من كأس العالم إلى الأولمبياد: الأحداث العالمية ركيزة أساسية للتنويع الاقتصادي بالخليج

  • 2025-08-04
  • 11:18

من كأس العالم إلى الأولمبياد: الأحداث العالمية ركيزة أساسية للتنويع الاقتصادي بالخليج

  • كتب فيصل أبوزكي
تتجه أنظار العالم بشكل متزايد نحو منطقة الخليج، التي رسخت مكانتها كمركز حيوي لاستضافة الأحداث العالمية الضخمة، ولاسيما في المجال الرياضي. هذا  ليس وليد الصدفة، بل هو نتيجة لرؤى طموحة واستثمارات هائلة تهدف إلى تنويع الاقتصاد وتطوير محركات جديدة للنمو وإعادة صياغة موقع  المنطقة على الساحة الدولية، وبالتالي تُعدّ استضافة هذه الأحداث ركيزة أساسية لاستراتيجيات التنويع الاقتصادي، وتعزيز القوة الناعمة، وتحسين الصورة النمطية للمنطقة، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وخلق فرص العمل. ويمكن القول إن هذه الأحداث تُستخدم كأدوات استراتيجية لإعادة تموضع بلدان الخليج على الخريطة الجيوسياسية العالمية، والسعي نحو هوية تتجاوز الاعتماد على النفط.
ويأتي دخول قطر رسمياً في نقاشات مع اللجنة الأولمبية الدولية لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية والبارالمبية الصيفية لعام 2036، ليعكس هذا التوجه المتنامي والطموح لتكريس قطر والخليج كمنطقة جذب رئيسية للاحداث الرياضية العالمية. وبهذا، تنضم قطر إلى قائمة الدول التي أعلنت رغبتها الرسمية في الترشح لتنظيم أولمبياد 2036، والتي تشمل كلاً من إندونيسيا، الهند، تشيلي، وتركيا، إلى جانب دول أخرى تدرس هذا الخيار. وفي حال نجاح الدوحة في نيل شرف الاستضافة، ستكون أول دولة من الشرق الأوسط تحتضن هذا الحدث الرياضي الضخم، في إنجاز من شأنه أن يعزز الثقة المتزايدة في قدرات المنطقة على تنظيم فعاليات كبرى بمعايير عالمية. وتُظهر هذه التحولات أن دول الخليج لا تستضيف الأحداث الكبرى لمجرد التباهي أو تحسين الصورة الظاهرية، بل لاستخدامها كآلية استراتيجية لتوجيه الاستثمارات نحو القطاعات غير النفطية، التي تهدف الى تطويرها لتكون قاطرة التنويع الاقتصادي وركيزة الاقتصاد الجديد التي تسعى الى تكوينه. 

تاريخياً، اعتمدت اقتصادات الخليج على عائدات النفط لتمويل الانفاق الحكومي وتحقيق النمو الاقتصادي وتطوير البنى التحتية. وقد كشفت تقلبات أسعار النفط وتذبذب الطلب العالمي عليه والضغط الكبير الذي تمت مراكمته في السنوات الماضية للحدّ من استخدام الطاقة الاحفورية كوسيلة أساسية لمواجهة التغير المناخي عن نقاط ضعف هيكلية في هذا النموذج الاقتصادي. وفي هذا السياق، تتطلب استضافة الأحداث العالمية الكبرى استثمارات ضخمة في البنية التحتية مثل النقل والملاعب وفي قطاعات اخرى مثل السياحة والضيافة والخدمات اللوجيستية والتقنية وغيرها. وتساعد هذه الاستثمارات بدورها على تنمية قطاعات اقتصادية جديدة، وتوفر فرص عمل متنوعة ، وتجذب الاستثمار الأجنبي المباشر إلى هذه القطاعات الناشئة. وتعتبر هذه الاستراتيجية بمثابة "حافز اساسي" لتسريع وتيرة التنمية المستهدفة، ما يساهم في تحويل اقتصادات بلدان الخليج من مجرد مصدّر للموارد الطبيعية إلى مراكز عالمية للخدمات، ويعزز من موقعها كممرات تجارية ومالية وتقنية حيوية في العالم، كما يساعد على تعزيز قدرتها على جذب الاستثمارات وتحسين موقعها على خريطة الاقتصاد العالمي الذي يشهد حالياً تحولات أساسية في قواعد  التجارة العالمية التي سادت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والتقنية نتيجة تصاعد المنافسة السياسية والاقتصادية والتكنولوجية بين الولايات المتحدة الاميركية والصين، وبروز السياسات التجارية الجديدة التي تتبعها الولايات المتحدة مع شركائها التجاريين.

