الحل اللبناني في عودة الروح

  • 2020-05-14
  • 09:18

الحل اللبناني في عودة الروح

  • د. جواد العناني

مما لا شك فيه أن ما يتعرض له الاقتصاد اللبناني من أزمة قاسية لم يكن وليد الساعة، بل نتيجة لتراكمات الأحداث في هذا البلد الجميل، والذي تمتع بالكثير من الذي يفاخر به، فالتعليم متميز، والصحافة قوية، ومحطات التلفزة مُشاهدة، والسياحة متدفقة، والخدمات الصحية والطبية متميزة، والرخاء إلى حدّ كبير يصل إلى الناس، وتوزيع الدخل متاح، والناس عامة، راضية بالعيش، ومقتنعة بأن ما في لبنان الجميل الكثير الذي يستحق أن يحيا الإنسان من أجله.

ويعاني لبنان حالياً من ثلاث أزمات، الأولى هي عدم انتظام الأداء الحكومي بسبب المناكفات والتوترات السياسية التي صارت عنواناً لآخر خمس سنوات على وجه الخصوص، وتشابك هذه التوترات مع المنافسات الإقليمية، وقد عطل هذا الأداء الحكومي كثيراً من الخدمات، وسلب لبنان كثيراً من الاستثمارات، وعطل فعالية البنى التحتية من طرق، وموانئ، وكهرباء، وغيرها.

والثانية أن العملة اللبنانية صارت مع الوقت تستبدل بالدولار، وصار الدولار والليرة عملتين متلازمتين في السوق. وقد بذل مصرف لبنان جهداً واضحاً في تثبيت سعر الليرة اللبنانية حيال الدولار في معاملات السوق، عن طريق التلكؤ في سداد الديون الخارجية، وتجميع أرصدة بالدولار إلى الحد الأقصى الممكن، ولكن البنوك الكبيرة، والتي صارت تجد في إغراء إقراض الحكومة ملاذاً أفضل لها لتحقيق ربحية أعلى من مخاطر الإقراض إلى القطاع الخاص، ولما قامت "موديز" في العام الماضي بتنزيل تقييمها للاستثمار في سندات الحكومة اللبنانية ارتفعت عليها الفوائد، وكان لا بدّ بعد ذلك أن تقوم شركة "موديز" وغيرها من تخفيض تقييمها للبنوك التجارية الأساسية في لبنان بصفتها مقرضة كبيرة للحكومة.

وبالطبع، جاءت المعضلة الثالثة في انفجار أزمة (كوفيد - 19)، والتي أوقفت الحركة في الأسواق داخل لبنان وخارجه، ولذلك، فقد لبنان فرصته في التعامل مع الاقتصاد الدولي، وبانت نقاط الضعف في الاعتماد على الخدمات والتجارة والسياحة عندما توقفت حركة النقل الجوية من لبنان وإليه، فزاد هذا من الأزمة اللبنانية أكثر وأكثر.

وقد أرسل لي السيد رؤوف أبوزكي، مقالة كتبها اثنان من زملاء الدراسة، وهما د. صالح منير النصولي الاقتصادي اللامع والذي شغل مناصب مهمة في صندوق النقد الدولي بالمشاركة مع د. عبد الله أبو حبيب الذي عمل في صندوق النقد الدولي إلى أن دخل السياسة وصار سفير لبنان في واشنطن، ومن بعدها عاد إلى لبنان ليصبح مديراً لمركز عصام فارس للدراسات اللبنانية. وبحكم تخصصهما وتجربتهما العملية، فإنهما يقدمان نصيحة غالية في المقال حيث يقترحان مجموعة من الإجراءات التي يجب أن يقوم بها المسؤولون في لبنان قبل بدء التفاوض مع صندوق النقد الدولي.

ويذكرني هذا بقصة رائعة عن "بول أونيل" الذي كان وزيراً للخزانة في الفترة الرئاسية الأولى للرئيس جورج بوش الإبن، وبعدها عين مديراً لشركة "ألكوا" (Alcoa) التي تغير اسمها إلى (Arconic) وهي من  أكبر شركات الألمنيوم في العالم، ويتمتع السيد "أونيل" بسمعة ممتازة كرجل مالي من الطراز الأول، ولما استلم إدارة الشركة، كانت تعاني من عجز مالي ضخم، وقدرت الشركة قبل مجيئه أنها بحاجة إلى تمويل في حدود 6 مليارات دولار.

