ما هو نظام "الدخل المضمون" الممكن اعتماده لمكافحة البطالة؟

  • 2020-03-02
  • 08:12

ما هو نظام "الدخل المضمون" الممكن اعتماده لمكافحة البطالة؟

  • حنين سلّوم

ظهرت فكرة "الدخل الأساسي الشامل" بالإنكليزية    universal basic income للمرّة الأولى في القرن السادس عشر في قصّة "يوتوبيا" للفيلسوف والمفكّر البريطاني توماس مور الذي تصوّر مدينة يحصل فيها الفرد على دخل مضمون من الدولة. هذه الفكرة عادت إلى التداول خلال القرن الثامن عشر، لكّنها لم تكتسب شعبيّة قبل القرن العشرين الذي شهد بدايات النقاش بشأنها على نطاق واسع تحت تسمية "مكافأة الدولة" أو state bonus.

وهكذا كانت المملكة المتحدة أوّل من قدّم أحد أشكال الدخل الأساسي إذ قدّمت مساعدات عائليّة ثابتة للطفل الثاني من كل عائلة، وكان ذلك سنة 1946 قبل أن تلحقها كل من الولايات المتّحدة وكندا من خلال تجربة ضريبة الدخل السلبية في الستينيات والسبعينيات. وقد صنّفت جميع هذه المحاولات كأشكال مختلفة للدخل الأساسي.

 ولكن استخدام "الدخل الأساسي" كمصطلح ظهر للمرّة الأولى سنة 1953 من قبل جورج كول، الاقتصادي والكاتب البريطاني الذي طرح فكرة التوزيعات الاجتماعيّة  (social dividends) كجزء من الاقتصاد المخطط (planned economy)   قبل أن يتبنّاها لاحقاً لوثر كينغ، أحد أبرز الناشطين في حقوق الإنسان.

أمّأ الهدف الرئيسي وراء الدخل الأساسي كان مساعدة الأفراد على تأمين أساسيّات الحياة. وقد أصبح تطبيقه أكثر ضرورة في ظل التطورات التكنولوجيّة التي يشهدها العالم، مثل الروبوتات والذكاء الاصطناعي، والتي أدّت إلى ارتفاع نسبة البطالة وباتت تهدّد بالبطالة الجماعيّة. ولكن ما هو الدخل الأساسي؟ وما هي مصادر الدولة؟ وهل هو قيد التطبيق؟

ما هو الدخل الأساسي الشامل؟

يشكّل الدخل الأساسي مبلغاً ثابتاً من المال تحدّده الدولة وتقدّمه دوريًّا لجميع المواطنين من دون تفرقة ويمتاز بخمس خصائص، وعليه يمكن الاصطلاح على تسميته "الدخل المضمون"، وهو يمكن أن يكون على شكل:

1-      دخل غير مشروط: يمكن أن يختلف الدخل الأساسي وفقاً لتقدّم العمر، لكن ليس لأي سبب آخر بحيث يحصل الأفراد من العمر نفسه على القيمة نفسها بغض النظر عن جنسهم، عائلتهم، وضعهم الوظيفي، مساهمتهم في المجتمع، أو أي سبب آخر.

2-      دخل تلقائي: يتم دفع المبلغ بشكل تلقائي للأفراد عبر تحويله إلى حساباتهم المصرفيّة شهريًّا.

3-      دخل ثابت: لن يتغيّر الدخل الأساسي في حال ارتفعت إيرادات الفرد أو انخفضت.

4-      دخل فردي: يتم دفع الدخل الأساسي على أساس الفرد وليس على أساس الأسرة.

5-      حق يحصل عليه كل مقيم قانوني على دخل أساسي مع مراعاة فترة إقامة قانونيّة محدّدة.

مصادر محتملّة لتمويل الدخل الأساسي

تتعدد المصادر التي قد يعتمد عليها في تمويل هذه العملية وذلك من خلال إلغاء بعض المخصصات التي تبذلها الدول في إطار عملها كدول رعاية اجتماعية، ومن أبرز هذه المصادر:

1-      بديل لبرامج الرعاية الاجتماعيّة القائمة: تتكبّد البلاد سنويًّا مبالغ طائلة على برامج الرعاية الاجتماعية والمساعدات الغذائيّة وغيرها، لذا فإن توزيع الدخل الأساسي يغني عن هذه المساعدات ويحل مكانها. فالولايات المتّحدة الأميركية مثلاً تتكبّد بين 500 و600 مليار دولار سنويًّا على هذه البرامج. ذلك فضلاً عن نحو تريليون دولار تنفقها الحكومة سنويًّا على الرعاية الصحية والسجن وخدمات التشرد والتي يمكن أن تنخفض بحوالي 200 مليار دولار، لأنّ حصول الأفراد على الدخل الأساسي سيخوّلهم الاعتناء بأنفسهم بشكل أفضل وتجنّب غرفة الطوارئ والسجن والتشرد. وقد أظهرت الدراسات أنّ إعطاء دولار لرب عائلة محتاجة يؤدّي إلى نحو 7 دولارات  من الوفورات والنمو الاقتصادي.

