الاتفاق الصيني السعودي الإيراني يخلط الأوراق في المنطقة

  • 2023-03-13
  • 11:07

الاتفاق الصيني السعودي الإيراني يخلط الأوراق في المنطقة

مكسب للمنطقة وللدبلوماسية السعودية والصينية

  • رشيد حسن

بعد نحو سبع سنوات من النزاع العدائي، عقدت المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية الرايات في اتفاق هو أقل من صلح لكنه أكثر من هدنة، فهو إذا أردنا تعبيراً بين الإثنين "مصالحة" تعتني بمعالجة الخلافات والاهتمام بالمصالح المشتركة والعائد المتوقع من السلام الإقليمي والتقارب بين البلدين، لكن دون الطموح لاتفاق أوسع على الملفات الخلافية أو لوضع حدّ للنزاع الاستراتيجي بين البلدين.

 

 

إقرأ للكاتب نفسه:

من أبرز النتائج المباشرة للاتفاق، إضافة إلى استعادة العلاقات الدبلوماسية وفتح السفارات، تعهد كل بلد بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلد الآخر، ولهذا البند أهمية أكبر للمملكة العربية السعودية لأنه يعني توقف طهران عن جهود التدخل في الشؤون الداخلية للعديد من البلدان العربية وزعزعة الاستقرار فيها، وقد تكون إحدى نتائج الاتفاق الثلاثي تركيز أكبر على حل النزاع اليمني عبر صيغة للشراكة السياسية مع دعم كبير سعودي وخليجي لإعادة إعمار اليمن.

 


 

 

لكن الاتفاق برغم محدوديته حدث كبير بكل ما في الكلمة من معنى وهو اتفاق يعطي للسعودية ما يكفي لحماية خاصرتها،، كما إن التزام الطرفين بإعادة العلاقات الدبلوماسية والسفارات عنوان للتهدئة القادمة لكنه في الوقت نفسه عنوان ربما لمرحلة أعمّ من مفاوضات "الخطوة خطوة" التي تستهدف تفكيك حقول الألغام التي قامت بين إيران وبلدان المنطقة على مدى السنين، وقد تأخذ المرحلة التالية سنوات لكنها ستكون محكومة بسقوف جديدة للتحرك الإيراني هي سقوف الاتفاق الثلاثي المدعوم بضمانات صينية والتطلع الإيراني للخروج من العزلة والعودة التدريجية لعلاقات هادئة سياسية وتجارية مع الخليج والمنطقة العربية.

 

 

قد يهمك:

ومن العلامات اللافتة على البعد الاستراتيجي للاتفاق التصريح الذي أدلى به رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني عقب الاتفاق إلى وكالة أنباء إيرانية وصف فيه المباحثات التي جرت في بكين بأنها كانت "شفافة وصريحة وشاملة"، مضيفاً أنه يتطلع إلى مرحلة جديدة في العلاقات بين إيران والسعودية تمهد لحقبة من السلام والأمن للمنطقة بأسرها". ويعتبر تصريح شمخاني دليلاً على أن المباحثات التي رعتها الصين شملت مجالات وقضايا خلافية عدة وأن الاتفاق شمل بالتالي مسائل أوسع من تلك التي أعلن عنها بطلب من البلدين.

أما في ما يتعلق بلبنان والعراق، فإن الاتفاق يخلق بالتأكيد الأجواء المناسبة لانفراج سياسي قد يساعد على معالجة النزاعات المزمنة وإطلاق العملية السياسية المعطلة في هذين البلدين.

من الآثار المهمة للانفراج السعودي الإيراني أنه قد يحد من وتيرة الاندفاعة الاسرائيلية نحو التطبيع مع بلدان الخليج. ولهذا، يمكن القول إن اسرائيل ليست مرتاحة لهذا الاتفاق ولاسيما وانها تبني الجزء الاكبر من سياساتها على معاداة إيران ومحاولة عزلها عن محيطها الإقليمي واستغلال الخوف العربي من القوة الإيرانية لتعزيز التقارب بين الدول العربية وإسرائيل.