 


قطر 2036: من المونديال الى الاولمبياد

تؤكد قطر على جاهزيتها العالية لاستضافة الأولمبياد، مشيرة إلى أن نحو 95 في المئة من الملاعب والمرافق اللازمة قد تم بناؤها بالفعل بفضل استثماراتها الضخمة على مدى العقد الماضي، والتي شملت تنظيم كأس العالم 2022 والألعاب الآسيوية 2030. وتتماشى هذه الجهوزية مع إصلاحات أجندة 2020 للجنة الأولمبية الدولية، التي تشجع المدن على استخدام البنية التحتية الموجودة لتقليل الأعباء البيئية والمالية، ما يعزز ملف قطر كخيار مستدام. وتركز قطر في عرضها على الاستدامة والشمولية والفعالية ذات التأثير العالمي، مؤكدة على أن المرافق ستخدم المجتمع لفترة طويلة بعد انتهاء الألعاب. وبالطبع فإن نجاح تجربة تنظيم كأس العالم 2022 يُعدّ عاملاً رئيسياً في دعم الملف القطري. ومع أنه لم يتم طرح مسألة التوقيت بشكل واضح، إلا أنه من المتوقع أن تقترح قطر ضمن عرضها لاستضافة أولمبياد 2036 جدولاً زمنياً يقام خلال فصل الخريف، على غرار كأس العالم 2022، وذلك لتفادي درجات الحرارة المرتفعة التي شكلت تحدياً في محاولاتها السابقة للتقدم بعروض لاستضافة الأولمبياد في عامي 2016 و2020.
ولا شك أن قطر أصبحت تتمتع بسجل قوي في تنظيم الاحداث الكبرى، بعد استضافتها لكأس العالم 2022 ولبطولات أخرى، منها بطولة العالم لألعاب القوى 2019، كما ضمنت استضافة دورة الألعاب الآسيوية 2030. وقد اكسبتها هذه التجارب خبرة لوجيستية وتنظيمية كبيرة، ووضعت أساساً متيناً لأي متطلبات أولمبية مستقبلية.
وتبدو استراتيجية قطر المعلنة للاستفادة من البنية التحتية القائمة لأولمبياد 2036 سياسة فعالة للتأكيد على أنها لن تكون بحاجة الى الكثير من مشاريع البناء الجديدة وبأن تنظيمها للأولمبياد سيكون وفق معايير الاستدامة العالية. وتؤكد قطر أن 95 في المئة من البنية التحتية المطلوبة جاهزة بالفعل، وهو ما يقلل إلى حد كبير من الحاجة إلى إنشاء مرافق أو مشاريع جديدة، كما إن التركيز على مفهومي "الإرث" والاستدامة يتماشى مع أجندة اللجنة الأولمبية الدولية 2020، ما يحول ما كان يُنظر إليه سابقاً كنقطة ضعف – كالبناء المكثف والمكلف – إلى نقطة قوة تعكس الاستفادة من المنشآت القائمة والالتزام بمعايير الاستدامة. ويعكس ذلك استثماراً استراتيجياً في التجارب السابقة، ومحاولة لتعزيز الصورة الدولية لقطر كدولة ذات خبرات عريقة، قادرة على استضافة الفعاليات الكبرى وفق معايير الاستدامة والكفاءة. وكانت تجربة كأس العالم 2022 في قطر نقطة تحول في هذا المسار، واستثمرت قطر ما يقدر بـ 200- 300 مليار دولار أميركي على مدى عقد من الزمن في برنامج استثماري ضخم، وقد خصص جزء كبير من هذا الاستثمار للبنية التحتية العامة مثل شبكات النقل والمطارات والموانئ، وليس فقط الملاعب، التي قُدرت تكلفتها بنحو 6.5 مليارات دولار، وقد حوّل هذا الاستثمار المشهد الحضري للبلاد، وساهم بشكل كبير في نمو الاقتصاد غير النفطي.

