حتى لا يستر "الحاكمون" عيوبهم بملف حاكم مصرف لبنان!

  • 2023-05-23
  • 12:59

حتى لا يستر "الحاكمون" عيوبهم بملف حاكم مصرف لبنان!

  • علي زين الدين

 

تضيق "المنظومة" ذرعاً بوجود رياض سلامة حاكماً لمصرف لبنان، قبيل 70 يوماً من انتهاء ولايته القانونية الخامسة، وعقب 44 شهراً من ايداعه، طوعاً حيناً وقسراً غالباً، مسؤولية شبه منفردة في جبه مشكلات مستعصية وزادت تفاقماً، بفعل موجات "تسونامي" متوالية لأزمات بنيوية ونظامية قوّضت النظام الاقتصادي للبلاد ومعه العملة الوطنية والنموذج المصرفي، لتتحوّل معها وبعدها "سويسرا الشرق" إلى وطن سائب بكيانه وبحدوده، وطارد لشبابه وكوادره المحترفة والخبيرة، ومعاد للاصلاح بأدنى مواصفاته الدولية، ومسكون بالفقر والفساد والكساد المتعمد.

 

إقرأ للكاتب نفسه:

لبنان يترقب تصنيفه "قيد المتابعة" على لوائح "فاتف"

 

 

 

بالطبع، قد لا يكون سلامة بريئاً من التهم "الجسيمة"، وان خلطت قصداً او عفواً بين المال العام والخاص، ثم بين شبهات الاختلاس وتبييض الأموال، والتي تصيب شظاياها نواة القطاع المالي المحلي ومؤسساته المنهكة بجبه سوء معالجات "الدولة" للأزمات الحاضرة وتداعياتها، كذلك فإن الادانة لا تستوي من دون صدور الحكم القضائي المبرم والمبني على اثباتات دامغة، محلياً كان أم خارجياً، مع التأكيد على موجبات احترام الأصول في الاجراءات والصلاحيات والمرجعيات المعنيّة بتحقيق العدالة وصونها.

لكن ما ينبغي التنبه الشديد له في نطاق التداعيات او الأضرار الجانبية، يكمن اساساً في دفع المشهد النقدي والمالي في لبنان مجدداً الى حافة الهاوية بعد استقرار نسبي ساد لشهرين متتاليين، حيث تتنامى المخاوف من الاغراق السلبي في تزخيم حال "عدم اليقين"، جراء الالتباسات المستجدة في البعدين القضائي والسياسي ذات الصلة بملف الحاكم من جهة، وبالمثل ثمة ضبابية غير بناءة تكتنف الترقبات المتصلة بتحولات السياسات النقدية التي اعتادها لبنان على مدار ثلاثين عاماً من الولايات الخمس لسلامة.

وبمعزل عن اللغط الكثيف الذي يكتنف حصيلة المشاورات الوزارية، والمتبوعة توقعاً بجلسة لمجلس الوزراء، يجزم مسؤولون في القطاع بأن  "الاستسهال" في المقاربات الرسمية بشأن الشغور المحتمل في منصب الحاكم، سيفضي عاجلاً (بالاقالة اوالاستقالة) أم آجلاً (مع انتهاء الولاية القانونية بنهاية شهر تموز المقبل)، ومعززاً بفراغات السلطات، الى فراغ خطر في صناعة القرار النقدي وتيسير ادارة السيولة بالليرة وبالدولار في الاسواق ولصالح القطاع العام، وطرداً على المعاملات المالية عبر الحدود.

وفي مداولات مسؤولين مصرفيين وماليين، فإن الوضع حرج بما يكفي لتعليب العقلانية في هذا الملف الدقيق والحساس. ومن الضروري التركيز حصراً على اعتماد الأسلم بين الخيارات المتاحة، بمنأى عن التشفي والانتقام والمزاجيات التي ظهرت في بعض التصريحات الوزارية، والتي اكدت المؤكد لجهة سطحية المقاربات ومعاكستها لمنطق ادارة الدولة وشؤونها.

