"نيوم" ينقل السعودية إلى حلبة العالمية عبر The Line

  • 2021-01-25
  • 12:30

"نيوم" ينقل السعودية إلى حلبة العالمية عبر The Line

  • رشيد حسن

قبل أسبوعين من انعقاد مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار في الرياض وقف ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أمام الكاميرات ليقدم بنفسه إلى العالم مشروع "الخط" The Line وهو الجزء من مشروع "نيوم" العملاق الذي اطلقته المملكة العربية السعودية قبل سنوات قليلة ويتوقع الانتهاء من أعمال البنى الأساسية التابعة له في العام 2025.

وفي انتظار الإفصاح عن مخططات المشروع، فإن الأمير محمد بن سلمان اكتفى بالتركيز على أهم الميزات التي ستجعل من "ذي لاين" محور استقطاب للاستثمارات والشركات وللصناعات المتقدمة والسياحة الراقية ولنحو مليون من السكان من مختلف أنحاء العالم. ومن أهم هذه الميزات التي شدّد عليها ولي العهد خلو المدينة تماماً من السيارات وغياب حركة السير أو الاكتظاظ أو التلوث واستخدام الطاقة البديلة في تأمين حاجات "ذي لاين" بنسبة 100 في المئة بما في ذلك القطارات العالية السرعة وتكنولوجيات الذكاء الاصطناعي وحماية الطبيعة.

ظهور ولي العهد السعودي بنفسه لإطلاق مشروع "ذي لاين" لم يكن مجرد عمل  ترويجي لمشروع ضخم فحسب بل كان إعلاناً عن الأهمية الخاصة التي يعطيها لمشروع "نيوم" كمرتكز لاستراتيجية تحويل السعودية إلى اقتصاد حديث ومتنوع وإلى محور إقليمي للأعمال والشركات والاستثمار.

وأظهرت المادة الإعلامية التي رافقت الإعلان عن "ذي لاين" أن المشروع سيقوم حول محور بطول 170 كلم يبدأ من المنطقة السياحية على شاطئ البحر الأحمر وينتهي في منطقة العلا، ومن المرجح أن يكون الخط هو العمود الفقري للمرحلة الأولى من نيوم الذي يوفر عامل الوحدة للمكونات العمرانية والاقتصادية التي ستنشأ حوله لاحقاً، ويتوقع خلال الفترة المقبلة البدء بإرساء البنية التحتية والمرافق الأساسية وأنظمة الإدارة والتشغيل أي الإطار العام لكن مع ترك قسط كبير من عمليات التطوير اللاحقة والنمو العضوي للمشروع لآليات السوق، وكذلك لنجاح استقطاب المستثمرين المحليين والخليجيين والدوليين.

مفتاح لأبواب عديدة

من أجل فهم الأهمية الخاصة لمشروع "ذي لاين" ولمشروع  "نيوم" ككل في استراتيجية الامير محمد بن سلمان يجب أولاً الاشارة الى الوضع الخاص للسعودية التي كان فيها قيود حدت من قدرتها على منافسة مدن وبلدان عدة في استقطاب الاستثمارات والشركات والمشاريع، ذلك أن المملكة بلد ذو أرجاء شاسعة لكن الغالبية الكبرى من السكان (نحو 80 في المئة) باتت مستقرة في المدن والحواضر الرئيسية وأكثر هذه المدن لها تاريخها أو مكانتها الخاصة الدينية أو الاقتصادية، وبهذا المعنى فإن الحدود الطبيعية للانفتاح السعودي على العالم لا تتمثل بالمكانة الدينية للمملكة فحسب بل هي في التاريخ العريق للمجتمع السعودي ولكل مدينة أو حاضرة كما إنها في الثقافة والشخصية السعودية وكل هذه المكونات، وتضع السعودية اولوية على المواءمة بين تحسين جودة الحياة للسعوديين والمقيمين وتنويع الاقتصاد وبين حماية التراث والهوية.

