حب القهوة يوحّد ثقافات الأرض

  • 2020-03-24
  • 09:04

حب القهوة يوحّد ثقافات الأرض

  • برت دكاش

من أثيوبيا، خرجت الحياة مرتين. المرة الأولى لدى ظهور الإنسان الأول، والثانية عند اكتشاف حبوب البن. ولمّا كان الماء عنصراً من عناصر الحياة الأربعة: الأرض، الماء، الهواء، والنار، فإن القهوة عنصر أساسي لاستمراريّتها، أقلّه بالنسبة إلى عشّاقها.

من خالد إلى المتصوّفين

يرقى تاريخ ظهور البن أو Café أو Coffee إلى العام 800 إذ يُحكى عن راعٍ يُدعى خالد اكتشفه مصادفة، وهو يرعى قطيعه، عندما لاحظ تغيراً في سلوك أغنامه بعد تناولها نبتة تشبه حبوبها حبوب التوت البري... لقد بدت تلك المخلوقات مفعمة بالطاقة، وتقول الرواية إنها تركته مستيقظاً طوال الليل.

 شارك خالد اكتشافه هذا مع رئيس دير محلّي، فما كان منه ومن رهبان الدير إلا أن خمّروا حبوب البن في مياه ساخنة، واحتسوها، ليواظبوا بعد ذلك على شربها حتى تمدّهم بالطاقة الكافية، ليظلوا مستيقظين طوال الليل للصلاة والتأمّل.

بعد نحو مئتي عام، ظهرت نبتة البن في اليمن. لا يعرف بالضبط كيف وصلت إلى بلاد عدن، غير أن إحدى الروايات تقول إن متصوّفاً جلبها معه خلال زيارته إلى أثيوبيا، وصارت شراب المتصوّفين، يعدّونها بالماء الساخن ويشربونها لتزيل عنهم التعب والنعاس لأداء المزيد من فروض الصلاة والتعبّد. ومنذ العام 1000، ارتبطت صناعة القهوة (البن) باليمن الذي لا يزال ينتج تلك الحبوب، بالرغم من انتشار الإنتاج في معظم أنحاء العالم.

ازدهار زراعة البن

إذا كانت أثيوبيا مهد البن، ففي اليمن نمت زراعته وازدهرت تجارته. صحيح أن تخميره استمر بداية محصوراً فقط برجال الدين، لكن ذلك لم يدم طويلاً، إذ إن شيوع تناول القهوة بين عموم الناس أدّى إلى ارتفاع ناري بالطلب على البن، فراجت زراعته وانتشرت حقول البن على امتداد البلاد لتبلغ أوجها في القرن الرابع عشر، وتحوّلت معها الجزيرة العربية إلى مرتع لثقافة المقاهي "Kaveh Kanes" التي انتشرت على نطاق واسع.

وفي القرن الخامس عشر، أصبحت مقاهي مكة مقصداً للرجال لاحتساء القهوة وهم يلعبون الشطرنج أو يتحاورون في السياسة. ما أكسب المقاهي في تلك الحقبة أهمية بالغة حيث كانت أمكنة للقاء وتبادل الآراء، وساهم في إطلاق لقب "مدارس الحكماء" عليها.

من مقهى إلى شركة تأمين

أحدث البن الوقع نفسه في أوروبا لدى وصوله إلى القارة العجوز في القرن السابع عشر. في البداية، أطلق عليه رجال الدين صفة "المشروب الشيطاني" لما يبعثه من حيوية ونشاط في الجسم والذهن أيضاً. لكنه سرعان ما انتشر بين الناس أيضاً، وشكلت المقاهي في أوروبا صلب الحياة الاجتماعية فيها، حيث كانت تجمع ذوي الاهتمامات المشتركة للحديث وتبادل الأفكار. حتى إن شركة التأمين البريطانية الشهيرة  Lloyd’s of London بدأت كمقهى شعبي يلتقي فيه البحارة لتبادل الآراء حول شؤون التأمين.

احتكار العرب 

برع العرب في تجارة البن وسيطروا على زراعته على امتداد قرون حيث اقتصرت صادرات البن على حبوب البن المحمصة غير القابلة للزراعة. فغزا الكافيين العالم وسط عجز شركاء العرب التجاريين في أوروبا وآسيا من تأسيس زراعة محلية تكفي بالحد الأدنى حاجاتهما منه، أو حتى شرائه بأسعار منطقية.

استمر احتكار العرب لإنتاج البن إلى أن تمكن أحد الحجاج القادمين من الهند إلى الجزيرة العربية من كسر هذا الاحتكار، كما يُروى. فقد استطاع الرجل تهريب بعض الحبوب الخام إلى بلاده، ما حفّز فيها تجارة البن وأحدث انفجاراً في زراعته. وكذلك فعل الهولنديون في القرن التاسع عشر عندما تمكنوا من تهريب نبتة إلى أمستردام وتأسيس زراعتهم الخاصة في مستعمراتهم في جنوب آسيا.

