كيف سيجني لبنان ثمرات ترسيم الحدود البحرية؟

  • 2022-10-13
  • 20:11

كيف سيجني لبنان ثمرات ترسيم الحدود البحرية؟

  • علي زين الدين

​ 

هي مصادفة بحت، انما تحتمل صفة "المحاسن" النادرة في البلد المنكوب، أن يجري انجاز ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل عشية مرور ثلاث سنوات بالتمام والكمال على اندلاع ثورة 17 تشرين التي أماطت اللثام عن عورات النظام والمنظومة وكشفت زيف سياسات التستر على نهب مقدرات الدولة والاقتصاد وسلب المدخرات والمحاصصة الكامنة على حساب اللبنانيين وعيشهم وحتى خبزهم.

لكن الربط بين الحدثين، يكتسب جدليته الموضوعية في خلفية المخاوف المشروعة التي تفشت أسرع من أخبار الترسيم في صفوف المواطنين، كما في اوساط الاقتصاديين والمحلّلين. فالمعادلة المحقة، ان من شبّ على استعداء الاصلاح والحوكمة، لن يوفر، وهو شائب يمتلك كل مفاتيح المعرفة والخبرة، فرصة الاستئثار والتوزيع التحاصصي لقالب الثروات الكامنة في قاع المياه الاقليمية للبلاد، بعدما قاد أهلها وقطاعاتها الى قعور الانهيارات وضنك العيش وفقدان ابسط الخدمات ومقومات الحياة الكريمة.

ولا يحتمل التوجّس من "نوايا" المنظومة، أي افتراء او تشكيك في غير موضعه، انما الهدف من اعلائه الى موقع الصدارة هو تحذير من ينبغي تحذيرهم من ناس البلد الطيبين ومن مؤسسات دولية تخضع للمساءلة والمحاسبة في بلدانها، الى ضرورات التوازي بين اكتشاف الثروة وبين وضع نظام صارم لايداعها وادارتها خارج متناول سلطات تحترف أكل أكتاف المواطنين ومدخراتهم ومقدرات الاقتصاد الوطني، وتتخلى عنهم وعن أدنى واجباتها في نكبتهم المصنوعة بأيادي السلطات عينها.

بالتأكيد، فإن ما بعد الترسيم ليس كما قبله. فثمة معطيات استراتجية يزخر بها هذا الملف المفصلي، وثمة ضوء خافت أبصره اللبنانيون في نهاية النفق المظلم الذي تمّ حشرهم فيه، ويجري تدجينهم على نمط عيش بدائي لا يحرمهم فحسب من كامل الخدمات العامة، بل يسوقهم الى خيارين لا ثالث لهما، اما ذلّ العيش في وطنهم، واما الهجرة القسرية الى ديار الله الواسعة.

بالطبع، ما من عاقل يطمئن الناس المكتوين، وجلهم انضم الى حزام الفقر كرهاً وعجزاً، بأن موسم "المن والسلوى" حان زمانه، انما لا يستوي مع هذه الحقيقة، التقليل من أهمية الانجاز على الحاضر والمستقبل. فمن الواضح في الوقائع الاستراتيجية:

  1. بدء مرحلة التحول الكبير من حال التوتر الدائم المقلق الى وضعية استقرار مرشح لاكتساب صفة الاستدامة، وبموافقة الأطراف المؤثرة ومباركتها.
  2. امكانية واعدة لدخول لبنان نادي الدول النفطية، وعلى انقاض دولة الفشل والافقار التي قوّضت مجمل ركائزه الاقتصادية والانتاجية، وأهلكت كامل الامكانات والقدرات، ما عدا النذر اليسير، لقطاعه المالي والمصرفي، وقضت ايضاً، وبشكل شبه تام، على انتشاره الاقليمي ونقاط تمركزه وأذرعته وأنشطته وتعاملاته في الاسواق الدولية.
  3. تثبيت قناعة واجماع داخلي بأن الدولة، ككيان وكمؤسسات دستورية، هي وحدها مرجعية القرار وإصدار المراسيم والتراخيص وابرام الاتفاقات الدولية، ومن مسؤولياتها حصراً ادارة هذا الملف بمؤسساتها لا بهويات القيمين عليها. واستتباعاً فمن أول واجباتها البديهية اقرار تشريع بانشاء الصندوق السيادي للثروات المرتقبة وفق معايير دولية تقوم على أرقى مبادىء الحوكمة والشفافية.
  4. عودة لبنان الى دائرة الاهتمام الدولي من أكبر بواباته وأكثرها تأثيراً في "لعبة" الأمم وفي توجهات المؤسسات المالية العالمية، والمترجمة بالوساطة الأميركية التي أفضت الى الانجاز، وترجيح "الرعاية" الطويلة للمراحل المقبلة.
  5. الاستجابة الفرنسية لتثمير الانتاج ومواكبته من قبل شركة "توتال" التي ابلغت السلطات اللبنانية انخراطها الفوري في موجبات الاستكشاف والحفر في مكمن "صيدا- قانا"، مع التعهد بتلبية المطالب الخاصة بالجانب الاسرائيلي في الجزء المتعدي للحدود من الحقل الموعود.
  6. ما يمكن ان تنتجه هذه الوقائع فورية ومتوسطة المدى على رفع درجة الضوء من الخفوت الى السطوع. فيبدأ لبنان وأهله الخطوة الأولى، انما الواثقة، في رحلة العودة من جهنم الى رحاب العيش الكريم في ظل دولة وقانون وحوكمة رشيدة، ليتلاقى مع شغف وافتخار سنده الدائم من العاملين في الخارج والمغتربين.