في هذا السياق بالتحديد، تبرز أهمية نيوم والساحل السعودي الشاسع على البحر الأحمر والمناطق الجبلية الساحرة الممتدّة من الشاطئ إلى الصحراء السعودية، فهذه المناطق التي كانت شبه منسية لعقود طويلة تحولت فجأة إلى قبلة أنظار القيادة السعودية، إذ وجدت فيها ضالتها المنشودة في سعيها لتوفير البقعة المثالية لتطوير منطقة اقتصادية خاصة ونقطة جذب عالمية للسياحة والأعمال والتكنولوجيا واللوجيستية والتجارة. إن كون هذه المنطقة غير مأهولة سكانياً ولم تخضع لأي عمليات تطوير عمراني في الماضي فضلاً عن بعدها وموقعها الاستراتيجي على تخوم مصر والأردن وعلى الطرق البحرية إلى آسيا وأوروبا وطرق التجارة إلى القارة الأفريقية الناهضة، كل هذه الأسباب تجعل من الممكن تطوير هذه المنطقة الشاسعة وفق أحدث المفاهيم البيئية وتكنولوجيات البناء والعمارة الحديثة مع توفير بيئة مثالية لجودة الحياة والرفاهية والأمن لتكون مقصداً للسياحة العالمية ونقطة جذب للشركات الدولية العاملة في مجالات التكنولوجيا المتقدمة ومحطة للخدمات المالية واتصالات الأعمال وغير ذلك اضافة الى جعلها مقصداً سياحياً عالمياً.

لقد تمكنت المملكة العربية السعودية في غضون أربع سنوات من إطلاق برنامج غير مسبوق لتحول وطني باتجاه تخفيف الاعتماد على النفط وتنمية الاقتصاد غير النفطي ودور القطاع الخاص وترشيد العمل الحكومي والإنفاق وتعميم التنمية والاهتمام بالشباب وتحسين الأداء والشفافية في عمل الإدارات الحكومية، وحققت السعودية في السنوات الاخيرة تقدماً ملحوظاً في تحسين بيئة الاستثمار وسهولة تأسيس الأعمال الجديدة. ومن الواضح ان استكمال هذه التحولات يتطلب تعزيز المملكة مكانتها كمحطة دولية وإقليمية للأعمال والتجارة والتعليم والتكنولوجيا.

 

مدينة سابقة لعصرها

لكن رهان ولي العهد السعودي ليس رهاناً عادياً فهو يدرك أن إعطاء منطقة "نيوم" طابع المنطقة الحرة أو المنطقة الاقتصادية الخاصة التي تتولى معظم أمورها بنفسها ليس كافياً لتحريك اهتمام الشركات،  لأن العديد من الدول والمدن العالمية تتوافر فيها الكثير من الميزات وأجواء الحرية الاقتصادية، بل لا بدّ للمدينة نفسها أو المنطقة العمرانية أن تتمتع بميزات تنافسية حاسمة تجاه مثيلاتها ومنافساتها في العالم، تجعلها بكل معنى الكلمة سابقة لعصرها وبحيث تكون الميزات التي توفرها في مجموعها كافية لترجيح كفة المدينة في خيارات الشركات والسائحين والزوار.

وفي هذا الإطار تمّ تصميم مشروع  The Line في نيوم لكي يقدم ميزات استثنائية مثل عدم وجود السيارات أو حركة سيرها وازدحامها وما تحدثه من تلوث للبيئة، والتوفير الكبير في وقت الانتقال وتعميم الطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي في التشغيل اليومي للمدينة ومرافقها وخدماتها وإدخال تقنيات القطار البالغ السرعة وتوافر مرافق الترفيه فضلاً عن الميزة الكبيرة لوجود "نيوم" بين أجمل سواحل وجزر السعودية وبين مناطقها الصحراوية والجبلية الخلابة في العلا التاريخية.

كما إن تطوير نيوم وفق أحدث المعايير سيضاف إليه إمكان إعطاء المدينة ومحيطها بيئة تنظيمية معينة تمكّنها من العمل وفق المعايير المطبّقة في المدن المنافسة في أنحاء العالم والتي تستجيب لنمط العيش المعاصر ومتطلبات إقامة الشركات وموظفيها واجتذاب السياحة العالمية إلى هذه المنطقة الفريدة.

تحدّي التمويل

تقدر استثمارات مشروع "نيوم" في مراحله كافة بنحو 500 مليار دولار وهو ما يجعله من أعلى مشاريع التطوير المديني المتكامل تكلفة في التاريخ القريب، لكن المملكة العربية السعودية، التي تعتبر واحداً من أكبر 20 اقتصاداً في العالم، تتمتع بوضع مالي متماسك وهي تمكنت من تحقيق إصلاحات جذرية في سياسات تخصيص الموارد وترشيد الإنفاق بحيث بات متوقعاً أن تتوصل إلى تحقيق التوازن المالي خلال سنوات قليلة ولاسيما في حال تماسك اسواق النفط على الأمد المتوسط. في هذا الوقت، تمكنت المملكة من تطوير واحد من أكبر الصناديق السيادية في العالم وهو صندوق الاستثمارات العامة الذي بات مع موارد تقارب الـ 400 مليار دولار والذي يتولى دوراً أساسياً في استراتيجية التنمية السعودية. ومن المتوقع أن يلعب الصندوق دوراً أساسياً في توفير الموارد اللازمة لتطوير المشروع والمشاريع الأساسية لبرنامج التحول الوطني وإن كانت الظروف التي نتجت عن جائحة الكورونا ستفرض إعادة ترتيب في بعض الأولويات وتطبيق وتائر أطول أمداً في برامج التنفيذ.  

