لبنان: الدولة "خارج الخدمة"!

  • 2021-11-03
  • 15:11

لبنان: الدولة "خارج الخدمة"!

فقر وشلل حكومي واداري وتوليد أزمات جديدة

  • علي زين الدين

​  

وفق مأثرة "ان المصائب لا تأتي فرادى"، تتجمع العوامل الكابحة للنشاط الحكومي والاداري في المؤسسات العامة، بصورة غير مألوفة في ادارة كيانات الدول حتى في أوقات الحروب الكبرى، ولدرجة يصح فيها الوصف بأن دولة لبنان "خارج الخدمة" حتى إشعار غير معلوم ربطاً بالأسباب التي قادتها من الشلل الجزئي الى التعطيل شبه التام.

فمن الأزمة الناشئة والسالكة دربها صوب المزيد من الجفاء والتباعد مع المدى الحيوي الكبير الذي تمثله بلدان الخليج للبلد وناسه واقتصاده، الى انكفاء الأنشطة الحكومية تحت شروط صعبة لإمكانية عقد جلسات مجلس الوزراء، وتشظي خدماتها دون الحد الأدنى، وخنق الانفاق العام برباط "العين بصيرة واليد قصيرة "، يسجل لبنان ظاهرة جديدة في ادارة الدولة مع توجه موظفي الادارة العامة الى "الاعتكاف" التام عن مزاولة اعمالهم في الوزارات والمؤسسات والادارات الحكومية والمستقلة تحت لافتة "الاضراب المفتوح". 

فاعتباراً من يوم غد الخميس، ينفذ موظّفو الإدارة العامة في الدولة إضراباً مفتوحاً يكفل اقفال شبه تام للمؤسسات والادارات العامة، وهي الخطوة التصعيدية التالية للإضراب الجزئي المستمر منذ نحو 5 أشهر، "بعد أن فقدت رواتبهم 95 في المئة من قدرتها الشرائية، وبات محظوراً على عائلاتهم حتى الحلم بالحد الأدنى من مقومات الحياة، الغذاء، الماء، الكهرباء، التعليم، الطبابة والاستشفاء، حتى الدواء".

أما لائحة المطالب فهي مشروعة بكل المقاييس، إنما يتعذر الاستجابة لأغلبها للأسباب الموضوعية التي هبطت بالدولة الى حال "التسول" المعلن لتأمين القليل من امدادات الكهرباء والبطاقة التمويلية المحتجزة قيد تمويل قد لا يصل في الأمد المنظور، وهي وضعية فاضحة ومعلومة للجميع في الداخل والخارج، بعدما حوّلتها ادارة الدولة الى خيار استراتيجي بدأته بإشهار افلاسها في ربيع العام 2020، واستكملته بتبديد نحو 12 مليار دولار من الاحتياطات الحرة لدى البنك المركزي على دعم وهمي صبّ بمعظمه في خزائن التهريب والاحتكارات. احتساب الرواتب والمعاشات التقاعدية وتعويضات الصرف على اساس مؤشر غلاء المعيشة بعد تفعيله.

ويطالب الموظفون بـاحتساب الرواتب والمعاشات التقاعدية وتعويضات الصرف على أساس مؤشر غلاء المعيشة بعد تفعيله. واستعادة قيمة التقديمات الصحية والاجتماعية، عن طريق دعم الصناديق الضامنة، اي تعاونية موظفي الدولة والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وعن طريق استيراد الأدوية والمستلزمات الطبية والمواد التشغيلية للمستشفيات، مباشرة من قبل الدولة. وتأمين قسائم بنزين للموظفين تتناسب كميتها مع المسافات التي يقطعها الموظف للوصول إلى عمله. وإلغاء المادة 78 من قانون موازنة العام 2019، التي تمنع طلب الإحالة إلى التقاعد لمدة ثلاث سنوات ابتداء من 1/8/2019، والعمل على تعديل المادة 16 من القانون الرقم 46/2017 (سلسلة الرتب والرواتب) لجهة طريقة احتساب الزيادة على أجور الأجراء، وتحسين جداول رواتب الفئات الدنيا.

بذلك، يبدو المشهد العام "عبثياً" في وقائعه، حيث تتفاقم الأزمة مع بلدان الخليج وتنذر باعتماد اجراءات اقسى قد تصل الى تعقيد التحويلات المقدرة بنحو 4 مليارات دولار سنوياً، فيما تعجز الحكومة عن الانعقاد الدوري، وتبقى الاهتمامات مركزة على ابتكار المزيد من وسائل "التملّص" من موجبات قضائية تتصل بملفي كارثة انفجار مرفأ بيروت وأحداث "الطيونة" الأخيرة.

وفي المحصلة يرتجف السكان خوفاً من "الآتي الأعظم" ومن برد الشتاء الذي هلّت موجاته الأولى، ومعظمهم، بنسبة تفوق 80 في المئة، يقبع تحت خط الفقر ويجبهون الموجات الأعلى للتضخم بمداخيل متهالكة وجيوب فارغة ومدخرات "محبوسة".