وضمن هذا الاستهداف الموضوعي، بحسب اوساط مالية ومصرفية، فإن المؤكد طرداً، ان مصرف لبنان، كمؤسسة وكسلطة نقدية مستقلة، ليس معنياً بمآلات الملف القضائي للحاكم، وهو الركيزة الأساسية للجهاز المصرفي والمالي، إذ يرعى تنظيم النقد ودور المصرف المركزي وعملياته، وينظّم عمل المصارف إضافة الى المهن التابعة للمهنة المصرفية. وفي تعريفه بموجب المادة 13 من قانون النقد والتسليف الصادر العام 1963، "المصرف" شخص معنوي من القانون العام ويتمتع بالاستقلال المالي، ولا تطبق عليه احكام قانون التجارة المتعلقة بالتسجيل في سجل التجارة.

 

قد يهمك:

استراتيجية التنويع السعودية من النفط إلى المعادن

 

 

 ويفرض احترام هذه المهام المحورية في المجلات النقدية والمالية والمصرفية، السعي الى توافق سياسي يتيح اتخاذ القرار ضمن المهلة المتاحة التي تقارب الشهرين، طالما لم يصدر اي حكم بحق سلامة، والتشاور الحكمي معه شخصياً ومع أركان القطاع المالي سعياً الى تحديد مسار آمن لانتقال مسؤولية الحاكمية، وبالتالي اخراج هذا الملف الملتبس وسوابقه ولواحقه من تداعيات التأزم المالي والنقدي القائم اساساً.

وبالمثل، ينبغي احترام التشريع بنصوصه وبروحيته بمنأى عن الاجتهادات ومقاصدها الحماسية والشعبوية. فالمادة 19 من القانون عينه تنص، "فيما عدا حالة الاستقالة الاختيارية، لا يمكن اقالة الحاكم من وظيفته الا لعجز صحي مثبت بحسب الاصول او لاخلال بواجبات وظيفته في ما عناه الفصل الاول من الباب الثالث من قانون العقوبات، او لمخالفة احكام الباب 20، او لخطأ فادح في تسيير الاعمال"، كذلك "لا يمكن اقالة نائبي الحاكم من وظيفتهم الا للاسباب المعددة ذاتها، بناء على اقتراح الحاكم او بعد استطلاع رأيه".

ومع حصانة التشريع ووضوح النص، وبعد مضي 30 عاماً بالتمام والكمال على محض ثقة "المنظومة" للحاكم وتأكيدها بالتجديد 5 مرات متتالية وتقاضي الكثيرين لـ "أثمانها" المجزية التي لا تقتصر مطلقاً على التوظيفات والترفيعات والتنفيعات، تبدو "الشعبويات" التنافسية في المقاربات الرسمية للملف القضائي ومذكرة التوقيف الفرنسية، بمنزلة الهروب غير المنظم من مسؤولية حفظ كيان الدولة ومؤسساتها، حيث إن الريبة المشروعة تكتنف الدعوات الى الاستقالة، فيما يبرز العجز عن الاستعانة بالأسباب القانونية في تبرير جموح "معتّق" بعضه لدفع الحكومة الى الاقدام على القفز في فراغ "الاقالة".

ويخشى مسؤولون كبار في القطاع المالي، من تبعات دراماتيكية تلحق بأي تصرفات رسمية غير محسوبة النتائج، بحيث تضع لبنان امام خطر تعظيم الانعزال عن الأسواق المالية الدولية، والذي "تطوّعت" الحكومة السابقة برئاسة حسان دياب الى غلق معظم منافذها الحيوية في ربيع العام 2020، عبر تعليق دفع مستحقات الفوائد والأصول لكل سندات الدين السيادية ( يوروبوندز) المجدولة حتى العام 2037، ومن دون تحصين الاجراء قانونياً من خلال مفاوضات جادة مع حاملي محافظ هذه السندات، ولاسيما الحصة الأكبر منها المحمولة من شركات استثمار وتوظيف اموال اجنبية.

ومع بلوغ المرحلة الحرجة في مسار الأزمة، لا يستقيم مطلقاً اللجوء الى الحل الأسهل، بالتبرؤ من "كبش الفداء" وتركه يواجه مصيره منفرداً ،على منوال ما أوكلت اليه على مدار 30 عاماً وفي عهود وحكومات ومجالس متوالية، من مسؤوليات ومهام تعدّت تماماً القرار النقدي والمصرفي الموصوف في قانون النقد والتسليف، ليصير مولجاً بالتدرج بمسؤوليات اساسية في ادارة متطلبات المال العام والقطاع العام والاقتصاد والكهرباء والدعم الاستهلاكي والصحة و...

