زلزال تركيا: المستقبل مرهون بالتزام قوانين صارمة للبناء؟

  • 2023-02-14
  • 16:58

زلزال تركيا: المستقبل مرهون بالتزام قوانين صارمة للبناء؟

الاقتصاد التركي يترنح والخسائر قد تتجاوز 84 مليار دولار

  • رشيد حسن

 

بعد أكثر من أسبوع كامل على زلزال تركيا المدمر ومئات الهزات الارتدادية التي تبعته، بدأ غبار الكارثة ينجلي ويتضح من خلفه الحجم الحقيقي لحجم المأساة الانسانية والدمار الذي أصاب منطقة واسعة من تركيا، قدرها بعض الخبراء بما يعادل مساحة فرنسا، كما أصابت بأضرار مختلفة ما لا يقل عن 13.5 مليون من السكان، ودمرت كثيراً من البنى التحتية والطرق السريعة ومدارج المطارات وخطوط القطارات والكهرباء وغيرها. وبينما يتجاوز إحصاء قتلى زلزال تركيا رقم الـ 30 ألفاً في تركيا وحدها، وهو أعلى رقم مسجل لأي زلزال تركي، بدأ الحديث عن خطط الحكومة لإعمار ما تهدّم، وتوفير السكن للذين دمرت بيوتهم، وهي عملية قدر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنها قد لا تتجاوز العام، فيما اعتبر بعض المراقبين أنها غير كافية خصوصاً مع انجلاء الصورة عن حجم الخسائر الهائلة التي أصابت الاقتصاد التركي والتي قد تجعل من الإعمار قضية سنوات.

 

 

إقرأ أيضاً:

الاقتصادان التركي والسوري سيحتاجان إلى وقت طويل لتجاوز كارثة الزلزال

 

 

 

نحو خطة مدروسة

 

مع ذلك، فإن مصادر الرئيس أردوغان، تؤكد على أن الخطة ستكون مدروسة وممولة تمويلاً كاملاً، وتشارك في تنفيذها مستويات الدولة والهيئات المحلية كافة. وتستشهد هذه الأوساط بسابقة الزلزال المدمر الذي ضرب منطقة إزميت التركية في 18 آب/أغسطس 1999 وخلف أكثر من 18,000 قتيل ودماراً واسعاً، إذ حدث عندها أن تم وضع خطة من أربع مراحل، تضمنت توفير المساعدات النقدية للمتضررين، والإسراع في إعادة إعمار البنى التحتية والمباني، كما تضمنت نظاماً للتأمين وهيكلاً لمواجهة الأزمات، يتدرج عمله من الحكومة المركزية حتى البلدات والهيئات المحلية والسكان، وقد وصف ممثل اقتصادي تركي يعمل مع البنك الدولي تلك الخطة بأنها "كانت أنجح وأسرع عملية إعادة إعمار تجري بعد كارثة بتلك الحجم".

 

 

قد يهمك:

أعوام ومليارات الدولارات لإعادة اعمار ما دمره زلزال تركيا وسوريا في دقيقة

 

 

أرقام صادمة

 

 

وفي ما استمرت أرقام ضحايا زلزال تركيا في التصاعد، بدأت تنجلي في الوقت نفسه، تقديرات الفاتورة الضخمة التي ستتكبّدها الحكومة التركية في إعادة بناء البيوت المهدمة والبنى التحتية، وقد ارتفعت هذه التقديرات باستمرار من نحو 5 أو 6 مليارات دولار بحسب بنك أوف أمريكا، إلى نحو 84.1 مليار دولار بحسب تقديرات حديثة لاتحاد الشركات والأعمال في تركيا، وهو ما يعني أنه سيكون على الحكومة تدبير موارد ضخمة تقارب 35 في المئة من مجموع ميزانية الدولة التي بلغت نحو 240 مليار دولار في العام 2023.