وتشير التقديرات أن البطولة ساهمت بنحو 0.7 -1.0 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لدولة قطر في العام 2022، أي ما يعادل قيمة اضافية اجمالية بحدود 1.6 -2.4 مليار دولار أميركي جاءت بشكل اساسي من إيرادات السياحة والبث والتجزئة، وهو ما يضاهي تجارب الدول الأخرى التي سبق واستضافت كأس العالم. وفي العام 2022 بلغ معدل النمو في اجمالي الناتج المحلي القطري نحو 4 في المئة مقارنة مع 1.5 في المئة في العام 2021، كما شهدت السياحة والضيافة والطلب المحلي على الخدمات زيادة كبيرة، وبلغ عدد الزوار أكثر من مليون زائر. وتتوقع قطر زيادة عدد السياح سنوياً بثلاثة أضعاف بحلول العام 2030 (من مليوني سائح في 2019 إلى ستة ملايين)، ما يدل على الأثر السياحي طويل الأمد. وتشير التقديرات الى ان الانفاق المرتبط بكأس العالم ساهم في خلق نحو 1.5 مليون وظيفة بين عامي 2010 و2022، وفي حين ان بعض هذه الوظائف كان مؤقتاً فإن الاستثمار الكبير الذي قامت فيه قطر خلال تلك الفترة استعداداً لكأس العالم يتوقع ان يساهم في اضافة فرص عمل جديدة على الامد الطويل في قطاعات متنوعة مثل السياحة والضيافة والتجزئة وغيرها من القطاعات الخدمية.

 

 

السعودية: مونديال 2034: ما قبله وبعده

إن تأكيد استضافة السعودية لكأس العالم 2034 في ديسمبر 2024 يجعلها ثالث دولة آسيوية تستضيف البطولة بعد كوريا واليابان (2002) وقطر (2022)، وسيتم تنظيم البطولة في خمس مدن (الرياض، جدة، الخبر، أبها، ونيوم) وستشمل 15 ملعباً، منها 11 ملعباً جديداً، مع توقع استضافة ملعب الملك سلمان الدولي في الرياض للمباراتين الافتتاحية والنهائية. وقد أكد رئيس "الفيفا" جياني إنفانتينو أن البطولة تمثل "فرصاً هائلة" للاستثمار في السعودية، ما يعكس الأهداف الاقتصادية الكبرى وراء الاستضافة.
 وتشير بعض التقديرات الى ان تنظيم كأس العالم 2034 سيكون له اثر اقتصادي يقدر بحدود 77.2 مليار ريال سعودي ( 20.6 مليار دولار اميركي) نتيجة استثمارات بحدود 55 مليار ريال سعودي ( 14.7 مليار دولار) بين عامي 2025 و 2034 ستخصص لبناء 11 ملعباً جديداً بكلفة 25.4 مليار ريال ولبناء 185 الف غرفة فندقية بكلفة 29.2 مليار ريال، كما يتوقع ان يساهم الحدث باضافة 400 الف فرصة عمل وان يتجاوز الانفاق السياحي حدود 26.6 مليار ريال سعودي. 
وستستضيف المملكة الدورة الـ 19 من كأس أمم آسيا لكرة القدم في العام 2027 في أربع مدن سعودية، وكذلك دورة الالعاب العربية في نسختها الـ 16 في العام نفسه. وفي العام 2029 ستقام دورة الألعاب الآسيوية الشتوية في مدينة تروجينا السعودية، وهي احدى مدن مشروع نيوم العملاق. الى ذلك، تنظم السعودية دورة الألعاب الآسيوية 2034 في نسختها الثانية والعشرين، والتي تستقطب عادة عدداً كبيراً من المشاركين. وضمن الأحداث العالمية الكبرى، فازت السعودية في تنظيم معرض "إكسبو 2030"، وكانت المملكة أشارت الى أنها تدرس إمكانية التقدم بعرض لتنظيم دورة الالعاب الاولمبية لعام 2036.
وتشير هذه التطورات مجتمعة إلى أن المملكة العربية السعودية تسير نحو مرحلة مفصلية في تحولها إلى واحدة من أبرز الوجهات السياحية في العالم وربما اسرعها نمواً. ففي العام 2024، استقطبت السعودية أكثر من 116 مليون سائح، من بينهم نحو 30 مليون زائر دولي أنفقوا نحو 168.5 مليار ريال سعودي (نحو 45 مليار دولار أميركي)، وقد حققت المملكة أعلى معدل نمو في القطاع السياحي بين دول مجموعة العشرين خلال العام نفسه.