وتكاثرت دواعي الهلع العام، مع "محو" المكتسبات الجزئية التي رافقت تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، وخطر الدخول مجدداً في دوامة تصريف الأعمال بالحد الأدنى التي عطّلت الحكومة السابقة على مدى 13 شهراً متتالية، بحيث ارتفعت تلقائياً مشاعر الاحباط في الاوساط كافة، لتعّم معها ترقبات أكثر تشاؤماً حيال مجرى التطورات في الاسابيع والأشهر المقبلة، محفوفة بمخاوف جدية تطال الاستقرار الأمني الهش ومن تحول استحقاق الانتخابات النيابية الى ميدان لصراعات أشد قسوة تطيح تماماً بانتظام المؤسسات الدستورية في السنة السادسة والأخيرة للعهد (رئاسة الجمهورية)، وربطاً بكل التطلعات المعقودة على غوث خارجي يشد أزر خطة التعافي للخروج من مستنقع الأزمات العاتية.

وبمعزل عن اللجوء الى الاضرابات، فإن مؤسسات الدولة، والتي تضم نحو 320 الف موظف بينهم نحو 120 الفاً من العسكريين، تعاني من خواء كبير بحكم انهيار منظومة الرواتب والاجور بكل مستوياتها وتقلص بدلات التغطية الصحية والاجتماعية الى حدود قريبة من "العدم"، الى جانب تعذر تأمين مستلزمات الأعمال من مستندات رسمية وامدادات للإدارات بالتيار الكهربائي وسائر الخدمات اللوجيستية وصولاً الى القرطاسية، كل ذلك بفعل التراكم الجسيم لخسائر العملة الوطنية لتبلغ نحو 93 في المئة حالياً، لتدفع حتى براتب الوزير وملحقاته الى ما دون 500 دولار شهرياً، فيما وصل بدل الحد الأدنى للأجور الى دولار واحد يومياً او 32 دولاراً شهرياً، وتتوزع مداخيل موظفي الادارة العامة بين الحدين مع تصنيف معظمها بالأقرب الى الأدنى.

بالتوازي، تكفل لهيب اسعار المحروقات وبما يشمل الغاز المنزلي، بترقب اندفاع متوسط الغلاء الى ملامسة عتبة الألف في المئة، بعدما حقق فعلياً نسبة 675 في المئة على مدى سنتين من انفجار الأزمتين النقدية والمالية. ولعلّ المؤشر الأبلغ في مدلولاته، ارتفاع كلفة النقل والانتقال الى حدود استهلاك ما يماثل ضعفي الحد الادنى للأجور، ما أنتج سبباً مشروعاً لتعذر وصول الموظفين في القطاع العام الى اداراتهم كالمعتاد، بينما اضطرت المؤسسات الناشطة في القطاع الخاص الى اعتماد زيادات فورية في بدلات النقل و\ أو الاستمرار بأنظمة العمل عن بعد وأنظمة التبديل ( Shift ) والتشاركية في الانتقال وسواها من معالجات وقائية سريعة لضمان استمرارية العمل.

ولن يكون مفاجئاً في هذا النطاق، بحسب مصادر اقتصادية متابعة، انضمام افواج جديدة وبالآلاف ايضاً الى نحو 200 الف من "المهاجرين" قسراً الذين غادروا البلاد هذا العام كمداً وعجزاً عن جبه استفحال الأزمة المعيشية والتخبط في هواجس "الآتي أعظم". فالأكثر ازدهاراً في البلد المنكوب حالياً هو البحث عن فرص التوظيف في الخارج ولو تطلّب الأمر التضحية بنصف مستويات المداخيل المعهودة، مع اقتضاء التنويه بظاهرة "التسرّب" في الأجهزة العسكرية والأمنية وليس على مستوى الرتب والرواتب الأدنى فقط، وان كانت بنسب تقل كثيراً عن "هروب" المدنيين.

ولعلها اشارة بليغة في توقيتها، قيام المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان أوليفييه دي شوتر، ببعثة لتقصي الحقائق في مجال حقوق الإنسان إلى لبنان في الفترة من 1 إلى 12 الشهر الحالي لفحص جهود الحكومة للتخفيف من حدة الفقر في البلاد، وان يمهد لوصوله بالإفصاح ان لبنان "يمر بأحد أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخ العالم".

ويقول الخبير الدولي "بحسب التقديرات، وفي غضون عامين فقط، تضاعف الفقر المتعدد الأبعاد من 42 في المئة إلى 82 في المئة، مع ما يقارب أربعة ملايين شخص يواجهون الحرمان في التعليم، والرعاية الصحية، والمرافق العامة، والإسكان، والممتلكات، أو التوظيف والدخل. والفقر متشابك مع تفاقم الأزمات النقدية والديون والطاقة والسياسية التي يواجهها لبنان، وسأبحث عن كثب في كيفية تتبّع الحكومة اللبنانية للفقر، ومدى كفاية نظام الحماية الاجتماعية، فضلاً عن دور المانحين والمنظمات الدولية".