وتشير المداولات في الاوساط الاقتصادية والمصرفية الى ترقب مكتسبات فورية وذات نمط تراكمي في الاشهر المقبلة، يمكن ان يحققها لبنان ضمن إطار الانعكاسات التلقائية واللاحقة لتوقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع "اسرائيل"، ومعززة بالرعاية الاميركية المباشرة لشروع الطرفين بتنفيذ المندرجات الآيلة الى بدء الضخ من حقل "كاريش" الغازي، في موازاة التزام شركة "توتال" الفرنسية ببدء عمليات الاستكشاف في مكمن "صيدا-قانا"، مع توقع بلوغ مرحلة الحفر بموعد اقصاه مطلع الربيع المقبل.

وتتوافق التقديرات الاولية لدى الاقتصاديين والخبراء، على رصد بوادر تحولات نوعية تطرأ على المناخات الداخلية في لبنان، ولاسيما في المجالين النقدي والمالي، تسبق رحلة الوصول الفعلي الى مصاف البلدان النفطية التي تمتد لمهل زمنية تتراوح ما بين 3 و5 سنوات بالحدين الادنى والاقصى في حال عدم حصول تطورات معاكسة، وهي تخضع حكماً، في الوقت عينه، للمعاينة الميدانية للحقول الموعودة وكمياتها التجارية، علماً ان التقديرات المسبقة للثروة النفطية والغازية الكامنة متباينة وتراوح ضمن هوامش رقمية واسعة ما بين 500 مليار دولار وتريليون دولار.

وفيما عدّ وزير الطاقة وليد فياض ان "الإنجاز التاريخي ليس فقط ترسيم الحدود، إنما الأهمية تكمن في الإلتزام بالتنقيب والمباشرة به لأننا بحاجة إلى ذلك وسنتابع آليات التنفيذ في المرحلة المقبلة بالتعاون مع "توتال" والشركاء الدوليين والمهتمّين بقطاع الغاز، اعتبر وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال يوسف الخليل، أنه وعلى الرغم من أن الترجمة المادية لخطوة الترسيم قد تحتاج إلى سنوات، إلاّ أنها "تشّكل رافعة معنوية للنهوض من حال الانهيار، ولاستعادة الثقة والبدء بعودة الاستثمار إلى لبنان".

وقال وزير المال، "صحيح ان الخطوة وضعت لبنان على خارطة الدول النفطية، وان نتائجها الاقتصادية محسومة، لكن الصحيح أيضاً أن إدارة هذه الثروة بحكمة وشفافية هي صمام أمان النتائج المتوخاة منها، وعليه فإننا نأمل أن تنسحب وحدة الموقف اللبناني إزاء ملف الترسيم على الخطوات الإصلاحية الأقرب مدى، والتي وحدها القادرة في الظرف الراهن على انتشال الاقتصاد اللبناني والواقع المالي من تخبطه في أدق أزماته صعوبةً وتعقيداً، وعندها يمكننا القول إننا بدأنا مساراً جاداً يقود إلى تصحيح اختلال مزمن على أسس واقعية وعلمية تلاقي ثمار الترسيم المرجو الذي يعيد التعافي وتحقيق الازدهار".