لكن على الرغم من أن الزلزال وتبعاته سيكبّد تركيا مبالغ ضخمة، إلا أنه وبحسب المصادر الاقتصادية الدولية، فإنه لن يؤثر بصورة كبيرة على وتيرة النمو الاقتصادي بأكثر من 2 في المئة للسنة الحالية نظراً إلى أنه أصاب منطقة يغلب عليها النشاط الزراعي ولم يمتد بآثاره إلى المناطق الغربية المتقدمة والتي تضم بصورة خاصة المناطق المقصودة من ملايين السياح سنوياً، بل إن الإنفاق الواسع على إعادة الإعمار سيتسبب في رأي اقتصاديين، بزيادة وتيرة النشاط الاقتصادي، كما إن معدل المديونية المنخفض إلى الناتج المحلي (أقل من 35 في المئة) الذي تسجله تركيا يوفر لها مرونة كبيرة في توفير التمويلات الإضافية اللازمة لمواجهة تحديات الإعمار.

 

أسباب الدمار الواسع

 

 

أوضح التحقيق في ظروف زلزال تركيا مجموعة من الأسباب التي جعلت منه بين الأكثر تدميراً في تاريخ تركيا ومن أهم هذه الأسباب:

  1. إن الزلزال الأول والأقوى وكان بدرجة 7.8 على سلم ريختر حصل في الساعة الثالثة صباحاً والناس نيام مما لم يترك للسكان وقتاً كافياً لمغادرة منازلهم..
  2. إن نسبة كبيرة من المباني هي أبراج سكنية عالية متعددة الطبقات مما يضعف مقاومتها لزلزال عنيف في حال عدم الالتزام بدقة بالمواصفات المحددة للأبنية المقاومة للزلازل.
  3. إن الزلزال حصل في منطقة كثيفة السكان، إذ يبلغ عدد سكان مدينة غازي عنتاب الأكثر تضرراً نحو مليوني نسمة، كما إن الزلزال الأعنف حصل على عمق 17.9 كلم وهو ما يجعله قريباً إلى سطح الأرض ويزيد أثره المدمر.
  4. إن العنف الشديد للزلزال وعدم مراعاة أكثر المباني لمواصفات البناء المقاوم للهزات جعلها تتساقط بسرعة فوق ساكنيها.
  5. إن الزلزال الأول تبعه بعد تسع ساعات زلزال ثان بقوة 7.5 الأمر الذ أدى إلى سقوط المزيد من المباني التي تصدعت في الزلزال الأول، ويقول أحد خبراء الجيولوجيا إنها المرة الأولى التي يتبع زلزال عنيف زلزال آخر لا يقل عنفاً وإن المسافة الزمنية بين زلزالين بهذه الدرجة لم تقل في السابق عن عشر سنوات أو عشرين سنة.

 

 

للمتابعة:

زلزال تركيا وسوريا: القطاع الخاص الكويتي يواكب المساعدات الرسمية

 

أبنية ضعيفة التحمّل

 

 

لكن النقطة الأهم التي تكررت في تحليل الخبراء، هي أن الحجم الهائل لأضرار الزلزال في الأبنية والضحايا، يعود بالدرجة الأولى إلى غياب الالتزام بنظام بناء مصمم للصمود أمام الزلازل، وأن التطور العقاري في العديد من مناطق تركيا هو كارثة تنتظر زلزالاً كالذي شهدته منطقة غازي عنتاب. ويشير المتابعون بصورة خاصة إلى أن تركيا هي منطقة زلازل عنيفة نظراً لوقوعها على فالقين زلزاليين نشيطين، هما فالق الأناضول الشرقي وفالق الأناضول الشمالي، وأنها لهذا السبب معرضة حكماً لزلازل تتفاوت عنفاً عبر الزمن وآخر تلك الزلازل العنيفة حدث في العام 1999 في منطقة قريبة من إسطنبول وكان بدرجة 7 وخلفت 17,000 قتيلاً ودماراً هائلاً.

