هل تدفع أزمة إقفال قناة السويس إلى إعادة النظر بسلاسل الإمداد؟

  • 2021-03-28
  • 12:29

هل تدفع أزمة إقفال قناة السويس إلى إعادة النظر بسلاسل الإمداد؟

  • رشيد حسن

 

لم تتضح بعد الأسباب المباشرة لجنوح سفينة الحاويات العملاقة اليابانية الملكية "ايفر غيفن" في المجرى الرئيس لقناة السويس، لكن التداعيات التي تسبب بها الحادث، شدت الأنظار إلى الصورة الجديدة للتجارة العالمية وأنظمة الشحن والتوصيل المعقدة التي نشأت في ظل العولمة الشاملة للاقتصاد والنمو الكبير في المبادلات بين البلدان والأسواق، والتطور المتواصل في حجم سفن الحاويات المستخدمة والتي باتت تحتاج إلى خدمات إرشاد خاصة عند اجتيازها لممرات ملاحية مثل قناة السويس.

 

قد يهمك:
قناة السويس تعلّق حركة الملاحة للمرة السادسة عبر التاريخ

 

وعلى سبيل المثال، فإن "ايفر غيفن"، التي تسبب جنوحها بإقفال أهم ممر ملاحي، يصل طولها إلى 400 متر (بعرض 59 متراً)، بينما يبلغ عرض قناة السويس نحو 205 أمتار، وتعلو فوق سطح الماء نحو 50 متراً (أو ما يوازي مبنى من 16 طابقاً)، وفي هذه الحال، فإنه من الممكن لعوامل طبيعية غير عادية مثل العواصف القوية أن تؤثر على مسار السفينة التي على عكس الناقلات أو سفن الشحن العادية. نذكر هنا أن عرض قناة السويس يشير إلى المسافة بين ضفتيها، إلا أن عرضها الفعلي عند القاع يقل عن ذلك وقد يصل إلى 121 متراً.  

وتنتمي السفينة العالقة إلى آخر جيل سفن الحاويات العملاقة بحمولة 20,000 مستوعب نمطي أو ما يوازي 220,000 طن. وفي الواقع هذا القياس هو الحد الأقصى الذي تسمح هيئة قناة السويس بمروره في القناة، ولولا ذلك فإن شركات الملاحة العملاقة في العالم كانت ستطمح لبناء سفن أضخم في سعيها لوفورات الحجم والمنافسة في مجال تكلفة النقل. وقد تطورت طاقة سفن الحاويات بصورة لافتة إذ كانت لا تتجاوز 6,000 إلى 8,000 حاوية نمطية في العام 2000 لتصل حالياً إلى 20,000 حاوية نمطية. ونتيجة لهذا المنحى، نجد أن عدد السفن المارة في قناة السويس تناقص منذ العام 1980 بينما تنامت الحمولة الإجمالية أضعافاً.

إن اللجوء المتزايد إلى سفن الحاويات النمطية يعكس جملة من العوامل التي أطلقتها حركة العولمة خلال السنوات العشرين الأخيرة وأهمها:

  1. رفع الحواجز أمام التجارة الدولية في السلع والخدمات، وهو العامل الأهم في النمو الكبير في حركة المبادلات التجارية الدولية. ويشير الرسم البياني المرفق إلى أن التجارة الدولية نمت بنسبة تقارب الـ 80 في المئة ما بين العامين 2005 و2019 وهذا رغم أن الاقتصاد العالمي لم يشهد خلال الفترة نفسها سوى نمو محدود وأحياناً نمواً سلبياً (كما خلال الأزمة المالية العالمية سنة 2008 ثم خلال العام الماضي بسبب جائحة كورونا وآثارها على الاقتصاد العالمي).
  2. تعاظم حجم التصنيع التعاقدي وتوزيع العملية الصناعية، إذ أدت تلك الظاهرة إلى المزيد من النمو في المبادلات التجارية الدولية وفي حركة النقل البحري والبري والجوي.
  3. تخلي الشركات الصناعية الكبرى (مثل السيارات وغيرها) تدريجياً عن تركيز الإنتاج في موقع واحد أو حتى في بلد واحد (مع ما يتطلبه ذلك من الاحتفاظ بالمخزونات اللازمة بالقرب من العملية الصناعية) لصالح تجزئة العملية الصناعية وبناء سلاسل إمداد تسمح للصناعة بالتزود مباشرة بالقطع والسلع الأولية أو الوسيطة من مصادر خارجية، واعتبر معهد كاتو في التسعينات أن العامل الأهم في تعزيز التنافسية للشركات الصناعية هو التخلي عن بناء مخزونات مكلفة قد تتأثر بالتقادم كما وتمثل خدمتها تكلفة إضافية (فوائد الدين وغيرها) والاعتماد في المقابل على تطوير نظم الإدارة الفعالة لسلاسل الإمداد.