لكن كان لافتاً تأكيد الأمير محمد بن سلمان أخيراً على أن المملكة ستتمكن من تمويل مشاريعها الكبرى بنسبة 85 في المئة من مواردها الوطنية عبر صندوق الاستثمارات العامة والمصادر المحلية على أن يتم تمويل الباقي من الاستثمارات الخارجية الخليجية والعالمية، وهذا الوضع مع استمرار الدين العام ضمن سقوف آمنة وحجم يسهل خدمته في أجواء فوائد متدنية عالمياً، يعطي مرونة كبيرة للمملكة في تمويل مشاريعها الاستراتيجية وتوفير الاستثمارات المطلوبة لدعم النمو.

لكن أخذاً في الاعتبار التطورات التي نجمت عن أزمة الكورونا وكذلك نتائج الانكماش الاقتصادي على النطاق العالمي فإنه سيكون على المملكة بذل جهود أكبر لاستقطاب الاستثمارات في مناخ من الركود وخسائر الشركات وانكماش الطلب وهي تفعل ذلك في تنافس مباشر مع دول عديدة في العالمين المتقدم والنامي، لكن على الرغم من ذلك، فإن مشروع "نيوم"، بتصميمه الفريد والاحتمالات الكبيرة لنموه إلى حاضرة مستقبلية عالمية، ستكون له في حد ذاته جاذبيته الخاصة للمستثمرين الذين سيرون فيه مشروعاً واعداً جداً في وقت قلت كثيراً المشروعات الجديدة Greenfield القادرة على استقطاب استثمارات دولية.

تسريع عمليات البناء

تشير الأعمال الجارية على الأرض إلى أن مشروع "نيوم" (عبر مرحلته الأولى) وضع فعلاً على سكة الأعمال التنفيذية بدءاً بنقل جهاز العاملين فيه من الرياض إلى منطقة المشروع  ومروراً بتطوير المطار المحلي والتأسيس لشبكة مطارات مع البدء بتسيير رحلتين أسبوعياً للخطوط السعودية بين العاصمة الرياض ونيوم. وتمّ في الوقت نفسه منح عدد من العقود الأساسية منها عقد لبناء وتطوير مدينة سكنية تكفي لاستيعاب نحو 30,000 من عمال وكوادر البناء، كما تمّ في صيف العام 2020 توقيع جملة من عقود البنية التحتية من بينها عقد بقيمة 5 مليارات دولار لبناء أكبر وحدة في العالم لإنتاج الهيدروجين الأخضر (الطاقة النظيفة) باستخدام الطاقة المتجددة، ومن بينها أيضاً تعيين شركة استشارية عالمية لتصميم البنى التحتية وأنظمة المواصلات في نيوم مع الأخذ في الاعتبار الأهداف البيئية المقررة.

وفي شهر أغسطس الماضي مُنحت شركة بكتل الأميركية العملاقة عقداً يتعلق بتوفير خدمات التصميم والبناء والإدارة لمشروع تطوير نيوم وبصورة خاصة توفير منظومة خدمات ومواصلات متكاملة، كما أعطيت شركة البحر الأحمر الدولية المسجلة في بورصة الرياض عقدين بقيمة 35 مليون دولار لهدف تأمين أبنية مسبقة الصنع لإسكان كبار موظفي وإداريي مشروع مدينة نيوم الصناعية وتوفير خدمات الأمن والصيانة..

عشر سنوات مثيرة

الأكيد الآن هو أن مشروع نيوم وُضع على "الخط" أي المرحلة الأساسية من برنامج تنفيذ أعماله الطموحة، وبدأت السعودية بذلك تنفيذ أحد أكبر مشروعات إطلاق المدن الجديدة إثارة في العالم، وخلال السنوات العشر المقبلة ستكون أنظار السعوديين والعالم مركزة على هذا المشروع المحوري الذي يمثل اختباراً غير مسبوق للقدرات السعودية، كما يمثل اختباراً لرؤية 2030 التي أنتجت حتى الآن وفي زمن قصير تحولات كبرى في حياة المملكة وآفاق تطورها. إنها السعودية الجديدة تبنى على الرؤية السبّاقة والجرأة والمسؤولية وثقافة الإنجاز.