 

إصلاحات لم تكتمل

 

 

يومها قامت الحكومة بتأسيس هيئة إدارة الكوارث والطوارئ للإشراف على جهود الإغاثة والإيواء في حالات الكوارث الطبيعية، إلا أنها أعلنت في الوقت نفسه، عن عزمها تطبيق مواصفات بناء أكثر تشدداً في مقاومة الصدمات الزلزالية مع العمل في الوقت نفسه، على تقوية الأبنية القائمة. ويذكر أن ملايين الأبنية في تركيا قديمة العهد ولا تستوفي بالتالي المواصفات المطلوبة للصمود في وجه زلزال عنيف من النوع الذي ضرب البلاد قبل أسبوع. وتضمن المخطط فرض استخدام الإسمنت الرخو ductile لزيادة مرونة الهياكل الإسمنتية وتخصيص مئات الساحات والأراضي في المدن لاستخدامها لحاجات الإجلاء والطوارئ، إلا أن فورة البناء والازدهار الكبير في القطاع العقاري، دفعت إلى تحويل المناطق المخصصة للطوارئ إلى ابنية عالية ومشاريع عقارية، كما إن نسبة قليلة من الأبنية الجديدة لا تتجاوز 10 في المئة التزمت بالمواصفات الجديدة للإسمنت.

 

 

يمكنك الإطلاع: زلزال تركيا وسوريا: الخسائر البشرية قاسية.. والاقتصادية أكثر من مليار دولار

 

 

ناقوس إنذار لمدينة إسطنبول

 

 

يعتبر معظم الجيولوجيين ما حدث في غازي عنتاب قبل أيام ناقوس خطر حقيقي لمدينة إسطنبول، أكبر مدن تركيا بل ربما أكبر مدن أوروبا، إذ تضم نحو 15 مليون شخص. ويقول هؤلاء الخبراء إن ما حدث في غازي عنتاب وجوارها هو نموذج عما قد سيحصل في إسطنبول، لكن على نطاق أوسع بكثير. ويشير الخبراء إلى أن النسبة الأكبر من أبنية مدينة إسطنبول غير جاهزة للتعامل مع زلزال مماثل للزلزال الأخير لأن معظم أبنيتها قديمة، وهي تقع بالقرب من فالق الأناضول الشمالي ويتوقع علماء الجيولوجيا أن يضرب إسطنبول زلزالاً بدرجة 7 وما فوق في غضون السنوات السبعين المقبلة.  

 

تجربة التشيلي وطوكيو

 

 

يعتبر الوضع الجيولوجي التركي في دقته وانكشافه على النشاط الزلزالي مشابهاً إلى حد كبير لوضع تشيلي أو وضع منطقة طوكيو التي تقع أيضاً على تقاطع صفائح تكتونية، وتواجه احتمالات حصول زلازل بقوة 7 درجات على مقياس ريختر وما فوق.

وقد تعرضت تشيلي في العام 1960 إلى ما يمكن اعتباره أعنف زلزال في تاريخ البشرية إذ بلغت قوته 9.5 درجات على مقياس ريختر وهو ما يعني أنه كان أقوى بمئة مرة من الزلزال التركي الأخير. وقد دمر الزلزال نحو 95 في المئة من أبنية مدينة كونسسيون إحدى أكبر مدن البلاد، كما دمر نصف أبنية مدينة قريبة وقتل ربع سكانها، إلا أن التشيلي حولت الكارثة إلى أكبر عملية إصلاح لأنظمة البناء وتمكنت من جعل كل الأبنية التي أنشئت بعد ذلك الزلزال الكارثي مقاومة للزلازل.

وعبر الزمن قامت منطقة طوكيو التي تقع على تصادم أربع صفائح تكتونية بمجهود شامل لتطوير أنظمة البناء وفق أحدث تكنولوجيات مقاومة الزلازل بحيث أصبح 87 في المئة من منازلها مقاوماً للزلازل.

وبالطبع، فإن من الطبيعي لبلد يقع على تقاطع فوالق زلزالية أن يتبنى سياسات طويلة الأجل، تستهدف تحصينه ضد الكوارث الإنسانية والاقتصادية التي تتسبب لها الزلازل العنيفة، وكان الجهد الذي قامت به تركيا بعد زلزال العام 1999 في الطريق الصحيح إذ لم يعدّ ممكناً تشييد أبنية حديثة إلا وفق المعايير الجديدة للأبنية المقاومة للزلازل.