ووفقاً لتصريحات وزير السياحة السعودي أحمد الخطيب، تسهم السياحة حالياً بنحو 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مع خطة طموحة لرفع هذه المساهمة إلى 10 في المئة بحلول العام 2030، لتصبح ثاني أكبر قطاع اقتصادي في المملكة بعد النفط. ولا شك أن استضافة الأحداث الكبرى ستمثل قوة دافعة رئيسية في تسريع نمو قطاع السياحة خلال السنوات المقبلة، مما يعزز دوره كمحرك أساسي للاقتصاد والاستثمار وتوليد فرص العمل، فضلاً عن كونه عنصراً محورياً في تحقيق أهداف التنويع الاقتصادي، وإبراز ملامح الاقتصاد الجديد الذي تسعى المملكة إلى ترسيخه ضمن إطار رؤية السعودية 2030.

 

 

قفزات تنموية كبرى

تُظهر هذه الاستضافات الضخمة أن دول الخليج لا تتبع مساراً تنموياً تدريجياً، بل تسعى لتحقيق "قفزات كبرى" في التنمية. فاستضافة الأحداث الضخمة مثل كأس العالم والأولمبياد تتطلب تسريعاً غير مسبوق في تطوير البنية التحتية والخدمات. وعلى سبيل المثال، أنفقت قطر 200- 300 مليار دولار في عقد واحد لتطوير البنية التحتية الشاملة ضمن استعدادها لتنظيم كأس العالم 2022، والسعودية تخطط لإنشاء 11 ملعباً جديداً من أصل 15 لاستضافة كأس العالم 2034 إضافة الى عدد كبير من المشاريع العملاقة، باستثمار اجمالي يقدر بأكثر من 1.4 تريليون دولار. هذا الحجم من الاستثمار والتطوير لا يمكن تحقيقه بالوتيرة العادية للنمو الاقتصادي. إنها استراتيجية "التنمية بالصدمة الإيجابية"، حيث يتم ضخ استثمارات هائلة في فترة زمنية قصيرة لخلق بنية تحتية وقطاعات اقتصادية جديدة. وما الاحداث الرياضية الا محطات أساسية في رحلة تاريخية وطموحة لبناء اقتصادات عصرية مستدامة تعتمد على محركات نمو جديدة غير نفطية، وتجعل من الخليج مقصداً عالمياً، تجارياً، مالياً، تكنولوجياً، سياحياً، متزايد الاهمية للتجارة والمال والتكنولوجيا والسياحة والرياضة.

 

"الفورمولا 1" وغيرها

أصبحت منطقة الخليج محطة رئيسية في تقويم "الفورمولا 1" العالمي، حيث تستضيف أربع دول سباقات الجائزة الكبرى: البحرين (منذ 2004، أول سباق في الشرق الأوسط)، أبوظبي (ياس مارينا، منذ 2009)، السعودية (جدة، منذ 2021)، وقطر (لوسيل، منذ 2021)، هذه السباقات لا تجذب عشاق الرياضة فحسب، بل تعزز أيضاً قطاع الضيافة والسياحة وغيرها من القطاعات. 
 وتستضيف المنطقة بطولات مرموقة لرياضة كرة المضرب (التنس)، مثل بطولة دبي للتنس ATP 500  و WTA 1000 منذ العام 1993، والتي شاركت فيها أسماء كبيرة مثل روجر فيدرر ونوفاك دجوكوفيتش وغيرهم من اللاعبين العالميين، كما تستضيف قطر بطولة قطر إكسون موبيل المفتوحة في الدوحة (فبراير 2025)، إضافة إلى نهائيات الجيل القادم لرابطة محترفي التنس (ATP) في مدينة جدة السعودية (ديسمبر 2025).

