المعهد الدولي للتمويل: لبنان أخطأ بتثبيت سعر صرف الليرة

  • 2020-03-03
  • 15:10

المعهد الدولي للتمويل: لبنان أخطأ بتثبيت سعر صرف الليرة

تقرير متشائم عن الاقتصاد اللبناني

  • رشيد حسن

نشر المعهد الدولي للتمويل، الذي يعكس عادة وجهة نظر المصارف الدولية، تقريرا يعتبر غير مسبوق في نظرته المتشائمة إلى الأزمة المالية والنقدية في لبنان. فهي أزمة فشل للحكومات المتعاقبة في تطبيق أبسط قواعد الإدارة الرشيدة للمالية العامة، وفي الوقت نفسه، أزمة فساد سياسي مستشر، يمكن اعتباره المسؤول الأول عن العجوزات التي تراكمت إلى أن بلغ الوضع المالي والنقدي اللبناني حافة الهاوية التي يقف عليها الآن.

لكن المعهد أفرد أيضا بعض النقد لسياسة مصرف لبنان في تمويل العجوزات المالية ثم في الحفاظ على سعر صرف مرتفع وغير واقعي لليرة اللبنانية، الأمر الذي شجع الاستيراد وساهم في اتساع العجوزات وبالتالي الدين العام.

قبل الدخول في التحليل نشير إلى أن أحد أوجه أهمية التقرير هو وضعه من قبل الخبير المالي غاربيس إيراديان الاقتصادي الأول لمنطقة الشرق الأوسط في المعهد الدولي للتمويل والذي طلبت منه الحكومة اللبنانية تقديم المساعدة في تصميم برنامج إصلاحات اقتصادية لاعتماده في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ( المشورة قدمها إيراديان بصفته الشخصية للحكومة اللبنانية ومن دون مقابل مالي). ومن هذه الناحية فإن تقرير إيراديان، الذي شارك فيه خبير المعهد جونا روزنتال، يكتسب أهمية خاصة لفهم دقة الوضع المالي والنقدي في لبنان.

تركيز الباحث في تقريره على "جذور الأزمة في لبنان" يستند إلى الأبحاث المستفيضة التي أجراها في نطاق إعداد المشورة المقدمة للدولة اللبنانية. وهو اختار، كما يبدو، الأسلوب الفعال لتشخيص المرض باعتباره يُسهّل على واضعي السياسات، القبول بالعلاجات المرة كخيار وحيد باق إذا أرادت الحكومة اللبنانية تجنب الأسوأ.

تشاؤم واضح

وبسبب اطلاع الكاتب من الداخل على وضع المالية اللبنانية، والعوامل الأخرى المؤثرة في الأزمة مثل الهدر والفساد والاهتراء السياسي، فإن التقرير يتسم بتشاؤم واضح وبإعطاء اهتمام أكبر للأسباب السياسية مثل غياب الأهداف المالية والفساد المستشري والهدر في إدارات الدولة ومقاومة الإصلاح في قطاع استراتيجي مثل الكهرباء وغير ذلك. والرسالة المضمرة بالطبع هي أن معالجة المأزق اللبناني ليست تقنية وليست بالحصول على مساعدات أو أموال، بقدر ما قد تتطلبه من تكوين لسلطة سياسية حديثة مختلفة عن الطبقة التي أوصلت البلد إلى حافة الهاوية.

يبدأ إيراديان تقريره بالإشارة إلى أن الأزمة الاقتصادية المستعصية في لبنان هي نتيجة "تاريخ طويل" من الفشل المتكرر في تطبيق سياسة اقتصادية جادة وذات صدقية. وهو فشل يعكس بدوره تسييس الاقتصاد والضعف الشديد في عمل المؤسسات، أضف إلى العوامل البنيوية، التحديات التي نجمت عن الأزمات الإقليمية والتي أدت إلى تآكل تدريجي في الثقة بلبنان وبالتالي إلى الأزمة الحالية. ويشدد التقرير على ثلاث عوامل مصادر أساسية لانهيار الوضع المالي:

  1. سجل مخيب للأداء المالي الحكومي وهو ما تسبب بتزايد مستمر في الدين العام.
  2. خسارة الاقتصاد لجاذبيته بسبب السعر المصطنع لصرف الليرة اللبنانية
  3. الفساد المستشري في مختلف مستويات الدولة والحماية الموفرة للفساد من نظام محاصصة طائفي أحبط على الدوام اتخاذ قرارات جريئة تعيد الاقتصاد إلى مساره الصحيح. 

ويشرح التقرير أن الخطأ المنهجي الأساسي في مقاربة الدولة هو أنه لا يمكنك الاحتفاظ بسعر صرف قوي في ظل اختلالات مالية جوهرية، وهذ الخطأ تفاقمت آثاره بسبب التمويل الموفر من قبل البنك المركزي للعجوزات المالية للدولة اللبنانية.

العامل الجيوسياسي: يعزو التقرير جزءا مهماً من الاختلالات المالية إلى الصراع الإقليمي بين ايران والمملكة العريبة السعودية ودول الخليج وفشل لبنان في بلورة سياسة خارجية مرنة تبقيه على المسافة نفسها من القوتين، وأدى ذلك إلى انحسار كبير في مداخيل لبنان من السياحة وتحويلات العاملين في الخارج والتدفقات الرأسمالية الأخرى.

