الضرورات تبيح المحظورات؟

  • 2020-01-17
  • 10:40

الضرورات تبيح المحظورات؟

  • نديم مخيبر

عندما يشتعل الحريق، فالأولوية هي لإطفائه، وإلا لحصره، وأضعف الإيمان لمحاولة التخفيف من امتداده وحصر اضراره.

أمّا تحديد المسؤوليات فيمكن أن يتأخر إلى ما بعد الأولويات المتقدم ذكرها.

نحن في لبنان لا نزال في بداية أضعف الأولويات في محاولة التصدي للانهيار النقدي، ولا أقول معالجته.

لذلك، لن أتطرّق حالياً إلى المسؤوليات المختلفة والمتعددة، التي تجدر مناقشتها في بحث مستقل.

بل أتساءل: من يمكن أن يحاول التصدي للانهيار المذكور؟

الحكومة، المجلس النيابي، مصرف لبنان، جمعية المصارف، المصارف...؟

لم نر لغاية تاريخه أية تدابير اتخذتها الحكومة (حتى وإن كانت حكومة تصريف أعمال) ولا المجلس النيابي، برغم أن لجنة الإدارة والعدل أقرت أخيراً مشروع رفع قيمة ضمان الودائع لغاية 75 مليون ليرة لبنانية (وقد يكون من المفيد البحث لاحقاً في ما إذا كان هذا المشروع وسيلة ناجعة في التصدي للانهيار)،

إنما شهدنا بعض التدابير التي اتخذتها بادئ ذي بدء جمعية المصارف، ثم مصرف لبنان.

جمعية المصارف قررت بشكل عام نوعاً من "الكابتيل كونترول"، ونستعمل المصطلح الأجنبي لأنه أصبح مألوفا لدى اللبنانيين، فمنعت التحويلات إلى الخارج والتحويل من الليرة اللبنانية إلى العملات الأجنبية وحددت السحوبات النقدية بالعملات الأجنبية وخصوصاً بالدولار الأميركي، (كل ذلك بتفاوت مختلف واستثناءات استنسابية بين مصرف وآخر ومودع وآخر).

وبصرف النظر عن حقها القانوني بتقرير ذلك (وهذا موضوع بحث آخر)، نقول بكل شجاعة أدبية وبعيداً عن المزايدات الشعبية، إنها من حيث المبدأ، أحسنت التصرف من دون أدنى شك، علماً أن المصارف لم يكن، ولن يكون، لها بديل عن هذه السياسة لتجنّب التوقف كلياً عن الاستمرار في خدمة الزبائن ولو في الحد الادنى.

ونضيف بكل قناعة، أنه بتخلف السلطات المعنية، ونخص بالذكر المجلس النيابي بصفته صاحب الصلاحية في تقرير مثل تلك الأمور بناءً على اقتراح من الحكومة (و لو حكومة تصريف أعمال، باعتبار أن هذا الشأن من الأمور الملحة والمستعجلة) أو بناءً على اقتراح قانون معجل مكرر وفقا للأصول، فلا يمكن إلا أن ننوه بقرار الجمعية المذكورة والمصارف لاعتماد هذه القرارات في المبدأ (ونشدد عل عبارة في المبدأ، لأنه تبين أن بعض الممارسات كانت كيفية)، وأن ننتقد بعض الممارسات الواقعية (مثل التعدي على بعض المصارف وموظفيها، لكسر المبدأ المذكور) أو بعض الاجتهادات التي خلصت إلى إلزام المصرف بتسديد الوديعة بالعملة الأجنبية كاملة إلى المودع وفقا للطريقة التي يختارها هذا الأخير، بما في ذلك نقداً، وتحت غرامة إكراهية باهظة، لما في ذلك من مجافاة لنصوص قانونية وتعاقدية، من جهة أولى، ومن نتائج كارثية على الصعيد الكلي من جهة ثانية إذا تكرر هذا الاجتهاد لمصلحة عدد كبير من المودعين، إذ يؤدي هذا الاجتهاد عندئذ إلى تفريغ صناديق المصارف من العملات الأجنبية الشحيحة المتوفرة لديها لمصلحة حفنة من المودعين الذين يراجعون الجهة القضائية التي تعتمد هذا الاجتهاد، على حساب السواد الاعظم من المودعين وبالتالي الى الاخلال في المساواة بين المودعين، فيكون قد تحقق العدل (لو سلّمنا جدلا بصوابية هذا الاجتهاد) على حساب الانصاف!