2-      عائدات ضريبة القيمة المضافة: تفرض العديد من البلدان ضريبة على القيمة المضافة وبعضها ما زالت لا تفرض مثل الولايات المتّحدة مثلاً وتستطيع هذه البلاد الاستفادة من عائدات هذه الضرائب (برفعها قليلاً أو فرضها) لتمويل الدخل الأساسي الشامل.

3-      الضرائب على التلوث: من خلال فرض ضريبة على انبعاثات الغازات الدفيئة تكون الفوائد مضاعفة فذلك سيساهم على المدى البعيد بخفض الانبعاثات إلى حد معيّن وإلى التخفيف من التغير المناخي مع تأمين مصدر لتمويل الدخل الأساسي.

4-      إلغاء امتيازات أصحاب الدخل المرتفع: يعتبر البعض أن نظام الضمان الاجتماعي مثلاً غير منصف كونه يعفي أصحاب الدخل المرتفع من الضرائب، ولكن إذا تمّ رفع نسبة الدخل الخاضعة للضريبة (social security cap) ستحقّق الدولة إيرادات يمكن استخدامها لدفع الدخل الأساسي. من جهة أخرى، تستطيع الدولة فرض ضرائب على المعاملات الماليّة (financial transaction taxes)  مثلا فوفقاً لاقتراح السناتور بيرني ساندرز، أحد المرشّحين إلى الانتخابات الأميركيّة، إنّ فرض ضريبة بنسبة 0.5 في المئة على الأسهم، 0.1 في المئة على السندات، و0.005 في المئة على المشتقّات يؤدّي إلى إيرادات تتراوح بين 60 و220 مليار دولار سنويًّا للولايات المتّحدة.

5-      الإيرادات الإضافيّة: سيساهم الدخل الأساسي برفع الاستهلاك وبالتالي سيؤدّي إلى النمو الاقتصادي. فوفقاً لمعهد روزفلت، نتيجة تطبيق الدخل الأساسي، سينمو الاقتصاد الأمريكي مثلاً بنحو 2.5 تريليون دولار ويخلق 4.6 مليون فرصة عمل ما سيولّد 800 إلى 900 مليار دولار من الإيرادات الجديدة.

ايجابيّات تطبيق الدخل الأساسي الشامل

 إنّ السبب الأساسي وراء تطبيق الدخل الأساسي كان الحد من الفقر ومساعدة الأفراد على تأمين احتياجاتهم الأساسيّة. لكنّ الدراسات بيّنت أنّ الفوائد غير المباشرة للدخل الأساسي مفاجئة فهو يساهم بتحويل المجتمع على مستويات مختلفة بشكل إيجابي.

-        الدخل الأساسي يشجّع اليافعين على اكمال دراساتهم: يضطر اليافعون في العديد من البلدان المتوسّطة والفقيرة إلى ترك المدارس والجامعات للعمل لمساندة أسرهم. لكن مع حصول الأفراد على دخل مضمون، يستطيعون إكمال دراساتهم.

-        الدخل الأساسي يرفع القدرة التفاوضيّة للموظّفين: عندما يحصل الفرد على دخل شهري مضمون، لا يضطر إلى العمل بشروط غير منصفة أو بأجور استغلاليّة ويستطيع اختيار الوظيفة التي تنصف خبراته.

-        الدخل الأساسي يساهم برفع عدد روّاد الأعمال: إنّ ريادة الأعمال والمبادرات الفرديّة تتضمّن مخاطر عديدة وتتطلّب جهداً في مراحل الابتكار والتنفيذ خاصّةً في السنوات الأولى عندما يكون المشروع مازال على نطاق صغير واستثمارات الشركة والمصاريف تفوق أرباحها لذلك يتردّد الأفراد لأخذ هذه الخطوة ويفضّلون الوظيفة التي تضمن تقاضيهم راتب شهري. ولكن مع مدخول مضمون يتشجّع الأفراد لأخذ هذه المبادرات خاصّةً أنّ عدد المستهلكين المحتملين يرتفع في ظل حصول الجميع على دخل أساسي يرفع قدرتهم الشرائيّة.

-        الدخل الأساسي يرفع الحس الإنساني وينمّي المواهب: إنّ الحصول على دخل أساسي ثابت يمنح الفرد وقت إضافي للتطوع في الأعمال الاجتماعيّة والخيريّة فهو غير مضطر للعمل ساعات إضافيّة لكي يقتضي أجراً إضافيًّا ويستطيع المساهمة اجتماعيًّا. وعلى الصعيد الشخصي، يستطيع الفرد تنمية مواهبه واكتساب خبرات جديدة.

