أثيوبيا تغير منفردة الوضع التاريخي لنهر النيل

  • 2020-07-20
  • 17:25

أثيوبيا تغير منفردة الوضع التاريخي لنهر النيل

صدام الحقوق يوصد طريق الحلول والخيار الوحيد المتبقي تحكيم دولي

  • رشيد حسن

دخل النزاع المتصاعد حول مياه النيل مرحلة جديدة دقيقة مع شروع أثيوبيا في ملء الخزان الطبيعي الواقع بعد يوم واحد من توقف المباحثات بين أديس أبابا وبين كل من مصر والسودان من دون التوصل إلى نتيجة.

الخطوة الأثيوبية مهمة بسبب مغزاها الاستراتيجي وهي، أن أديس أبابا قررت، على الأقل في المدى المنظور، التصرف بمياه النيل من طرف واحد كما لو كان شأناً سيادياً، ومن دون أي التزام صريح لجهة الإقرار بأي حصة مضمونة في مياه النيل لمصر التي تعتمد بنسبة 95 في المئة من حياتها وزراعتها على مياه النهر. 

 

هل ستوفر الوساطة الأفريقية

 على أثيوبيا مواجهة مجلس الأمن

 

 

وينسجم السلوك الأثيوبي مع الموقف الفعلي، الذي تمسكت به أديس أبابا، في كل جولات التفاوض التي دخلتها سواء المباشرة مع مصر والسودان أو برعاية الولايات المتحدة الأميركية أو برعاية منظمة الوحدة الأفريقية.

أحد العوامل التي تعقد التفاوض على سد النهضة، هو الصراعات السياسية المحتدمة في أثيوبيا وتحول مشروع توليد 6 آلاف ميغاواط من سد النهضة إلى قضية حيوية للاقتصاد الأثيوبي، بل إلى هدف قومي يستقطب مشاعر الحماس والتصلب التفاوضي بحيث إنه لا يوجد في أثيوبيا الآن صوت سياسي واحد مستعد لقبول موقف وسط يوفق بين مصالح البلد والمصلحة الحيوية لمصر، التي يتوقع أن تهدد سياسة التفرد الأثيوبي مصادر مياهها وزراعتها وعيشها، وما يعقد الأمر أن رئيس الوزراء الإصلاحي أبي أحمد يواجه معارضة متصاعدة من الأقاليم الأثيوبية، بسبب نزعته لتعزيز مركزية الدولة واتجاهه المتزايد لقمع الحركات المعارضة وهو ما يجعله بدوره في حاجة إلى مواقف متشددة في المفاوضات حول اقتسام مياه النهر.

بذلك تسقط العقلانية الاقتصادية، بل مبادئ القانون الدولي في المشاركة العادلة في مياه الأنهر المشتركة ضحية الصراعات السياسية المحلية، ويتضح مع مرور الوقت أن أثيوبيا ليست قادرة على التفاوض على مياه النيل خارج ضغوط الشارع والمزايدات السياسية بين الأطراف المتصارعة المختلفة.

التفرد الأثيوبي في تحويل مياه النيل الأزرق إلى الخزان الهائل لسد النهضة، يضع مصر في موقف صعب لأنه على الرئيس عبد الفتاح السياسي أن يختار قريباً الاستراتيجية الأفضل للرد على التحدي الأثيوبي وإغلاق أديس أبابا عملياً باب التفاوض حول مياه النيل.  

مما لا شك فيه أن مصر ستكشف قريباً عن المسار البديل لتوقف المفاوضات، وهي على الأرجح ستحاول بكل قواها وبمساعدة من بعض الدول المؤثرة، مثل الولايات المتحدة، تدويل النزاع من باب مجلس الأمن، وهي قد تلجأ إلى تصعيد محدود يوجه الأنظار إلى احتمالات تحول النزاع إلى صدامات عسكرية على الأرض وإلى تهديد للسلام في أفريقيا بهدف تأكيد الحاجة إلى تدخل أممي سريع، ومثل هذا التطور سيخدم مصر بالطبع لأنه سيعتمد في مقترحات فض النزاع على المبادئ الدولية التي تشدد على عدم تفرد أي دولة (خصوصاً دول المنبع) في التصرف بمياه الأنهار المشتركة ولأنه قد يوفر الغطاء المعنوي للتشدد السياسي المصري، علماً أن مصر والسودان تملكان أوراقاً عدة لجهة تحريك المعارضة الداخلية لأبي أحمد ولاسيما في المنطقة الجغرافية المحيطة بالسد.

 

ما هدف أثيوبيا الأول؟

 

 

يجب التوضيح أن الهدف الأول لأثيوبيا من ملء خزان سد النهضة، ليس أغراض الري كأولوية بل توليد الطاقة الكهربائية لسد احتياجات التنمية داخل البلاد مع إمكان تصدير نسبة مهمة منها إلى الجوار الأفريقي، ولهذا فإن أثيوبيا في حاجة إلى ملء خزان السد ليصل منسوب المياه فيه إلى الحد الأقصى الذي يسمح بتوليد نحو 6 آلاف ميغاواط من الطاقة الكهربائية، ومن أجل ذلك تحتاج أثيوبيا إلى الاستمرار في حجز كمية من مياه النيل سنة بعد سنة لمدة سبع سنوات، لكن مع السماح باستمرار تدفق النهر بكميات معينة تفي في نظرها بحاجة مصر والدول المشاركة الأخرى. وهذا البرنامج تعارضه مصر بشدة باعتباره لا يضمن حقوقها المائية وهي اقترحت ملء الخزان خلال فترة قد تتراوح ما بين 15 و20 عاماً وليس 7 سنوات.

