رحيل نعمان الأزهري.. حكيم المصارف

  • 2021-11-02
  • 12:56

رحيل نعمان الأزهري.. حكيم المصارف

يغيب وفي قلبه غصة على ما شهده من تخريب للبلد وللصناعة المصرفية

  • كتب فيصل أبوزكي

رحل نعمان الأزهري حكيم العمل المصرفي والمصارف في زمن تعز فيه الحكمة ويعزّ فيه الحكماء، وهو ربما بين أواخر الكبار ورواد العمل المصرفي الذين عرفتهم المنطقة خلال هذه الحقبة الحبلى بالاحداث والتغييرات. رحل وفي قلبه غصة، إذ قيض له أن يعيش ليرى كيف تمكنت نزوة التدمير من زعزعة القطاع المصرفي وهدم الاقتصاد ودفع الدولة إلى هاوية الإفلاس وإفقار الناس وإغلاق نوافذ الأمل في وجه الناس ودفعهم للهجرة.

كان حزنه بحجم الإنجازات الكبرى التي حققها في مساره المهني الطويل والتي رآها تتداعى مع إنجازات اللبنانيين الكثيرة تحت ضربات الفتن وسيطرة الغرائز. وقد كان نعمان الأزهري ولمدة نصف قرن أو أكثر قيادة بارزة ومحترمة لصناعة مصرفية ساهم مساهمة كبرى في إرساء قواعدها ونهجها وترك بصماته الواضحة عليها. ومن أهم البصمات التي تركها ثقافة المحافظة والتحوط والتوازن في العمل والقدرة الفائقة على التفكير والتطبيق والحس المرهف في استشعار الفرص كما المخاطر، وانضباطه وانتباهه الدائم لحدود القوة والضعف في مصرفه والعمل المصرفي ككل بحيث تمكن من تلافي الكثير من الازمات والمطبات التي تسببت أحياناً بخسائر كبيرة لبعض المصارف، وهو بصورة خاصة حرص على أن لا يخلط بين العمل المصرفي البحت وبين الانتهازية التجارية والخروج عن خط المهنة الدقيق سعياً وراء فرص ربح تجارية عابرة لكن لا تقع ضمن التخصص الصارم للنشاط المصرفي دون غيره، لكن الأزهري تمكّن مع ذلك من التوفيق بين التزام النهج المصرفي القويم وبين اغتنام الفرص والتوسع إلى أسواق واعدة عند كل سانحة، بحيث امتدت شبكة البنك خلال عقود قليلة من لبنان إلى مصر والأردن والإمارات والسعودية وقطر وفرنسا وسويسرا وإنكلترا وقبرص ورومانيا وغيرها. 

من أهم إنجازاته ولا شك أنه تمكن من حسم مسألة انتقال القيادة في البنك بصورة سلسلة من كاهله إلى كاهل ابنائه سعد وسامر وعمر بحيث تم ذلك بصورة مدروسة وعبر مراحل شهدت ابتعاده تدريجياً عن القيادة اليومية للبنك ونقل عبء مسؤولية قيادة المجموعة الى ابنه سعد لكن دون ان يحجب عنه حكمته ومشورته الثمينة كلما دعت الحاجة.  

ينتمي نعمان الأزهري إلى مرحلة مبكرة من العمل المصرفي المحافظ شهدت منذ أربعينات وخمسينات القرن الماضي تطور الصناعة المصرفية في البلدان العربية على أسس متينة وفي الوقت نفسه تطور مصرفيين عريقين نجح كل منهم، كل على طريقته، في إقامة أكبر مؤسسات مصرفية صلبة والتي تمكنت، وليس في ذلك أي صدفة، من مقاومة الأنواء السياسية والأزمات الكبرى في أسواقها أو في المنطقة، وما زالت هذه المؤسسات تقود العمل المصرفي العربي بالزخم نفسه والاستمرارية مستندة إلى رصيد الثقة الكبير الذي تحظى به بين العملاء، ولم تؤثر التطورات العديدة التي طرأت على العمل المصرفي في مكانة هذه المصارف وخصوصاً بنك لبنان والمهجر لأن القيادة التاريخية ثم الجيل التالي الذي تدرّب على يدها تمكنوا دوماً من مواكبة تطور الصناعة المصرفية والأخذ بأحدث الأساليب والتقنيات والابتكارات لكن مع الحفاظ دوماً على نهج الانضباط والتحوط الذي بات طبيعة ثانية لهذه المؤسسات وقانون سلوك شامل لجميع من يعمل فيها.

وقد بدأ نعمان الأزهري العمل المصرفي في أواخر خمسينات القرن الماضي عندما أسس وترأس بنك المشرق العربي في دمشق -سوريا، لكن تاريخه الطويل والحافل بالتجارب والنجاحات سيرتبط ببنك آخر هو بنك لبنان والمهجر الذي تولى إدارته العامة في العام 1962 في ظل رئاسة المرحوم الحاج حسين العويني لمجلس إدارة البنك قبل أن يتولى بنفسه ابتداء من العام 1971 منصبي رئيس مجلس الإدارة والمدير العام، أي أن الأزهري أنفق 50 سنة من عمره الغني في قيادة بنك جعل منه ومنذ مطلع الألفية الحالية البنك الأول في لبنان وأحد المصارف العربية الريادية من حيث الأداء المالي والانتشار الخارجي. 

كما كان نعمان الأزهري شاهداً على نمو الصناعة المصرفية وازدهارها، فقد كان أيضاً شاهداً صامتاً على التدهور السياسي للمنطقة وتقهقر اقتصاداتها وتراجع حظوظها بين الأمم، إذ شهد وهو في مقتبل شبابه الوحدة الفاشلة بين مصر وسوريا وتبوأ مناصب وزير المالية والاقتصاد والتخطيط في الحكومات السورية التي قامت بعد فصم عرى الوحدة واستعادة سوريا لكيانها المستقل، لكن ومع سيطرة الأحزاب والعسكر مجدداً على سوريا قرر ترك السياسة والتفرغ لمهنة المصارف التي أحبها وتكرّس لها طيلة الفترة التي بقيت من حياته. 
كان نعمان الأزهري أكثر المصرفيين اللبنانيين قلقاً من التنامي الكبير مع السنوات للدين العام وهو لم يفوت فرصة أو مداخلة أو مقابلة صحفية دون التنبيه إلى خطورة النمو الكبير لحجم الإقراض الحكومي كنسبة من محفظة التسليفات المصرفية، وانعكس قلق الأزهري في سياسات بنك لبنان والمهجر الذي خفف كثيراً من المشاركة في إصدارات السندات الحكومية، لكن لم يكن لمواقفه التحذيرية المتكررة أن تغير كثيراً في مجرى القطار الذي كان مندفعاً بسرعة نحو الهاوية.