وشيئاً فشيئاً انتشرت زراعة البن بفضل تمدّد الإمبراطوريات الأوروبية وبناء المستعمرات، فوصلت جذور البن إلى مناطق اشتهرت لاحقاً ولا تزال تشتهر في إنتاج البن مثل جبال جامايكا الزرقاء، وضاحية كونا في هاواي، وجزيرة جافا في أندونيسيا والغابات الإستوائية في البرازيل التي أصبحت وتبقى أكبر منتج للبن في العالم.

البن اليوم

يقدر حجم صناعة البن في العالم اليوم بنحو 100 مليار دولار، وهو يعد ثاني أكثر سلعة تداولاً بعد النفط وتشكل مصدر دخل حيوي للدول المنتجة له كما مصدر دخل لنحو 25 مليون مزارع صغير. وتشير تقديرات إلى أنه يعمل فيها نحو 500 مليون شخص حول العالم، بدءاً من المزارعين وصولاً إلى النادلين في المقاهي.

ويبلغ معدل الاستهلاك العالمي للقهوة حوالي 500 مليار كوب سنوياً؛ وتعدّ البلدان الأوروبية الأكثر استهلاكاً للقهوة، حيث يبلغ معدل استهلاك الفرد في هولندا 260.4 ليتراً سنوياً، تليها فنلندا مع 184.9 ليتراً ثم السويد 141.9 ليتراً، كما يقدر حجم استهلاك الفرد في كندا بنحو 152.1 ليتراً.

بلاد السامبا والبن

تشير الدراسات إلى إن 80 بلداً في العالم يملكون المقومات لزراعة البن، إلا أن 50 فقط ينتجونه حالياً، ويتوزعون بين أميركا اللاتينية، الأشهر في إنتاج البن، وأفريقيا وآسيا. ويشبّه الخبراء البن بالعنب حيث يتأثر طعمه بعوامل كثيرة مثل العامل الاجتماعي، والشروط المناخية، ومستوى الارتفاع عن سطح البحر وغيرها. وعليه، يختلف نوع البن من حيث الصنف والجودة بين دولة وأخرى إختلافاً شاسعاً أحياناً تبعاً للرطوبة، وتعرضه للشمس وتكوين التربة.

وتشتهر البرازيل في كونها أكبر منتج للبن في العالم، وقد لعبت هذه الزراعة دوراً أساسياً في تطوّر البلاد، ولا تزال تمثل قوة دفع للاقتصاد البرازيلي. وصلت النبتة إليها في القرن الثامن عشر على يد المستعمرين الفرنسيين، ومع رواج القهوة بين الأوروبيين، أصبحت غابات البرازيل الإستوائية أكبر منتج للين في العالم في أربعينيات القرن التاسع عشر. ويقدر عدد مزارع البن في البرازيل بنحو 300 ألف مزرعة تضم حوالي 3 مليارات شجرة بن، ويعمل في زراعته وقطفه نحو 5 ملايين عامل. وبحسب إدارة الزارعة في الولايات المتحدة، أنتجت بلاد السامبا 3.9 ملايين طن متري من البن في العام المالي 2018- 2019، وهو ما يمثّل أكثر من ثلث الإنتاج العالمي.

في المقلب الآخر، استطاعت فيتنام بسرعة قياسية أن تصبح واحدة من أكبر الدول المنتجة للبن، حيث نجحت رهانات الحزب الشيوعي في ثمانينات القرن الماضي على البن، وزاد إنتاجها بنسبة 20 إلى 30 في المئة سنوياً في التسعينيات، محدثاً تحولاً كاملاً في الاقتصاد الوطني للبلاد. وبلغ إنتاجها 1.8 مليون طن متري بحسب إدارة الزارعة في الولايات المتحدة. وتشتهر فيتنام بإنتاج بن "روبوستا" وتتصدر قائمة البلدان المنتجة لهذا النوع في العالم مع نحو 40 في المئة من الإنتاج العالمي. ويعد "روبوستا" نوعاً رخيصاً من البن، وهو يحتوي على ضعف كمية الكافيين الموجودة في حبوب "أرابيكا"، ما يمنحه مذاقاً أكثر مرارة.

البن الفاخر

لإنتاج البن الفاخر أيضاً مصادره، وهو موزع بشكل أساسي بين خمس دول هي:

كولومبيا

تعد كولومبيا أحد عمالقة صناعة البن ومصدر 15 في المئة من الاستهلاك العالمي للبن. تنتج الدولة الإستوائية أحد أجود أنواع البن، هو "أرابيكا"، إلى جانب أنواعً أخرى مثل "سوبريمو"، "إكسترا" و"إكسيلسو سوبريمو" الذي يصنف كأحد أفضل أنواع البن، ويمتاز بنكهة حموضة شبيهة بالطعم الذي يخلفه النبيذ في الفم.