 

 

يمكنك متابعة:

الاستكشافات النفطية في لبنان: نحو تلزيم خدمات بلوك 9

     

     

    وبالتوازي، يجري رصد العودة المتدرجة لعوامل الاضطراب الى اسواق المبادلات النقدية، حيث يرتفع منسوب القلق من استعادة المضاربات الساخنة على سعر الليرة، والافلات مجدداً من واقع الاستقرار النسبي الذي سيطر على اسعار الصرف على مدار شهرين متتاليين عند مستويات تقارب 95 الف ليرة لكل دولار، مقابل 86.3 الف ليرة للسعر المعتمد على منصة صيرفة، ومع حفظ رصيد الاحتياطات من العملات الصعبة عند مستوى يقارب 9.5 مليارات دولار.

    كذلك، يمثل احتمال وضع لبنان تحت نظام المتابعة او ادراجه ضمن القائمة الرمادية في تصنيفات المرجعيات الاقليمية والدولية المعنية بتقييم كفاءة انظمة مكافحة غسل الأموال، هاجساً ضاغطاً بحدة في الميدان المالي المأزوم، بل ثمة مخاوف من تقويض فعالية الاجراءات الجديدة التي اتخذتها السلطة النقدية عبر التعميم الرقم 165 الذي سيبدأ تنفيذه اول الشهر المقبل، والذي يستهدف ضبط التوسع المؤذي للاقتصاد النقدي عبر استحداث قنوات الكترونية ومقاصة شيكات خاصة للمدفوعات بالاموال الجديدة بالليرة وبالدولار.

    في الحقيقة، يدرك الجميع في الداخل والخارج، وبتعزيز صريح من تقييمات المؤسسات المالية وفي مقدمها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ان الفجوة الأكثر خطراً تكمن في فشل "الدولة" في مقاربة الأزمة الحاضرة بكل تشعباتها، وبعدما تم تصنيفها بعيد انفجارها في خريف العام 2019 من بين الأزمات الثلاث، الأكثر حدةً عالميّاً منذ أواسط القرن التاسع عشر. ثم في تفشي "الفشل" المتعمد باخراج لبنان من الأسواق المالية الدولية، ليلحقها بعد أشهر التيه العظيم في ادارة الملف القضائي والسياسي الخاص بكارثة انفجار مرفأ بيروت، ثم انتقالاً الى "تعمد"  الفراغات في سلطات الدولة المركزية ومؤسساتها وأجهزتها.

    والحاصل فعلاً، ان "الدولة" التي منحت نفسها ومسؤوليها وأحزابها صكوك براءة مبكرة، رعت قصداً الاستهداف المسبق والممنهج الذي حصر الجزء الوازن من الأزمتين النقدية والمالية بأشخاص القطاع المالي ومؤسساته من بنك مركزي وجهاز مصرفي. ثم سبقت الجميع، من اطراف سياسية وغير سياسية،  في حملات اساءة السمعة والتشفي، ليصل الأمر بالبعض من مسؤوليها الى الإستثمار في التحولات المحتملة وكسب ود مؤسسات خارجية او الاستحصال على فرصة "وظيفة" منشودة.

    وفي ظل هذه المعمعة المقصودة، ثبت من دون الحاجة الى المزيد من القرائن والشواهد، ان الدولة، كمنظومة حكم وكادارة لشؤون البلد والاقتصاد والناس، تعلو بمصالحها لقاء اسقاط البلد. ذلك يجري جهاراً بارادة صانعي القرار، وبما تنتهجه السلطة من انكار صريح للواقع المزري، وبتوافق نافر بين مكوناتها الفاعلة على تعميق قعره على كل المستويات. ولطالما صنّف البنك الدولي لبنان على أنّه دولة هشاشة، ونزاع، وعنف، وبالتالي، لاحظ مبكراً الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة المتردية قد تهدّد بانهيار وطني منهجي من دون بارقة أمل بتغيير يلوح في الأفق، نظراً إلى التقاعس المتعمد عن اتخاذ السياسات الملائمة.