 

الدور الصيني

 

أهم ما في الاتفاق السعودي الإيراني أنه صمم لكي يدوم على عكس اتفاقات ثنائية سابقة انهارت تكراراً في خضم التقلبات السياسية والتوترات، وأهم ما يعطي للاتفاق السعودي الإيراني ديمومته وإمكان ترجمته بتفاهمات طويلة الأجل في المنطقة هو أنه اتفاق ثلاثي، تشكل الصين وهي القوة العظمى الثانية بعد الولايات المتحدة، ركنه الثالث والضامن الأول لبنوده ولالتزام الطرفين بأحكامه، ويعكس الاتفاق أيضاً الأهمية الكبيرة التي باتت للصين بالنسبة لاقتصادات المنطقة كما يدل على ذلك حجم الطلب الصيني على النفط السعودي والإيراني وحجم الصادرات الصينية إلى السعودية وإيران بما فيها الصادرات التكنولوجية والعسكرية، وقد لعبت الصين ولا تزال دوراً كبيراً في كسر الحصار النفطي والاقتصادي على إيران وهو ما يعطيها تأثيراً كبيراً على الموقف الإيراني بينما قامت الصين في الوقت نفسه، بتوقيع معاهدة لعلاقات استراتيجية شاملة مع المملكة العربية السعودية أثناء زيارة الرئيس الصيني تشي جن بينغ إلى الرياض في ديسمبر من العام الماضي. وقد غطت المعاهدة مختلف الشؤون الاقتصادية كما تضمنت بنوداً دفاعية ودعماً صينياً شاملاً لمشروع التحول السعودي وتعزيزاً لموقع السعودية التي سعت منذ البدء لأن يؤمن التعاون مع الصين تعويضاً مهماً عن خفض الولايات المتحدة لالتزاماتها في حماية أمن المملكة ومنطقة الخليج.  

 

 

يمكنك المتابعة:

يبقى القول إن التوترات التي سادت العلاقات السعودية الأميركية يمكن اعتبارها مواجهات ظرفية لا تخل بالتحالف السعودي الأميركي المهم للجانبين، لكن الاتفاقية الثلاثية تقدم في الوقت نفسه، مثالاً على عزم السعودية على حماية مصالحها وتنوع تحالفاتها كدولة سيدة، وهي ربما بدأت تدفع بالجانب الأميركي إلى مراجعة مواقفه باتجاه تأكيد العلاقة الاستراتيجية مع المملكة وإرفاق ذلك بمبادرات تزيل أثر الاحتكاكات وتطمئن المملكة إلى قوة الالتزام الأميركي بمصالحها وأمنها.

لكن مما لا شك فيه إن تنامي العلاقات بين الصين من جهة وبين السعودية وإيران من جهة ثانية، بات يعطي لهذه الدولة العظمى ثقلاً متزايداً في البلدين كحليف اقتصادي وسياسي، وفي الوقت نفسه، فإن استقرار المصالح الصينية المتنامية في منطقة الشرق الأوسط (النفط، مشروع الحزام والطريق، الاستثمارات والشراكات) بات مرتهناً إلى حد كبير بعلاقات مستقرة ومستدامة بين السعودية وإيران وباستتباب الاستقرار السياسي والأمني في المنطقة. وأصبحت الصين لذلك مضطرة لوضع مصالحها الجديدة الاستراتيجية على الطاولة والضغط على الجميع لاجتناب أي حروب أو نزاعات قد تهددها. لذلك، اعتبرت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية الاتفاق الثلاثي الذي وقع في بيجنغ انتصاراً دبلوماسياً للصين في منطقة كانت الولايات المتحدة الأميركية ولعقود تهيمن بلا منازع على أوضاعها السياسية.


