ماذا خلف الأبواب المالية الموصدة في لبنان؟

  • 2021-12-24
  • 11:19

ماذا خلف الأبواب المالية الموصدة في لبنان؟

تحديات الفقر والليرة وصندوق النقد

  • علي زين الدين

لم تكن "سقطة" المجلس الدستوري وما أحدثته من دوي وتصدعات جديدة، معزولة عن سلاسل العثرات الكأداء والمتوالية على الجبهات الداخلية والتي أوقعت البلاد واقتصادها وعملتها الوطنية في شرك فراغات مستمرة على كل مستويات ادارة الدولة وسلطاتها المركزية، فيما تتراكم الأحمال الثقيلة على القطاع المالي المولج ليس فقط وأساساً بحمل أوزار الفجوة المالية البالغة "رسمياً" نحو 69 مليار دولار، بل أيضاً، وربما أصعب، بسد الثقوب السوداء التي تتكاثر بفضل عجز السلطات وسقطاتها.

ففي الأولويات البديهية، يفترض ان لبنان بأكمله منخرط بجبه ثلاثة تحديات مركزية. الأول هو إدارة ملف التفاوض مع صندوق النقد الدولي استهدافاً لفتح كوة في جدار الأزمات العاتية التي تضرب خبط عشواء في كل الركائز الاقتصادية والمالية والاجتماعية، والثاني يتمثل بإدارة النقد والسيولة بغية تلمس سبيل كبح الفوضى النقدية العارمة المؤججة بانهيار تام للعملة الوطنية وبتعدد اسعار الصرف، أما التحدي الثالث، فهو صاعق بمراراته مع التوسع المذهل لحزام الفقر الذي يصيب ما لا يقل عن 80 في المئة من المقيمين، وتنذر وقائعه وتداعياته بانفراط مكتمل يتعدى الاختلال الحاد في التوازن المعيشي.

لكن ما هو بديهي ويقع ضمن المسؤوليات العادية في بلد عادي، يبدو بعيد المنال في لبنان بإرادة "الكساد" المتعمدة (استعارة من وصف دقيق وصادم ورد في تقرير تقييمي صادر عن البنك الدولي) التي يستسيغها أصحاب القرار والحكم. فقد فرض تعثر مجلس الوزراء عقب ثلاث جلسات يتيمة في اول مئة يوم من عمر الحكومة وانكماش الآمال بإمكانية استعادة انتظامه مع دخول البلاد مرحلة الاستعدادات لمواكبة استحقاق الانتخابات النيابية، تعميق قناعات "عدم اليقين" وتعميماً أشمل نطاقاً للاحباط المتنامي في الداخل والخارج.

استتباعاً، ضاقت هوامش المناورة الى حدود يقبل بها المسؤولون بتقريعات تتناولهم وجاهة من قبل الزائرين الدوليين. ولم يعد من خيارات بديلة امام رئيس الحكومة نجيب ميقاتي سوى القاء كامل الأعباء المتعلقة بخطة الانقاذ والتعافي والمفاوضات مع ادارة الصندوق والبنك الدوليين على الفريق الوزاري الاقتصادي برئاسة سعادة الشامي، والطلب الى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة "ابتكار" ما يمكن من معالجات نقدية طارئة تكفل "تقطيع" الوقت السياسي التائه "عمداً" بفعل الشروط المستعصية لأطراف تملك حق "الفيتو"، فيما يتولى رئيس الحكومة شخصياً البحث عن مصادر تمويل للبطاقة التمويلية الموعودة لضخ دعم نقدي شهري لنحو 500 الف أسرة، الى جانب البرنامج الذي يرعاه البنك الدولي والذي ستستفيد منه نحو 150 الف اسرة بدءاً من شهر آذار/مارس المقبل، وبمفعول رجعي من بداية العام 2022.

الفقر

الثابت في التحديات مجتمعة، ان ثالثها المتمركز على جيوب اللبنانيين الفارغة وبطونهم الخاوية يفقد تباعاً صفة "الظرفية" ليصبح إحدى السمات المهمة في بداية المئوية الثانية للبنان الكبير. ففي النتائج الاقتصادية والاجتماعية المؤلمة للتدهور الاقتصادي والسياسي، برزت اشارة صادمة الى تقلص حاد للناتج المحلي من اعلى مستوياته عند 55 مليار دولار في نهاية العام 2018، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، الى نحو 20 مليار دولار في العام 2020، مع ترقب استمرار الانحدار الى نحو 18 مليار دولار هذا العام، بينما ارتفع معدل الفقر الفعلي من 42 في المئة في العام 2019 إلى 82 في المئة في العام 2021.