 

ملايين الأبنية قديمة

 

 

لكن أحد المعيقات الكبيرة في تركيا هو أن معظم الأبنية والمنازل (وهي تعدّ بالملايين) بنيت خلال فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي، أي قبل إدخال أنظمة البناء الجديدة، كما إنه حتى الأبنية التي أنشئت بعد زلزال 1991 لا تتمتع كلها بالمواصفات اللازمة نتيجة للتساهل في تطبيق القانون سواء بسبب جهل المقاولين بدقائقه أم بسبب نقص الأموال وبصورة خاصة نقص وسائل التحقق من قبل الأجهزة الحكومية. وعلى سبيل المثال، فإن عدداً كبيراً من الأبنية التي سقطت بالكامل في منطقة الزلزال الأخير مبنية حديثاً وكان يفترض على فرض تطبيق الأنظمة الوقائية الجديدة أن تصمد أو أن يصيبها ضرر جزئي لكن لم يكن مفترضاً أن تنهار بكاملها.

 

ضغوط التطوير العقاري

 

 

هنا يظهر التأثير الكبير للفورة العقارية المستمرة من عقود في تركيا نتيجة النمو الاقتصادي الاستثنائي والطلب الكبير على العقارات التركية سواء محلياً أم من المستثمرين الأجانب. وقد أدت تلك الفورة وتوافر مصادر التمويل المصرفي إلى استمرار التوسع العمراني وبيوت المنازل والأبنية الجديدة وبالنظر لضغوط الطلب وحاجة القطاع العقاري للتوسع. في موازاة ذلك، فإن العديد من المطورين يختصرون إجراءات السلامة، كما إن كثيرين منهم حصلوا في المدة الأخيرة على إعفاءات للمخالفات المرتكبة وسمح لهم باستخدام أو بيع العقار تحت ضغط الطلب وربما تحت ضغوط إضافية من كبار المطورين. 

ويعتبر قطاع البناء التركي من أهم محركات النمو الاقتصادي في تركيا وهو يسهم بنحو 5.4 في المئة من الناتج المحلي ويشغل نحو 1.5 مليون شخص.

 

 

مشكلة التحايل على القانون

 

 

إن أكبر مشكلة تواجه تطبيق أنظمة بناء مقاومة للزلازل في تركيا قد تكون أولاً في عدم كفاية الاحتياطات والتقنيات المفروضة على الأبنية الجديدة، لكنها قد تكون بالدرجة الأولى الضغوط الشديدة للتطوير العقاري وضعف آليات الإلزام والتنفيذ لدى الأجهزة الحكومية المكلفة وربما أيضاً وجود قدر من الفساد يساعد على تجاوز قواعد السلامة في البناء. وهناك مسألة زيادة التكلفة في الأبنية المطابقة وهو ما قد لا يجد المطور العقاري فيه فائدة تجارية إضافية له. ولهذه الأسباب، فإن الجهد الحكومي يجب أن يتركز ليس فقط على إصدار المواصفات بل على ضمان الالتزام التام بها من المطورين والشركات المعمارية، وقد استفاقت الحكومة التركية بسبب الزلزال وحجم الدمار الذي خلفه على حجم المخالفات والتلاعب والتجاهل للمعايير، وربما وبسبب حجم المفاجأة تحركت أجهزة الدولة على نطاق واسع لتوقيف بعض المطورين وإخضاعهم للتحقيقات. ويعتبر تركيز الرأي العام على هذا الجانب من الكارثة إحراجاً أكيداً للرئيس أردوغان الذي يواجه في مايو المقبل انتخابات رئاسية وبرلمانية مهمة جداً. لكن على الرغم من أن الملاحقات قد تخفف من حجم الانتقادات التي تواجه الحكومة التركية فإن الرأي الجامع هو أن ملاحقة المخالفين لا فائدة منها بعد وقوع الكارثة وأن الجهود الحكومية التركية يجب أن تتركز على التعلم الفعلي من دروس زلزالي 1999 و2023 تمهيداً لمراجعة الثغرات التي ما زالت تشوب أنظمة البناء والرقابة وإصدار التراخيص باستخدام الأبنية الجديدة، ولا بدّ بالتالي، بعد زلزال تركيا الأخير، من تقوية منظومة القواعد والشروط التي يتوجب الالتزام بها لكن الأهم من ذلك هو تطوير أجهزة رقابة نزيهة وصارمة لتحقيق انضباط كامل في سوق البناء والمشاريع الجديدة.