خطأ المحافظة على سعر صرف مرتفع

ساهمت العوامل المشار إليها في اتساع مستمر في العجوزات الأولية، وهي العجز السنوي في الميزانية الحكومية وعجز ميزان المدفوعات. ويعتبر إيراديان أن العجز في ميزان المدفوعات يعود بالدرجة الأولى إلى سياسة الإبقاء على سعر غير واقعي لليرة تجاه الدولار، وبالتالي تجاه عملات الاستيراد إذ أدى ذلك إلى تشجيع الاستيراد وزيادة الاستهلاك. أما العجز في الميزانية الحكومية فقد نتج عن نقص الإيرادات نتيجة لتردّي النظام الضريبي وسيطرة الفساد، بينما زاد الطين بلة على جانب الإنفاق، الفشل المستمر في إصلاح النزف الهائل في قطاع الكهرباء، إذ جوبهت كل المساعي بـ "مقاومة ضارية" من أصحاب المصلحة في بقاء الوضع كما هو. ونتيجة لكل هذه العوامل فقد بدأ العجز يرتفع بصورة غير مسبوقة منذ العام  2011. كذلك يعزو التقرير جزءا أساسي من المشكلة إلى الإقرار غير المسؤول لسلسة الرتب والرواتب سنة ،2018 وهو أمر أثر سلبا على السيولة المالية للدولة.

الدور المخرِّب للفساد

إن أي سياسة للإدارة العقلانية للدين العام كانت تتطلب، بحسب تقرير المعهد الدولي للتمويل، المحافظة على معدل نمو مستدام للناتج المحلي، والتحول إلى تحقيق فوائض مهمة في الميزانية الحكومية، وتحقيق أسعار فائدة حقيقية، ثم تأمين الوصول إلى أسواق الرساميل.

لكن لم يتحقق مع الأسف أي من هذه الشروط البديهية، بل على العكس من ذلك، رأينا استشراء الفساد بصورة غير مسبوقة وهو ما يجعل استئصال هذه الآفة من أهم التحديات التي يجب على الحكومة اللبنانية الجديدة أن تواجهها.

أشار التقرير إلى أن عنوان الفشل في السياسات المالية وتراخي السياسة النقدية هو أن الاقتصاد اللبناني يسجل نمواً سلبيا منذ ثلاث سنوات، وأنه لم يسجل نمواً حقيقيا منذ العام 2011 (إذ بلغ معدل النمو الحقيقي نحو 0.5 في المئة خلال الفترة من 2011 وحتى العام 2019 فيما ارتفع العجز في ميزان المدفوعات إلى أكثر من 21 في المئة من الناتج المحلي. وزاد العجز في الميزانية الحكومية عن 9 في المئة من الناتج المحلي، أما الدين العام فقفز من 131 في المئة إلى 164 في المئة من الناتج المحلي خلال الفترة المشار إليها.  في الوقت نفسه أدى تزايد الدين العام إلى تدهور القدرة الاقتراضية للبنان وارتفاع في تكلفة خدمة الدين وإهمال الحاجات التمويلية الحيوية للقطاع الخاص.

وذكر التقرير أن تكلفة فوائد الدين العام استهلكت نحو 53 في المئة من الدخل الحكومي في العام 2019، وهو ما يعطّل عمليا قدرة الدولة على تمويل أي برامج للإنفاق الاستثماري في البنى التحتية أو الخدمات الاجتماعية.

واضاف أن النقص الفادح المفاجئ في الدولار، أجبر الحكومة على توجيه السيولة بالعملات لتمويل استيراد سلع أساسية مثل الفيول على حساب توفير العملات للاقتصاد المحلي، خصوصا حاجات المؤسسات التي خفضت أعمالها أو عدد موظفيها، بينما أقفل بعضها الآخر وسرح العاملين، وهو ما قد يرفع نسبة البطالة في لبنان إلى 20 في المئة ومعدل من يعيشون تحت خط الفقر إلى 40 في المئة من السكان.

وإذ توقع التقرير أن يرتقع معدل التضخم في لبنان في العام 2020 إلى 20 في المئة نتيجة لانعكاسات تدهور سعر الصرف وقيام سوق موازي للدولار في التعاملات الخاصة. خلص إلى أن القيود التي فرضت على حركة السحب والتحويل في المصارف، كانت إجراءً حيويا وضروريا لحماية النظام المصرفي، لكن يجب أن تكون مؤقتة، لأن تمديد أجل هذه القيود سيتسبب بضرر كبير للنشاط الاقتصادي ولفرص التعافي. فالتفكير برفع القيود ثم توحيد سعري الصرف الرسمي والموازي، لا يمكن أن يتم قبل تحسن الوضع المالي للبلد عبر إقرار برنامج إصلاحات، ومن ثم استعادة لبنان لقدرته على استقطاب الرساميل. بهذا المعنى فإن توحيد السعرين، في ظروف عدم الاستقرار الحالي، سيكون خطأ لأنه سيؤدي إلى انهيار الثقة وتدهور متسارع في سعر صرف ستكون له نتائج فادحة على الأجور ومستويات المعيشة.