وتُعدّ الإمارات العربية المتحدة مركزاً عالمياً رئيسياً لبطولات رياضة الغولف، وتستضيف العديد من الأحداث مثل بطولة أبوظبي للغولف، بطولة موانئ دبي العالمية (DP World Tour  Championship) وكلاسيك دبي الصحراوي، كما إن جولة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA Tour) التي تأسست في العام 2011، تلعب دوراً أساسياً في تطوير رياضة الغولف في المنطقة، وقد دخلت في تحالف استراتيجي مع LIV Golf لتعزيز نقاط التصنيف العالمي. وتولي المملكة العربية السعودية اهتماماً كبيراً برياضة الغولف وتقوم باستثمارات ضخمة لإنشاء المزيد من الملاعب، واستضافة بطولات أساسية. وشكلت المملكة عبر صندوقها السيادي عاملاً أساسياً في انشاء جمعية Liv للمحترفين في الولايات المتحدة الأميركية، والتي اندمجت لاحقاً مع جمعية محترفي الغولف (PGA)، وتستضيف الامارات كأس دبي العالمي لسباقات الخيل وهي الاكبر عالمياً، كما تستقطب المنطقة أيضاً أحداثاً رياضية أخرى مثل مباريات الدوري الأميركي للمحترفين لكرة السلة (NBA) في أبوظبي، والماراثونات العالمية، وكأس العالم للرياضات الإلكترونية في السعودية، ما يدل على تنوع وضخامة الاستثمارات الرياضية.

 

 الأبعاد الاقتصادية: تنويع، استثمار، وازدهار

إن الإنفاق على الأحداث الضخمة هو في جوهره إعادة توجيه لرأس المال من الاستثمار في "اقتصاد النفط" إلى الاستثمار في "اقتصاد المستقبل". تاريخياً، كانت استثمارات دول الخليج تتركز بشكل كبير في البنية التحتية المرتبطة بقطاع النفط والغاز، أما اليوم، فقد أصبح الجزء الأكبر من هذه الاستثمارات موجهاً بوضوح نحو قطاعات المستقبل مثل السياحة، الترفيه، الرياضة، الثقافة، الخدمات، المدن الذكية، والتقنيات المتقدمة والابتكار. ويعكس هذا التحول رؤية استراتيجية لتحصين الاقتصادات الخليجية ضد تقلبات أسعار النفط وضمان الازدهار للأجيال المقبلة.
وتُعدّ استضافة الأحداث الكبرى حجر الزاوية في استراتيجيات التنويع الاقتصادي لدول الخليج، وهي تأتي ضمن الرؤى الاقتصادية التي توجه التنمية والاستثمار، وتهدف إلى تقليل الاعتماد على عائدات النفط والغاز، من خلال تعزيز قطاعات جديدة مثل السياحة، الخدمات اللوجيستية والمالية، التطوير العقاري، الرعاية الصحية، التعليم، الطاقة البديلة، وغيرها. وعلى الرغم من تقلبات أسعار النفط خلال العام 2024، فقد أسهم النمو القوي في القطاعات غير النفطية، المدفوع بإصلاحات التنويع الاقتصادي، في التخفيف من أثر تلك التقلبات، مع توقعات بأن يشهد الاقتصاد السعودي وتيرة نمو متسارعة خلال عامي 2025 و2026.
وتبرز دول الخليج كمنطقة استثمارية جاذبة، بسبب "الاستقرار" الذي توفره (أسعار صرف ثابتة، استمرارية واستدامة في السياسات، وبيئة ضريبية مؤاتية). هذا الاستقرار، إلى جانب الإصلاحات القانونية والتنظيمية المستمرة، يخلق بيئة صحية وجاذبة للاستثمار الأجنبي المباشر. 