 

تحد مصيري

 

 

قبل هذا التاريخ، كانت مياه النيل تتدفق كاملة وبحرية باتجاه مصر التي كانت تضمن حصة منها تكفيها لحاجات الري وحاجات تجديد مياه السد العالي وتوليد الكهرباء، أما الآن فإنها المرة الأولى في تاريخ النهر التي سيتم فيها حجز نسبة من مياه النيل في بلد المنبع أي أثيوبيا، وهذه المياه لن تصل بالتالي بحرية إلى مصر، وقد لا تصلها بالتالي الكمية التي تحتاجها لريّ زراعاتها وتوفير حاجات مياه الشفة لنحو مئة مليون مصري، وهذا موضوع حيوي لا يمكن لمصر التهاون فيه، ولاسيما أنها معتمدة على النيل بنسبة 95 في المئة من حاجاتها إلى المياه.

لقد شهدت أعالي أثيوبيا ومنطقة منابع النهر موسم أمطار قياسياً هذا العام، وهو ما اعتبرته أثيوبيا وقتاً مثالياً للبدء في ملء خزان النهر، لكن مصر تتخوف مما قد يحصل في مواسم شح الأمطار، وبالتالي تراجع تدفقات النيل الأزرق، لأن أثيوبيا ستميل في تلك الحال إلى منح اقتصادها الأولوية، وبالتالي حجز كميات أكبر من المياه لحاجة ملء خزان السد مما قد يهبط بكمية المياه المتدفقة نحو مصر إلى حدود خطيرة تهدد اقتصادها، ولهذا السبب أصرّت مصر على أن تشمل اتفاقات النيل آلية معينة مشتركة لإدارة تدفقات مياه النيل في مواسم الشح، لأنه من دون تلك الآلية فإن مصر (والسودان) سيكونان تحت رحمة أثيوبيا وما تقرره، وهو ما يتناقض تماماً مع مبدأ الإدارة المشتركة لنهر استراتيجي ومهم مثل نهر النيل.

وفق المصادر الأثيوبية التي تخطط لملء خزان السد في فترة تتراوح ما بين خمس وسبع سنوات، فإن السنة الأولى ستشهد حجز نحو 4.9 مليارات متر مكعب من مياه النيل الأزرق، الأمر الذي يرفع منسوب المياه إلى أدنى نقطة من جدار السد، وهو ما سيسمح لأثيوبيا باختبار أول مجموعة من التوربينات المخصصة لتوليد الطاقة الكهربائية، وسيتيح ذلك في موسم الجفاف تراجع منسوب المياه بصورة تسمح للسلطات الأثيوبية برفع جدار السد بصورة إضافية، أما السنة الثانية فستشهد إضافة 13.5 مليار متر مكعب، الأمر الذي سيسمح باختبار المجموعة الثانية من التوربينات.

 

صدام الحقوق

 

ويذكر هنا أن التدفقات السنوية للنيل الأزرق تقارب 49 مليار متر مكعب، وهذا يعني أن حجز 13.5 مليار متر مكعب ستهبط بمعدل تدفقات النهر باتجاه مصر والسودان إلى نحو 35.5 مليار متر مكعب، وهو ما يقل عن ما تعتبره مصر الحد الأدنى من التدفقات الضرورية لاقتصادها. وتبلغ سعة خزان سد النهضة 74 مليار متر مكعب وبملء الخزان كاملاً فإن مياهه ستمتد نحو 250 كلم خلف السد، وسيصبح بإمكان أثيوبيا التشغيل الكامل لتوربيناته لإنتاج نحو 6 آلاف ميغاواط من الطاقة الكهربائية.

 

أثيوبيا تغلق باب التفاوض

 

 

ما الذي يمكن توقعه الآن ثبت حتى الآن صعوبة التوفيق بين المواقف المصرية-السودانية والموقف الأثيوبي بالنظر إلى تمسك البلدين بما يعتبرانه "حقوقاً تاريخية" في نهر النيل وتعتبره أثيوبيا من مخلفات العهد الاستعماري، التي لم تكن أثيوبيا ولا دول حوض النيل الأخرى طرفاً فيها، وقد أظهرت الدبلوماسية المصرية مرونة كبيرة خصوصاً في مفاوضات واشنطن تحديداً لجهة الخفض الضمني للحصة المقبولة منها إلى ما دون الرقم الذي تحدد في المعاهدة المصرية، إلا أن مصر كررت -التذكير بحقوقها التاريخية، في المقابل تتمسك أثيوبيا بموقفها المتشدد الذي يعتبر موضوع السد وملء الخزان الطبيعي خلفه بمثابة أمر سيادي. وفي كلا الحالين هناك صدام "حقوق" لا يبدو أن هناك وسيلة لحله إلا عبر تدخل دولي يعتبر فشل المفاوضات تطوراً ينذر بمخاطر على أمن الشرق الأفريقي، ويبرر بالتالي دخول المنظومة الدولية على خط الوساطة وبلورة حلول تتمتع بالقوة الإلزامية للتوافق الدولي. وقد يكون هذا هو الطريق الوحيد المتاح الآن بعد فشل التدخل الأفريقي وفي ضوء التصلب الأثيوبي وتعاطف جنوب أفريقيا الضمني مع موقف أديس أبابا.

صحيح أن أديس أبابا ربحت نقطة بمجرد البدء بملء خزان سد النهضة بصورة منفردة ومن دون انتظار اتفاق حول اقتسام مياه النهر، لكن ذلك يعطيها ميزة تكتيكية فقط في انتظار بروز موقف دولي يغير المعطيات ويضع الأطراف المعنية جميعها أمام القوة المعنوية والتنفيذية لقرار يصدر عن مجلس الأمن أو المحكمة الدولية أو أي هيئة تحكيم دولي يتم تشكيلها للفصل في هذا الملف الخلافي الذي يهدد السلام في أفريقيا.