  وبمعزل عن البعد النفطي البحت وتصوراته المتوسطة والبعيدة المدى، يلفت اقتصاديون ومصرفيون، الى ان المظلة الأميركية التي دفعت الترسيم الى خواتيمه المشهودة، لن تقتصر ظلالها على هذا الملف وحده. ولذا، فمن المرجح جداً ان تتسع الرعاية الاميركية، وربما خلال ايام واسابيع قليلة، الى معاونة لبنان على تفكيك بعض العقد الخدماتية المستعصية، ولاسيما في قطاع الكهرباء المترهل، والذي بات يستهلك النسبة الاكبر من مداخيل الاسر ويلقي باثقال مالية ولوجيستية حادة على المؤسسات وقطاعات الاعمال، فضلاً عن انعكاساته الكارثية على كامل منظومة الخدمات العامة والخاصة.

وفي التوقعات الخاصة بهذا القطاع، يجري تداول معلومات عن ترقب دفع اميركي يستهدف إعادة تحريك تمويل البنك الدولي وحلحلة المعوقات المتصلة باتفاقيتي استجرار الكهرباء من الاردن واستيراد الغاز المصري عبر الاراضي الاردنية والسورية الى معامل توليد الطاقة في دير عمار ( شمال لبنان)، علماً ان المؤسسة الدولية عمدت الى "التريث الطويل" في اقرار القرض الموعود والبالغ نحو 350 مليون دولار بذريعة عدم توفر "الجدوى السياسية" والمرتكزة خصوصاً على مماطلة الجانب اللبناني في اطلاق الهيئة الناظمة للقطاع، اضافة الى التعقيدات المتعلقة بالعقوبات الأميركية على سوريا والتي تسببت بطلب مصر الحصول على إعفاء رسمي يصدر عن وزارة الخزانة الأميركية ومسبق لاستثناء توريد الغاز من من تبعات قانون "قيصر".

وبالتوازي، ووفقاً لتحليل مصرفي موثوق، فإن الوقائع المستجدة والدعم الاميركي الصريح سيحفزان مؤسسات التصنيف الدولية، ولا سيما "ستاندرد آند بورز" و"موديز"، الى التنويه، في تقاريرها الدورية المقبلة، بالمردود المتوقع لاتفاقية الترسيم والخطوات التنفيذية اللاحقة على التقييم الائتماني المتردي والقابع عند مستوى "التخلّف عن الدفع" للديون السيادية المصدرة من قبل الحكومة اللبنانية، والتحسن المفترض لملاءة الدولة المالية رغم ما تعانيه من شح حاد في السيولة بالعملات الاجنبية.

وفي ما غاب ظاهرياً تأثير الحدث "النفطي" عن المبادلات النقدية في الاسواق الموازية، بحيث استمرت عمليات البيع والشراء عند الحدود القياسية الاعلى للدولار قريباً من عتبة 40 الف ليرة، اكد ناشطون في اسواق القطع غير النظامية حصول تراجعات وازنة في حجم عمليات العرض والطلب، مما عكس تردد التجار والمستوردين في طلب العملة الصعبة ترقباً لتفاعلات ايجابية وتنتج عن الاقرار الرسمي لاتفاقية الترسيم ولواحقها، وتفضي الى كبح المضاربات وانتعاش سعر صرف الليرة.

ويأمل مصرفيون وناشطون، ان يشهد الميدان النقدي فترة هدوء مترافقة مع تحسن مطرد في تمركز الجزء الاكبر من المبادلات عبر منصة "صيرفة" التي يديرها البنك المركزي، والتي تنفذ حالياً عمليات العرض والطلب اليومية بمستوى 29.8 الف ليرة لكل دولار، اي ما يقل بنحو 10 آلاف ليرة عن السعر الرائج في الاسواق غير النظامية، علماً ان وزارة المال ستبدأ مطلع الشهر المقبل احتساب الرسوم الجمركية على المستوردات بسعر 15 الف ليرة للدولار.

ومن شأن استعادة الدور المحوري للبنك المركزي في سوق القطع التقدم سريعاً الى استهداف اعادة هيكية وتوحيد اسعار الصرف، وتحت ظلال مناخات ايجابية ومرشّحة للتعزيز من خلال توفر التوافق الداخلي لانجاز الاستحقاقات الدستورية الداهمة، وفي طليعتها انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وبالتوازي، فإن كل تحسن مفترض في سعر صرف الليرة سيؤدي تلقائياً الى كبح جماح التضخم المفرط الذي راكم ارتفاعات صاروخية تعدّت نسبتها المجمعة حدود 1300 في المئة على مدى 3 سنوات متتالية من الانهيارات النقدية والمالية.