إن استخدام "اقتصاد الأحداث والفعاليات" هو استراتيجية مبتكرة لدول الخليج لتحقيق تنويع اقتصادي مستدام. ومن خلال استضافة الأحداث الضخمة، لا تقوم بلدان الخليج فقط في بناء بنية تحتية مادية، بل تعمل أيضاً على تطوير قطاعات خدمية كاملة (سياحة، ضيافة، لوجيستيات، وترفيه) وتنمية رأس المال البشري اللازم لتشغيلها، وهذا ما يساعد على خلق اقتصاد متكامل يقلل من تقلبات النمو والإيرادات، ويعزز الاستدامة، وهذا ما يمثل تحولاً جوهرياً من مجرد تصدير الموارد الطبيعية إلى تسويق الخدمات والخبرات والتجارب، ويضع أسساً لاقتصاد أكثر مرونة وتنوعاً للمستقبل.

 

 

 الأبعاد السياسية: القوة الناعمة والمكانة الدولية

تُعدّ استضافة الأحداث الكبرى، وخصوصاً الرياضية منها، بمثابة "إعلان طموح استراتيجي"، وهي تساهم بشكل كبير في ترسيخ العلامة التجارية الوطنية وتحسين الصورة العالمية لدول الخليج، وتقديمها كوجهات عالمية حديثة ومنفتحة تتجاوز هويتها النفطية التقليدية.  
وتُوظّف دول الخليج الرياضة والثقافة كأدوات دبلوماسية استراتيجية لتعزيز علاقاتها الدولية، وبناء صورة إيجابية عالمية، كما تسهم هذه المبادرات في تعزيز التماسك الاجتماعي والهوية الوطنية، ودعم التضامن الإقليمي. وتُعزز هذه الاستراتيجية من مكانة الخليج كلاعب محوري ووسيط استراتيجي على الساحتين الإقليمية والدولية، حيث تسعى دول المنطقة إلى أن تكون "طرفاً لا غنى عنه" في تحقيق السلام والاستقرار والازدهار الاقتصادي، مع الحفاظ على علاقات متوازنة مع جميع القوى العالمية والإقليمية.
ومن خلال هذه المقاربة، تمارس دول الخليج نفوذها أساساً عبر أدوات غير عسكرية، مثل الشراكات الاقتصادية، الاستثمارات العابرة للحدود، الدبلوماسية الثقافية، والإعلام، ما يمنحها موقعاً فريداً في النظام العالمي المتغير. ويمكن القول إن بلدان الخليج تمكنت من ترسيخ مكانتها كمركز عالمي لاستضافة الأحداث الكبرى، ولاسيما في المجال الرياضي، مدفوعة برؤى وطنية طموحة واستثمارات استراتيجية كبيرة. إن عرض قطر لاستضافة أولمبياد 2036، مستفيدة من إرث كأس العالم 2022 وبنيتها التحتية المتقدمة، يعكس هذا التوجه المتنامي، كما إن استضافة السعودية لكأس العالم 2034، إلى جانب استمرار المنطقة في استضافة سباقات "الفورمولا 1"، وبطولات رياضات التنس والغولف العالمية وغيرها، يؤكد على أن هذه الأحداث ليست مجرد فعاليات ترفيهية، بل هي أدوات استراتيجية لتحقيق تحولات اقتصادية وسياسية عميقة. اقتصادياً، تُعدّ هذه الأحداث محركاً رئيسياً للتنويع الاقتصادي بعيداً عن الاعتماد على النفط، من خلال تعزيز قطاعات السياحة والضيافة والخدمات اللوجيستية، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وخلق فرص العمل. ويمثل تنظيم هذه الاحداث استراتيجية "القفزات الكبرى" في التنمية، حيث يتم توجيه رؤوس الأموال نحو بناء أصول دائمة تدعم اقتصاد المستقبل. وتسهم هذه الاستضافات في تعزيز القوة الناعمة لدول الخليج، ورفع مكانتها كلاعب محوري ووسيط استراتيجي على الساحة الدولية.

ويُظهر التزام دول الخليج باستضافة الأحداث العالمية الكبرى رؤية استراتيجية واضحة لمستقبلها. ومن خلال الاستفادة من هذه الأحداث كمنصات للتنمية الشاملة، تسعى المنطقة، ليس فقط لتغيير صورتها النمطية، بل أيضاً لبناء اقتصادات أكثر مرونة وتنوعاً، وتعزيز نفوذها الدبلوماسي، وضمان الازدهار المستدام في عالم يتسم بالتغيرات المتسارعة.