستثمرين والشركاء التجاريين حول استمرارية القيادة الأميركية في النظام الاقتصادي العالمي. هكذا يبدو الإغلاق امتداداً لصورة بلد يُعيد رسم دوره الخارجي بقدر ما يُعيد صياغة عقده الاجتماعي في الداخل.
وعلى النقيض، تُظهر تجارب دول أخرى أن الأطر المؤسسية يمكن أن تحدّ من قدرة البرلمانات على شل الدولة. في بريطانيا مثلاً يلتزم الوزراء بمبدأ "تمويل الإمدادات" حتى في غياب اتفاق كامل على الموازنة، وفي ألمانيا تفرض المحكمة الدستورية على الحكومة مواصلة الإنفاق الأساسي إلى حين إقرار قانون مالي جديد، بينما تعتمد كندا ما يُعرف بـ "قرارات الإنفاق المؤقتة" لتفادي الفراغ. هذه الآليات القانونية لا تلغي الخلافات السياسية لكنها تمنعها من التمدد إلى حد تعطيل مؤسسات الدولة بشكل شامل، وهو ما يفتقر إليه النظام الأميركي الذي يمنح كل طرف قدرة أكبر على تحويل الخلافات إلى أدوات ضغط.
في المدى القصير سيُنتَج حل وسط، وسيعود الموظفون إلى مكاتبهم وستملأ الشاشات صور المصافحات. لكن في المدى الأبعد تبقى الأسئلة الأصعب: هل يُصلح الكونغرس عملية إعداد الميزانية من جذورها؟ وهل يمكن للنظام السياسي الأميركي أن يكافئ التوافق بدل التعطيل؟
الإغلاق لم يعد حدثاً استثنائياً يُسجل في كتب الأحوال الطارئة بل مرآة لانقسام أعمق حول دور الدولة في الاقتصاد ومدى استعداد الخصوم للتنازل من أجل استمرار المؤسسات. وحتى يحسم هذا الجدل سيبقى الموظف الفيدرالي في الانتظار، والمستثمر على القلق، والرأي العام أمام مشهد متكرر: حكومة غنية بمواردها عاجزة عن تمويل نفسها لأسابيع، لا لأن المال غير موجود بل لأن الإرادة السياسية لم تصل بعد إلى حافة التسوية.