السعودية تتحول الى مركز مالي عالمي يخدم طموحاتها الاقتصادية
السعودية تتحول الى مركز مالي عالمي يخدم طموحاتها الاقتصادية
-
كتب فيصل أبوزكي
تفاعلت سوق الأسهم السعودية بشكل غير مسبوق مع الأخبار التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية في أواخر أيلول/ سبتمبر 2025 حول قرب السماح للأجانب بتملك حصص أغلبية في الشركات المدرجة بعد سنوات من الاكتفاء بسقف 49 في المئة. الإعلان دفع مؤشر "تاسي" إلى قفزة تقارب 5 في المئة في جلسة واحدة هي الأكبر منذ سنوات مع صعود لافت لأسهم البنوك والقطاعات القيادية في مشهد يعكس تعطش السوق للمزيد من الخطوات إلاصلاحية التي تفتح شرايين السيولة العالمية أمامه. هذه القفزة لم تكن مجرد ردة فعل آنية بل إشارة على أن المستثمرين قرأوا في الخبر إصراراً سعودياً متجدداً على تحويل سوقها المالية إلى منصة اكثر جاذبية لرأس المال الدولي ضمن رؤية أشمل للاقتصاد.
تدفقات بـ 10 مليارات دولار
انضمت السعودية بشكل كامل لمؤشرات الأسواق الناشئة مثل MSCI و FTSE في 2019 بوزن لم يتجاوز آنذاك 2.8 في المئة لكنها اليوم تمثل نحو 4 في المئة من مؤشر MSCI للأسواق الناشئة، ويغطي مؤشر MSCI Saudi Arabia وحده نحو 85 في المئة من القيمة السوقية الحرة للأسهم المحلية. ويعني رفع سقف الملكية إلى أغلبية أن أسهماً كبيرة كانت مستبعدة من حسابات المؤشرات بسبب القيود التنظيمية ستصبح قابلة للإدراج، ما قد يرفع الوزن النسبي للمملكة إلى نطاق يقترب من 5 في المئة في المدى المتوسط ويجذب تدفقات إضافية من الصناديق السلبية التي تتبع هذه المؤشرات تلقائياً.
وتضع تقديرات بنوك عالمية مثل JPMorgan و UBS حجم هذه التدفقات المحتملة عند نحو 9.5 إلى 10 مليارات دولار وهي مبالغ قادرة على إعادة تشكيل السيولة في السوق بأكملها إذا تحولت إلى أوامر شراء فعلية.
إن تأثير هذا التغيير لن يقتصر على الأرقام المجردة بل يمتد إلى طبيعة السوق نفسها، إذ إن دخول مستثمرين مؤسسيين عالميين بأوزان أكبر سيعمّق السوق ويوسع قاعدة المستثمرين ويرفع أحجام التداول اليومية ويقلّص الفروقات بين أسعار العرض والطلب بما يسهل تنفيذ الصفقات الكبيرة ويخفض تكلفة رأس المال للشركات. وقد تنقل زيادة حجم السيولة وتنوعها السوق إلى حالة أكثر استقراراً وتوازناً بين البعد المحلي والعالمي وتمتد آثار ذلك إلى تعزيز الحوكمة والإفصاح.
غير إن رفع السقف، على أهميته، لن يكون وحده كافياً لاستعادة موجة الصعود في المؤشر الذي سجل تراجعاً منذ بداية العام 2025، اذ بلغت نسبته في وقت من الأوقات نحو 10 في المئة بفعل ضغوط أسعار النفط وتشديد السياسات النقدية العالمية وتراجع السيولة وشهية المخاطرة وغيرها من العوامل.
إن نجاح هذا التحول، في حال إقراره رسمياً، في اعطاء السوق قوة دفع ايجابية والتأسيس لمسار تصاعدي جديد في المؤشر مرهون بترافقه مع بيئة اقتصادية مؤاتية وتحسن في أرباح الشركات واستمرار الزخم الإصلاحي، وهي عناصر متوافرة حالياً في البيئة الاقتصادية والاستثمارية السعودية. وتشير التوقعات الحالية إلى نمو إجمالي الناتج المحلي السعودي بنسبة تتراوح ما بين 3.6 إلى 4.6 في المئة خلال 2025 وفق مصادر متعددة، في الوقت الذي تتواصل فيه الإصلاحات التي أصبحت أكثر دقة وعمقاً. ومن المهم الاشارة الى ان معدل نمو الاقتصاد غير النفطي، الذي اصبح يشكل أكثر من 56 في المئة من الناتج، يفوق ما هو عليه في الاقتصاد ككل. وفي الوقت الذي قد تمنح التدفقات المتوقعة السوق دفعة تكتيكية في الأجل القصير لكنها يمكن أن تصبح نقطة تحول استراتيجية في حال تزامنها مع عوامل اقتصادية كلية داعمة وتبني سياسات مكملة وإجراءات تقنية مثل تسريع تسوية المعاملات وتطوير سوق المشتقات وتوسيع الإقراض الهامشي المنضبط لتعزيز عمق السيولة.
خطوة في مسار اوسع
هذه الخطوة تندرج ضمن مسار إصلاح مالي واقتصادي أوسع تنتهجه المملكة منذ سنوات لتعميق أسواق رأس المال وجعلها منصة لتمويل المشاريع التحولية العملاقة ودعم التنويع الاقتصادي بعيداً عن النفط. وتحت مظلة رؤية 2030 وبرنامج تطوير القطاع المالي، طورت السعودية بنيتها التحتية السوقية ونظمت بيئتها الاستثمارية وأبرمت شراكات دولية لجذب رأس المال المباشر والمحفظي في آن واحد مستفيدة من موقعها الجغرافي كجسر بين آسيا، أوروبا وأفريقيا، ومن شبكة علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية الواسعة. ولن يكون رفع سقف الملكية الأجنبية في الأسهم السعودية مجرد تعديل فني في اللوائح بل رسالة بأن الرياض تريد أن تكون مركزاً مالياً عالمياً يخدم تحولها الاقتصادي، وأن سوقها المالية أصبحت مفتوحة على نطاق واسع لرأس المال العالمي طويل الأجل.
بهذا المعنى، فإن التحرير المرتقب يشكّل حلقة جديدة في قصة تحول السعودية إلى وجهة استثمارية عالمية ناضجة، وهو يمكن أن يتحول إلى نقطة ارتكاز جديدة ترفع الوزن السعودي في مؤشرات MSCI وتجذب تدفقات كبيرة وتزيد أحجام التداول اليومية وترسّخ موقع المملكة كأكبر سوق مالية في الشرق الأوسط وإحدى أهم الأسواق الناشئة على الخريطة العالمية. وتمثل هذه الخطوة، في حال إقرارها، إصلاحاً كبيراً في طريق طويل بدأ قبل عقد لكنه اليوم يقترب من مستوى يمكن أن يغير قواعد اللعبة ويمنح المستثمر العالمي ثقة أكبر في أن السعودية ليست فقط قصة إصلاح داخلي بل قصة اندماج مؤسسي في النظام المالي العالمي.