لبنان: جمهورية البنادول تنافس جمهوريات الموز

  • 2020-12-01
  • 07:57

لبنان: جمهورية البنادول تنافس جمهوريات الموز

  • علي زين الدين

​  

ينشر المسؤولون في لبنان يومياً غسيل فشل الدولة على المشابك المحلية والدولية. لم تثنهم الكارثة التي خلفها انفجار مرفأ بيروت الهائل ودمار ثلث أحياء العاصمة عن المبارزة بتقاذف المسؤوليات، ولا تحبطهم توصيفات المجتمع الدولي بحقهم، ولا يتعبهم تواصل إشهار عينات من الفساد المستشري في كل مفاصل الإدارة العامة ومؤسساتها ومجالسها التي يميط لثامها محامون وخبراء وصحافيون استقصائيون.

الغريب الفاضح، أن المسؤولين عينهم يضيقون ذرعاً بالحصار المالي الخارجي الذي يمنع المدد عن البلد الغارق في مستنقع انهياراته واحباطات مواطنيه وفقرهم، بل يتبارون في التوصيف والشرح متغافلين عمداً مقتضيات المبادرة الفرنسية التي حملها إلى ديارهم الرئيس ايمانويل ماكرون، والذي يواصل حثهم، برغم خيبته، على ملاقاته بحكومة متجانسة تحظى بتوافق داخلي واسع، لقاء التزامه، من موقعه وموقع بلاده على الخريطة العالمية، بحشد الدعم الدولي لخطة انقاذ منهجية ومكتملة دلهم مسبقاً الى مرتكزاتها وخياراتها.

 

قد يهمك:

إبرة التحقيق الجنائي اللبناني في كومة ربع تريليون دولار

 

هكذا، يستعد البلد وناسه للولوج في " ثقب أسود " يعصى حتى على "الراسخين" في علوم إدارة الدول من سياسيين واقتصاديين وخبراء تحديد ماهيته ومآلاته. فحصيلة الانهيارات المالية والنقدية على مدى 14 شهراً متصلة ومزخمة بتداعياتها الاقتصادية والمعيشية وخطر تمددها الشرس إلى القطاعين الاستشفائي والتعليمي، مضافاً اليها خطورة الأمن الصحي المتداعي بفعل تفشي وباء كورونا، لم تبق سوى قليل من رجاء لقليل من الناس سيصمد معانياً هجرة الأبناء والفقر في وطنه، وعذره انه لا يجد طوق نجاة يقذف به وبعائلته الى ديار الله الواسعة.

الغريب، أن أهل "الحل والربط" لا يألون جهداً في ترتيب أسبقيات النتائج التي يخلفها "الخراب الأعمى"، فالأولوية المرفوعة بكسر كرامة الناس هي "تخييرهم" بين تقاسم رمق الدعم في أشهر معدودات مع من لا يستحقه ومع تجار الفوضى والتهريب، وبين تسولهم "لأشهر معدودات أيضاً لمبلغ مقطوع لا يثق أحد بشفافية تخصيصه وصرفه. في الحالين سيتم استنزاف ما تبقى من احتياطات ودائعهم المودعة "الزامياً" في البنك المركزي، وستتضاعف سرعة قطار البلد الى "الثقب" الموعود.

والأنكى، أن الترتيب المعتمد وضع حاكم مصرف لبنان ومجلسه المركزي أمام خيارين يودي كلاهما الى الاصطدام الكبير. فهو ومجلسه مدانان مسبقاً، إن قررا وقف الدعم حتى بذريعة عدم توفر الأموال القابلة للاستخدام والتي تدنت حقاً عن المليار دولار الذي يكفي لشهرين كحد أقصى، وهما في مرمى سهام " الجناية الشائنة " بتهمة تبديد الجزء الباقي من أموال المودعين، إن قررا خفض أي مقدار من نسبة الاحتياطي الالزامي، حيث يعادل كل واحد في المئة نحو المليار دولار. القاعدة الفريدة المتاحة:
"التزام استمرار الدعم !".

ثاني الأولويات أو أولاها بنظر حاملي راياتها، تحمل عنوان "التدقيق الجنائي" الذي تجمع عليه القوى الفاعلة جمعاء، انما وفق تنسيبها ومقارباتها الخاصة، على منوال من يتذكر رسالة اسعد ابن شهدان الى حبيبته سلمى في احدى المسرحيات الرحبانية الرائعة. يغفل الجميع ان قرائن الفساد من محاصصات ومحسوبيات واختلاسات وهدر واستباحة القوانين والمؤسسات هي وقود غضب الناس ما ظهر منه وما بطن، وهي السبب الرئيسي لثورتهم المستعرة في نفوسهم قبل انتقالهم الى الشوارع وبعده.

وحتى في ظل الاجماع "المظهري" في غالبيته، اختار أولو الأمر تمرير الاستحقاق بأولويته تحت لافتة "تعا ولا تجي". بل صوبوا، بتناقض صارخ، الرمح الموسوم بتواقيعهم الى "الفراغ"، حيث لا تشريع يحدد البوصلة ولا سلطة تنفيذية قادرة على تكليف جيش من المستشارين الدوليين لسبر أغوار كل وزارات الدولة ومؤسساتها التابعة ومجالسها وصناديقها. بذلك يصبح التكليف، ان وجد وابصر العقود، تائها زرافات ووحدانا في دوامة "لا" نقطة ارتكاز لها ولا مظلة قانونية وحكومية تضبط ايقاعها ودورانها.

يدرك الجمع المسؤول ويعلم الناس أن خريطة طريق الانقاذ تبدأ من تأليف الحكومة العتيدة، وتنتقل سريعاً لصوغ خطة انقاذ أضحت بنودها معلومة بالجمع بين برنامج المبادرة الفرنسية والقواسم المشتركة لخلاصات أوراق عمل حكومة تصريف الأعمال وملاحظات لجنة المال النيابية وتصويبات البنك المركزي وجمعية المصارف ومداخلات المختصين والخبراء.

في الأساس ليس على اللبنانيين اعادة اختراع "الدولاب". فالمؤسسات الدولية، وفي طليعتها صندوق النقد والبنك الدوليين، انذرت قبل سنوات من " الآتي " بالمساوىء والانهيارات بفعل "التناحر" الداخلي وغياب الحوكمة وترهل الادارة وتفشي الفساد على كل المستويات، وهي منخرطة تماماً في الشأن اللبناني سواء عبر المفاوضات المباشرة أو عبر التزامات المبادرة الفرنسية، وحتى ضمن المسار الموعود لمؤتمر "سيدر".

بناء عليه، لا خلاص ممكناً من دون السير على درب الخلاص. ولا أموال ستأتي من دون الحصول على "مفتاح" صندوق النقد الدولي والاستثمار في المبادرة الفرنسية. أما الدعم والاحتياط والتدقيق المحاسبي والجنائي، فهي أولويات مشروعة في مرحلة تحديد قاع الانهيار وبدء الصعود الى التعافي، وهي ملهاة موصوفة في ظل انعدام الوزن وانشغال اصحاب القرار بشؤون "مرتا ".

هي الحقيقة الساطعة في جمهورية يتزاحم ناسها على حبة "البنادول" التي باتت هدية ثمينة يحملها العاملون في الخارج الى أهلهم وذويهم وأصدقائهم. فهل يحق لنا بعد الآن التندر والتنمر على جمهوريات الموز .. ابتسم، انت في رحاب جمهورية البنادول ..