هذا الاتجاه العام لدى الشركات أدى إلى ثورة في مفهوم تنظيم الإنتاج لكن أحد أهم نتائجه كانت الزيادة الكبيرة في الاعتماد على أنظمة الشحن والتوصيل الفعالة Logistics في الاقتصاد العالمي ثم بروز شركات عملاقة في هذا الحقل مثل "أمازون" و"علي بابا" التي ساهمت في تعزيز المرونة وسرعة الاستجابة في التجارة العالمية، فهذا النظام فعال جداً وساعد كثيراً في خفض تكلفة الإنتاج وزيادة مرونة العمليات الصناعية إلا أنه بات معتمداً بصورة حيوية على انتظام حركة الشحن وشبكات التوصيل التي أصبحت بمثابة الشرايين التي تضخ الدماء في جسد الاقتصاد العالمي.

 

الدور الحيوي لقناة السويس

 

في هذه الخريطة الجديدة لشبكة المبادلات العالمية، بما في ذلك تجارة النفط والغاز، تلعب قناة السويس دوراً حيوياً للغاية، إذ تمثل معبراً لنحو 12 في المئة من التجارة العالمية أو ما يمثل نحو 1,000 مليار دولار ونحو 10 في المئة من تجارة النفط والغاز. وتقدر سوق لويدز للتأمين في لندن حجم البضائع التي تمر يومياً في قناة السويس باتجاه أوروبا بنحو 5.1 مليارات دولار يومياً. وتجتاز القناة 50 سفينة يومياً تحمل ما قيمته 3-9 مليارات من البضائع وهو ما يوازي 18,000 عملية مرور في الاتجاهين سنوياً.

ومن هنا يمكن فهم حالة الاضطراب التي أصابت مئات الشركات العالمية المصنّعة نتيجة للإغلاق الحالي لقناة السويس واحتجاز عدد كبير من سفن الشحن والحاويات الضخمة في خليج السويس أو في الجزء الشمالي من القناة، إذ تسبب ذلك بتأخر وصول مواد وقطع صناعية أو أجزاء مهمة للعمليات الصناعية، وجاء حادث إغلاق القناة في وقت تعاني فيه الصناعة العالمية من اضطراب في سلاسل الإمداد نتيجة القيود والإجراءات الاحترازية التي تمّ فرضها على حركة الموانئ وأطقم السفن حول العالم بسبب جائحة كورونا أو بسبب عمليات الحجر وتأخر عمليات الإنتاج.

 

العالم يقيِّم النتائج

 

لم يكن واضحاً بعد، عند كتابة هذا المقال، الوقت الذي ستستغرقه عملية تحريك السفينة العملاقة من رمال القناة باتجاه المجرى الملاحي، لكن المؤكد هو أن كل يوم تأخير في معالجة الوضع الطارئ، يرفع درجة التوتر الصامت لدى مستخدمي القناة من شركات ملاحية وشركات صناعية وتجارية حول العالم، وحتى إذا تمت معالجة الوضع في الأيام المقبلة، نتيجة الدعم المتوقع من بعض الدول مثل الولايات المتحدة، فإن حادث إغلاق سفينة عملاقة للقناة تطور غير مسبوق في التاريخ الحديث للقناة، وقد ينظر إليه باعتباره حادثاً استثنائياً، لكن قد ينظر إليه أيضاً كمؤشر على ما يكتنف مرور سفن الحاويات العملاقة في القناة من احتمالات لم تكن واردة في السابق، ولهذا السبب، فإن الحادث لن يمر من دون نتائج بعيدة على صانعي القرار في الشركات الصناعية العالمية إذ إنه كشف عن المجازفة القائمة في الاعتماد الكبير على سلاسل الإمداد من دون وجود مرتكزات محلية أو إقليمية للشركات الصناعية توفر لها المزيد من الأمان لجهة انتظام العملية الصناعية، وبالطبع فإن إعادة النظر هذه ستأخذ وقتاً لكننا بدأنا نسمع أصواتاً مؤثرة في هذا الاتجاه، وكما هي الحال في كل تغيير في استراتيجيات الشركات وأنماط التجارة، فإن علينا الانتظار والمتابعة حتى يتبين لنا الاتجاه الجديد الذي ستتخذه الأمور.