غواتيمالا

تشتهر غواتيمالا بدورها، بجودة إنتاجها العالية حيث يعتبر بنّها أحد أفضل الأنواع في العالم كونه ينمو في مناطق جبلية، فيطور نكهة قوية ولاذعة. ومن أشهر الأصناف المنتجة في غواتيمالا بن "أنتيغا فولكانك" الذي يتمتع بطعم مميز وثقيل ورائحة قوية ونقية منقّحة بنفحات دخانية.  ونظراً لتعرض البلاد لرياح المحيط باستمرار، قد يحمل خموضة ظاهرة أحياناً.

كوستا ريكا

يتمتع بن كوستا ريكا بطعم كلاسيكي، وتمتاز حبوب البن التي تنمو في تربتها البركانية بنعومتها وسلاستها وبنكهة غنية تشبه نكهة الجوز. وأكثر أنواع البن شهرة فيها هو الـ"مارغاريتا"، و"كاشيير" و"كوستا ريكا".

اليمن

في جبال اليمن جنوب غرب شبه الجزيرة العربية ينتج من قرون بن "أرابيان موكا"، وهو أحد أشهر أنواع البن في العالم. يتمتع بنكهة الشوكولاته مع نفحات خفيفة من نكهة النبيذ. ونادراً ما يصدّر هذا النوع نظراً للكميات الصغيرة المنتجة منه، فيما يتم تصدير حبوب "ماتاري"، و"شرقي" و"سناني".

أثيوبيا

هي مهد البن وأكبر منتج له في أفريقيا. ينمو في أثيوبيا بعض أفضل الأصناف، ومنها بت "هرّار" الذي يزرع في مرتفعات الجزء الشرقي من البلاد، ولاسيما في مزارع صغيرة يملكها فلاحون. تمتاز بطعمها الشبيه بطعم النبيذ مع شيء من المرارة، كما قد تتمتع بنكهة لاذعة أو طعم الفاكهة، وذلك تبعاً للظروف التي نمت فيها. ووفق إدارة الزراعة في الولايات المتحدة أنتجت أثيوبيا 450 ألف طن متري من البن خلال العام المالي 2018-2019، مستعيدة بذلك من الهوندوراس المركز الخامس عالمياً من حيث الإنتاج.

جامايكا

أما نخبة البن فتنتجه جامايكا. يمتاز بنها بنكهته الكلاسيكية وبرائحته النقية والشبيهة برائحة مشروب الكونياك، وقد يصل سعر النصف كيلوغرام تقريباً من البن الجامايكي إلى نحو 60 دولار.

مقصد المفكرين

من أقدم مقاهي العالم والتي لا تزال تعمل لغاية اليوم، مقهى  Café Le Procopeفي باريس ومقهى  Caffè Florian, Venice. تأسس الأول في العام 1686، وهو أحد أقدم المقاهي في العالم اشتهر باستضافته ثوار ومفكرين أمثال فولتير، وروسو، وتوماس جيفرسون وبنجامين فرانكلين. أما   Caffè Florian, Venice  فتأسس في العام 1720 في البندقية، وكان الوحيد آنذاك الذي يسمح للنساء بارتياده، وقد أمّه بارزة مثل لورد بايرون، وبروست وديكنز.

كما اشتهرت مقاهي كثيرة بارتيادها من قبل مشاهر في ميادين الفكر والعلم والسياسة في أوروبا مثل Caffè Greco, Rome  الذي تأسس في العام 1760 ومن أشهر رواده كيتس، ولورد بايرون، وغوته وفاغنر وغيرهم. ومقهىCafé Central, Vienna  الذي تأسس في العام 1876 وأصبح معلماً ثقافياً من معالم مدينة فيينا، وقد كان بمثابة حاضنة لأبرز المثقفين مثل فرويد، ولينين وتروتسكي.

جامعة البشر

في كوكب يقطنه أكثر من 6 مليارات إنسان، يشكل الاستمتاع بكوب من القهوة القاسم المشترك بين جميع ثقافات الأرض. وأيا كان صنف القهوة وطريقة تحضيرها، فكل يجد في صنفه المفضّل متعة قد لا تضاهيها متعة أخرى. مع وجوب التذكر بأن القهوة "السادة"، وفق ما تشير إليه الدراسات، الأفضل للصحة كونها مكونة من ماء وبن فقط، ما يجعلها قليلة السعرات بالإضافة إلى تحفيزها لنظام حرق "الدهون السمراء" Brown Fat التي بدورها ترفع طاقة الجسم وبالتالي من قدرته على حرق السعرات الحرارية.