مصرف لبنان اتخذ لغاية تاريخه (ونعني بعد انفجار الأزمة، ولا نقيّم في ما يلي سياساته السابقة لذلك) بعض التدابير التي تساعد في التصدي للانهيار، أهمها:

إلزام المصارف بتعزيز أموالها الخاصة ولو بمقدمات نقدية. ورأينا أنه آن للمصارف التي حققت أرباحا كبيرة في الفترة الماضية أن تعيد ضخ قسم من هذه الارباح في أموالها الخاصة، كما من واجبها أن تساهم في التصدي للانهيار، مقابل مسؤوليتها التقصيرية في سياسة توظيفاتها (والتي ستناقش في بحث مستقل)،

تحديد سقف للفوائد الدائنة على الليرة والدولار الأميركي باتجاه تخفيضها، وما يستتبع ذلك من خفض الفوائد المدينة. وبغض النظر عن قانونية إلزام المعنيين بخفض الفوائد بهذه الوسيلة، نقول إن هذا الإجراء مفيد جدا في التصدي لما لمسناه من انهيار اقتصادي، وهو يسير بعكس السياسة السابقة للمصرف التي شجعت على الفوائد الباهظة من خلال الهندسات المالية السابقة.

الرجوع عن قرار إلزام المؤسسات غير المصرفية التي تقوم بعمليات التحويل النقدية بالوسائل الالكترونية بتسديد قيمة التحويل بالليرة اللبنانية، وإلزامها بتسديد التحويل بعملة التحويل نفسها. ولا يسعنا إلا التأكيد على صوابية هذا القرار اذ من شأنه ان يشجع غير المقيمين على تحويل عملات اجنبية الى لبنان بواسطة تلك المؤسسات بحيث يستطيع المحول اليه القبض بالعملة الأجنبية، وتجنب التحويل بواسطة المصارف التي تلزمه بقبض التحويل بالليرة اللبنانية ووفقاً للسعر الرسمي الذي يبلغ حاليا نحو 70 في المئة من سعر السوق المتداول.

وجوب تسديد الفوائد المستحقة على ودائع الزبائن بالعملات الأجنبية التي تستحق بعد الرابع من كانون الأول/ ديسمبر 2019 بمعدل النصف بالليرة اللبنانية وفقا للسعر الرسمي والنصف الآخر بعملة الوديعة، وشمول هذا التدبير ايضا شهادات الايداع التي للمصارف لدى مصرف لبنان. ومع التحفظ الشديد على صلاحية مصرف لبنان القانونية على اتخاذ هذا التدبير، إلا أن أهميته أنه يشكل اقتطاعا فعليا من حقوق المودعين سواء لدى المصارف او لدى مصرف لبنان، ويكسر المحذور الذي تهاب المراجع المعنية قانونا (بالدرجة الاولى المجلس النيابي) اعتماده، وهو نوع مما يسمى "قص الشعر" والذي لا بد من الوصول اليه بالنتيجة بتوزيع الخسائر على المعنيين بالنشاط المصرفي (مصارف، كبار المودعين، وحتى مصرف لبنان) إذا أريد التصدي الجدي للانهيار النقدي.

فكيف ستتطور هذه الأمور مستقبلا؟ وما النتائج المرتقبة على هذه التطورات؟