-        الدخل الأساسي يمكن ان يعوّض على الأفراد الذين خسروا وظائفهم نتيجة التطور التكنولوجي: أدّت التكنولوجيا إلى التعويض عن آلاف الوظائف المكتبيّة وخدمة الزبائن لدرجة أنّ العديد من خدمات القطاع المصرفي مثلاً أصبحت إلكترونيّة وهو ما أفقد حاملي الشهادات وظائفهم. وبات الأفراد أيضاً يتسوّقون إلكترونيًّا وهو ما دفع العديد من المتاجر إلى الإقفال والتعويض عنها بأخرى إلكترونيّة. فمنذ بداية القرن الواحد والعشرين ونتيجة تطوّر التشغيل الآلي خسر 4 مليون فرد وظائفهم في قطاع التصنيع في الولايات المتحدة ومن المتوقّع أن يرتفع العدد خاصّة عند اعتماد الآليات الجديدة بشكل كلّي فقد قامت uber مثلاً عام 2018 بنقل البضائع مستخدمةً شاحنات ذاتيّة القيادة (self-driving trucks) .

ماذا عن تحدّيات تطبيق الدخل الأساسي الشامل؟

لعل أبرز تحديات تطبيق الدخل الأساسي هي إمكانيّة ضمان مصدر تمويل ثابت خصوصاً في البلدان التي تعتمد على عائدات النفط لدفع الدخل الشامل، وذلك في ظل عدم استقرار أسعار النفط. وبالنسبة للمصادر الأخرى، فهي أيضاً غير مضمونة خاصّة فيما يختص بفرض الضرائب على التلوث وضريبة القيمة المضافة فعائداتها غير ثابتة. ولعلّ أبرز الحلول لذلك يكون عبر تنويع مصدر التمويل للتحوط أمام تراجع عائدات أحد المصادر. بالإضافة إلى التخوف من النتائج غير المرغوبة: يتخوّف معارضي تطبيق الدخل الأساسي الشامل من نتائج سلبيّة عديدة منها خلق مجتمع كسول يعتمد على الدولة لكسب معيشته ولا يطمح للعمل ممّا قد يرفع نسبة البطالة بوتيرة أسرع ويساهم في تباطؤ النمو الاقتصادي.

هل بدأت البلدان بتطبيق النظام؟

أجرى العديد من البلدان والولايات تجارب لاختبار مدى فعاليّة الدخل الأساسي الشامل وكان منها فنلندا في أوروبا مثلاً. وقامت أخرى باعتماده بشكل كلّي أو جزئي خاصّةً تلك المصدّرة للنفط كألاسكا، البرازيل وإيران. وكانت ألاسكا السبّاقة في الدخل الأساسي فقد تمّ تأسيس صندوق ألاسكا الدائم بقرار دستوري عام 1976 وحتّى العام 1980 أدار قسم خزانة الإيرادات(Revenue Treasury Division) أصول الصندوق الدائم للولاية. حصل المواطنون على الدخل الأساسي الأول عام 1982 وكان بقيمة ألف دولار وقد تفاوت هذا المبلغ بين 331 دولار و2,072 دولار واستمر خلال الأعوام الفائتة منذ تأسيس الصندوق. وبما أنّ الصندوق مموّل من عائدات النفط، واجهت ألاسكا بعض الصعوبات وعجز في ميزانيّة الدولة سنة 2015 مع انخفاض سعر النفط لكنّها لم تتخلّف عن دفع الدخل الأساسي.

أمّا في البرازيل، في بلدة ماريكا (Maricá)، بدأ 52 ألف شخص منذ شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2019 بالحصول على دخل أساسي بقيمة 64 دولار شهريًّا وذلك وفقاً لسياسة تنموية تمّ تبنّيها في البلدة. ووفقاً لهذه السياسة، إنّ كل شخص عاش في ماريكا لمدة ثلاث سنوات على الأقل ولديه دخل منخفض بما يكفي للتأهل سيحصل على الدخل. إنّ البرنامج لأجل غير مسمّى   ويتم تمويله من عائدات النفط التي تحصل عليها البلدة. وقد شكّل هذه البرنامج بدأ تطبيق القانون الصادر عام 2004 والذي أقر الدخل الأساسي لجميع البرازيليين إلّا أنّه لم يدخل قيد التنفيذ. أمّا اللافت في هذا البرنامج هو أنّ النقود تمنح في عملة Mumbuca وهي عملة صادرة عن مصرف Banco Mumbuca ولا يمكن استخدامها سوى محليًّا.

وقد شكّل الدخل الأساسي جزءاً من الحملات الانتخابيّة في الهند سنة 2019 وهو الآن يشكّل ركيزة البرنامج الانتخابي للمرشّح على الانتخابات الرئاسيّة في الولايات المتحدة أندرو يانغ (قبل أن ينسحب). 

في الخلاصة، إن الدخل الأساسي الشامل أصبح ضرورة لمحاربة الفقر من جهة والتقدم التكنولوجي من جهة أخرى. وعلى الرغم من المعارضين والتحديّات إلّا أنّ البلدان التي بدأت بتطبيق أو التي قامت بتجارب في إطار "الدخل الأساسي"، شكّلت خير دليل على انّه ممكن أن تميل نتائجه تميل إلى الايجابيّة. يبقى على البلدان اختيار مصادر التمويل بحكمة لضمان استمراريّة الدخل الشامل. وهنا فإن السؤال: هل يمكن إسقاط هذه التجربة على بعض البلدان العربية خصوصاً لبنان؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في الحلقة الثانية من "الدخل الأساسي".