تراجع التأثير الأميركي

 

إن نجاح الصين في بلورة حدث كبير بحجم الاتفاق السعودي الإيراني الصيني فاجأ صانعي السياسة الخارجية الأميركية وطرح السؤال حول قدرة واشنطن على صون نفوذها التقليدي في شؤون منطقة استراتيجية بأهمية الشرق الأوسط.  وقد قدمت إدارة الرئيس بايدن أمثلة سيئة على كيفية إدارة الصداقات والأحلاف في المنطقة وذلك بتجاهلها الصريح للمصالح الأمنية لدول الخليج وضغوطها العلنية على المملكة وعلى أوبك بل وتهديد الرئيس بايدن للمملكة بـ "نتائج" بعد قرار المملكة ودول أوبك+ إجراء خفض كبير في إنتاج النفط يتطلبه قراءة هذه الدول لأوضاع السوق النفطية.

كما إن انجرار واشنطن وحلفائها الأوروبيين إلى مستنقع حرب أوروبية شاملة وباهظة الكلفة ضد روسيا وما يبدو من مخاطر انهيار النظام الأوكراني وفشل الرهان على إضعاف الاتحاد الروسي، ثم تعزز الحلف بين روسيا والصين كل ذلك لا يمكن أن يبقى بلا نتائج بعيدة الأمد لصالح القوة الصاعدة للصين والتحدي الروسي ونتائج سلبية بالنسبة للاتحاد الأوروبي الذي يعيش من جراء التصعيد المستمر للحرب الروسية الأوكرانية أزمات شديدة.


الإرهاق الإيراني

 

يمكن القول أخيراً إن مما سهل التوصل إلى الاتفاق السعودي الإيراني (إضافة إلى التدخل الصيني) حالة الإرهاق التي باتت تسيطر على المؤسسة الإيرانية نتيجة حالة الحصار المستمرة منذ عقود على الاقتصاد الإيراني بمختلف قطاعاته ومؤسساته، وكذلك بسبب الأعباء المتزايدة لدعم الجبهات التي فتحتها طهران في أكثر من بلد عربي وهي جبهات بلا أفق وذات عائد سياسي متناقص في مقابل الأثمان الباهظة التي تكلفها للاقتصاد الإيراني. وقد ظهر الانسداد بصورة خاصة في الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المستفحلة وتزايد الاحتجاجات الصاخبة التي تربط جميعها بين ضنك المواطن الإيراني وبين الالتزامات الخارجية المكلفة لطهران في المنطقة وما يتعداها. كل ذلك في وقت تشهد المنطقة خصوصاً في المملكة العربية السعودية تحولات كبرى وفورة اقتصادية غير مسبوقة تحدث تحت أنظار النظام الإيراني ويستفيد منها الجميع لكن من دون أن يكون لدى طهران أي طريق للإفادة منها. وفي هذه الأثناء، يستمر تدهور سعر صرف الريال الإيراني ليصل 575,000 ريال للدولار وسط معدلات تضخم يتوقع صندوق النقد الدولي أن تكون بلغت نحو 40 في المئة في العامين 2022 و2023.

 

 

للاطلاع:

واقع الأمر، أن إيران تجد نفسها أسيرة الدينامية نفسها التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي وهي دينامية تجميع القوة العسكرية وتوسيع مناطق النفوذ بتكلفة متزايدة لكن مع ضعف الاقتصاد وعدم مساهمة تلك المحميات بأي دور في ازدهار الاقتصادي السوفياتي الذي بلغ نهاية قدرته على الاحتمال في أواسط ثمانينات القرن الماضي مما فرض على الدولة السوفياتية الإقرار بالواقع وبدء التمهيد للتخلي عن النموذج السوفياتي والدخول في تسوية شاملة مع النظام العالمي.

وقد يكون النظام الإيراني يقترب فعلاً من ساعة الحقيقة خصوصاً تحت ضغط الانتفاضة الشعبية المستمرة في البلاد منذ أشهر والخسائر الاقتصادية  التي يتكبدها والفرص الضائعة نتيجة العزلة الدولية المستمرة وتدهور الوضع الاقتصادي. وقد لا تكون ظروف التحول قد نضجت، لكن إيران المرهقة تبحث عن مهلة طويلة لإعادة التفكير بمكونات الأزمة الوطنية في إيران وإعادة النظر في نظام سياسي اقتصادي مأزوم بات من الصعب إصلاحه بالتفكير والأدوات والسياسات والنخب الحالية نفسها.