وطبقاً لحقيقة عدم توفر احتياطات حرة بالعملات الصعبة لدى البنك المركزي بعدما تكفلت القرارات الاستثنائية للسلطة التنفيذية بتبديد نحو 14 مليار دولار على سياسات دعم عقيمة، لا مفر من منهجية "التسوّل" التي أضحت أيضاً علامة فارقة في السجل اللبناني الحديث، والبحث جار عن متطوع يضخ سنوياً مبلغ 500 مليون دولار لصالح مئات آلاف الأسر العاجزة عن اللحاق بمؤشرات التضخم المفرط التي طالت خصوصاً الغذاء والادوية والالبسة والكثير من المتطلبات الاستهلاكية بارتفاعات فاقت 2500 في المئة.

الصندوق

يحق من باب الانصاف، التنويه بالمنهجية الرصينة التي يتبعها نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي في ادارة ملف المفاوضات مع صندوق النقد. فاضافة الى ما يحوزه من خبرات سابقة في المؤسسة الدولية عينها، بدا حرصه واضحاً على صفة "رجل الدولة" في مهمة رئاسة الفريق الاقتصادي المكون خصوصاً من وزير المال يوسف الخليل وحاكم البنك المركزي رياض سلامة، ومعززاً بوزراء حسب الموضوع والاختصاص وبخبراء تقتضيهم اصول "المحاصصة الوطنية".

ومن الواضح ان النجاح في تحديد رقم الخسائر المحققة يمثل نصف الطريق الى اعداد وصوغ الخطة الانقاذية التي هي معروفة ببنودها الاصلاحية والهيكلية، بدءاً من مذكرة الالتزامات الحكومية الى مؤتمر "سيدر" وليس انتهاء بمندرجات خطة "لازارد" التي تبنتها حكومة حسّان دياب، علماً أن شركة " لازارد " حافظت على موقعها الاستشاري لمصلحة حكومة ميقاتي.

في المستجد، سيصل وفد موسع من ادارة الصندوق الى لبنان خلال الاسبوع الثاني من الشهر المقبل، ما يعكس مجدداً ايجابية هذه الادارة في التعامل مع ملف لبنان وتوق مسؤوليه الى تحقيق تقدم حقيقي من قبل الجانب اللبناني بهدف تسريع مد يد المساعدة اليه، وهو ما يتوافق مع تصريحات للشامي بأنه "من المؤسف أن تتعلق جلسات مجلس الوزراء وهناك ظروف استثنائية لانعقادها"، لافتاً الى أن "جلسة مجلس الوزراء يمكن أن تنعقد، وأن ينحصر جدول أعمالها بملفات تخص الشعب . فالأزمة اللبنانية شديدة التعقيد مع خلافات سياسية، ولكن كل أزمة ولها حل، وتتطلب معالجات سريعة وقرارات سياسية جريئة مع تضافر الجهود".

ووفق توقعاته: "بين شهري كانون الثاني وشباط المقبلين، من المفترض أن نصل لاتفاق مبدئي مع صندوق النقد حول خطة النهوض الاقتصادي، وهذه الخطة تعمل عليها كل وزارة على حدة، وهذا الأمر لا يحتاج اجتماع الحكومة، وحين تكتمل هذه الأمور نضعها مع بعضها بعضاً وحينها تصبح لدينا خطة كاملة، كذلك دخلنا قليلاً بالسياسات النقدية، وهدفنا الأساسي الوصول إلى اتفاق بأسرع وقت ممكن ولا توجد مهلة معينة".

وأفاد بأن "اللجنة الوزارية اتفقت مع الحاكم على أن حجم الخسائر المالية بلغت 69 مليار دولار، وتتحملها الحكومة ومصرف لبنان والمصارف والمودعين، لكن موضوع كيفية توزيع الخسائر لا يزال قيد الدرس، ومن المفترض أن نتوصل اليه في المستقبل القريب"، مشيراً إلى أن "هناك 3 مبادئ انطلقنا منها ونستند اليها لتوزيع الخسائر، وهي الإنصاف والعدالة في توزيع الخسائر، وهذا يعني أن الأشخاص أو الجهات التي استفادت كثيراً من الفوائد المرتفعة أو العمليات المصرفية التي جرت يجب ان تتحمل قدراً من الخسائر، ونحن سنحاول بقدر الإمكان أن تساهم الدولة، ولكن نتجنب أن تساهم بشكل كبير، لأن لديها مهمة اخرى وهي استدامة الدّين، والهدف هو تحفيز النمو الاقتصادي وزيادة المداخيل، وكل خطة نقوم بها يجب أن تكون منسجمة مع مطالب ​صندوق النقد الدولي".

وأشار إلى أن "صندوق النقد الدولي طلب "الكابيتال كونترول" ولكن كانت لديه ملاحظات، ونحن أخذنا بأغلب هذه الملاحظات وليس بجميعها"، لافتاً إلى أن "هناك اتفاقاً مبدئياً على أنه لا يمكن لبلد أن يستمر في ظل تعدد سعر الصرف، حيث يحدث نوع من الغموض والإرباك حتى للقطاع الخاص، بالتالي هناك اتفاق مبدئي على توحيد سعر الصرف، ونحن خلال محادثاتنا مع صندوق النقد سنصل لاتفاق، اما ان نوحده على دفعات أو دفعة واحدة "، كما شدد على أن "الموضوعين الأهم هما إعادة هيكلة القطاع المصرفي و​سياسة الموازنة، ايجاد اطار للموازنة على المدى المتوسط، واذا اتفقنا على هذين الأمرين، نكون عالجنا 75 في المئة من المشاكل، وهذين هما أهم أمرين يجب أن نتفق عليهم مع صندوق النقد الدولي".

النقد

باشر مصرف لبنان بتنفيذ التعميم الاساسي الرقم 601 الصادر يوم 16 كانون الأول/ديسمبر، والقاضي بتزويد المصارف بالدولار الأميركي النقدي على أساس سعر الصرف المعلن بشكل يومي لليرة على منصته في اليوم السابق. وبالتوازي، تلتزم المصارف بدفع كامل المبالغ أوراقاً نقدية (Banknotes) بالدولار الاميركي لعملائها بحسب السعر ذاته بدلاً من تسديد المبالغ التي تعود لهم بالليرة اللبنانية والناتجة عن إجراء سحوبات أو عمليات صندوق نقداً من الحسابات أو من المستحقات العائدة لهم، وذلك وفقاً للحدود المعتمدة لتنفيذ هذه العمليات لدى المصرف المعني. اما في حال أراد العميل عكس ذلك، اي السحب بالليرة، فعليه أن يتقدم بطلب خطي بهذا المعنى إلى المصرف المعني.

ويسعى البنك المركزي من خلال ضخ سيولة الدولار الى تقليص ضخامة الكتلة النقدية بالليرة والتي تعدت 50 تريليون ليرة. ومن الواضح ان خياره باستخدام جزء من التوظيفات الالزامية المفروضة على كتلة الودائع بالدولار في الجهاز المصرفي جاءت منسقة مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي استهدافاً لمحاولة فرملة انهيار العملة الوطنية، وقد اظهرت الوقائع السوقية فاعلية هذا التدبير في ايقاف صعود الدولار واستقراره النسبي عند حدود 27 الف ليرة في الاسواق الموازية مع هوامش ضيقة للتقلبات وبين سعري العرض والطلب.

وبحسب مصادر معنية في البنك المركزي والمصارف، فإن ورود التدبير المستجد بصيغة "تعميم أساسي" تعني تلقائياً اعتماده لفترة طويلة لا تقل عن أشهر متتالية، وبحيث يجري تمديد العمل بمقتضياته عبر تعاميم وسيطة لفترات تحددها السلطة النقدية قبيل انتهاء المهلة الواردة، على منوال التعميم الوسيط الرقم 607 الصادر امس متضمناً قابلية التجديد للتعميم الاساسي، وهذا ما ينفي تماماً ربط توفير السيولة بالدولار النقدي بمناسبتي عيدي الميلاد ورأس السنة.

وتتوافق هذه التأكيدات مع مسؤولية البنك المركزي للتدخل بشكل آني كي يسيطر على التقلبات في اسعار الصرف بعد تأجيج موجات المضاربات على سعر الليرة وكادت تصل الى مرحلة الانفلات التام مع اقتراب الدولار من عتبة 30 الف ليرة، كذلك مع اعلان حاكم مصرف لبنان بأن الهدف من التعميم هو أن "نتمكن من جعل سعر الصرف الليرة تحت السيطرة، عبر ضخ دولارات في السوق، مع لفت النظر إلى أنه سيطلب من المصارف بيع الدولارات المشتراة على سعر "صيرفة" كاملةً الى مختلف عملائها عوضاً عن الليرات اللبنانية التي كانت مرصودة لصالحهم.

وفي تبسيط لآلية التطبيق، اوضح أن المصارف لديها "كوتا" شهرية من السيولة بالليرة، والمستجد هو استبدال هذه الكوتا لتصبح بالدولار الورقي محسوبة بسعر التداول على منصة صيرفة التي يديرها البنك المركزي، ليجري تباعاً صرفها للمودعين بسعر الصرف عينه الذي تحصل عليه البنوك من دون اي تجاوز للحصص الشهرية المحددة لهم، كما تم شمول رواتب القطاع العام التي يتم صرفها عبر البنوك بالآلية ذاتها.