في اجتماعه مع مديري الشركة للمرة الأولى، سألهم عن نسبة إصابات العمل في الشركة التي يتعرض فيها العمال للإصابات أكثر من غيرها بسبب الرافعات، ونقل البضائع على أحزمة فوق الرؤوس، وبسبب ارتفاع درجة الحرارة للأفران، فقالوا له إن نسبتها 1.8 في المئة، علماً أن شركة مثلهم تكون إصابات العمل فيها 5 في المئة سنوياً من مجموع العمال، فطلب من المديرين أن يعودوا إليه بعد أيام، وقد وضع كل مدير أفكاره حول تخفيض نسبة الإصابات إلى الصفر، ولم يذكر شيئاً عن أوضاع الشركة المالية ولا عن القروض المطلوبة.

وثار جنون مجلس إدارة الشركة، وهزئت منه الصحف والإعلام والمديرون التنفيذيون للبنوك في "وول ستريت"، لكنه لم يأبه بذلك. أما العمال فقد أحبوه وأثنوا على اهتمامه بهم وبصحتهم، فبذلوا جهداً إضافياً لزيادة الإنتاج، ما أسفر عن زيادة ايرادات الشركة في نهاية الربع الأول من بدء العمل بنسبة 25 في المئة.

وهنا استطاع "أونيل" أن يحسن موقفه التفاوضي حيال بيوت المال ومصارفها، وقلت حاجته إلى الاقتراض. والعبرة من هذه القصة أن "أونيل" قائد الشركة أقنع العاملين فيها أنه حريص على بقائهم في العمل، وأنه أعطى صحتهم الأولوية، فأحبوه. وقد قال هو مفسراً قراره: "إذا أحبك العمال أعطوك الـ 25 في المئة الإضافية من جهدهم، والتي لا يعطونها إلا لمن يحبونه".

وفي هذا الإطار، لا بدّ من تذكير الدول العربية، ولبنان على رأس القائمة، أنه لا بدّ من ترميم العلاقة مع الشعب اللبناني. فكثرة الاستغراق في الحديث عن المال، وحماية المصارف، وسدّ عجز الخزينة، بينما الناس تعاني الأمرين ولا أحد يفطن لقضاياهم، أو يمر عليها مروراً عابراً، فإن الناس لن يعطوك تلك الطاقة الإيجابية.

والأمر الثاني، هو أن القيادات المالية والمصرفية في لبنان لا يحصل عليها تغيير، ما يجعل عملية الإصلاح المطلوب مرفوضة منهم، وبغض النظر عن إبداعاتهم وتفوقهم، فإنهم لن يقبلوا بتغيير يدين إنجازهم. ولذلك، يصبحون جزءاً من المشكلة، بدلاً من أن يكونوا جزءاً من الحل.

إن ما يعاني منه لبنان قابل للحل، وأقول هذا بعد خبرة لأكثر من نصف قرن من العمل في اقتصاد الوطن، واقتصادات بعض الدول العربية، إن في لبنان الكثير مما يسمى بالأرصدة المجمدة، والتي لو نفخ فيها اللبنانيون لتحولت إلى عنصر ديناميكي محرك للاقتصاد. ومهما قلنا في جمال لبنان، وثلوجه، وأرزه وقلاعه، وتاريخه، فإن الرصيد الأساس هو الإنسان اللبناني، المنجز، المبتكر، الخدوم، المتقن، والمحب للحياة من دون تعقيد.

ومعظم مدن لبنان الجميلة قد أصبحت مدناً من نحاس، وكأن ساحراً قد ألقى بتعويذاته السحرية عليها فتجمد كل شيء في مكانه. المطلوب الآن العودة إلى عنصر الإنتاج والابتكار والإبداع اللبناني، وقلما تجد مواطناً لبنانياً لا يتمتع على الأقل بنوعين من أنواع الذكاء الثلاثة والماثلة في الذكاء الأكاديمي، والذكاء الاجتماعي، والذكاء في المهارة. وهذا رصيد كبير، وآن الأوان أن يركز على الإنسان.

والأمر الثاني، هو أن آخر ما يحتاجه لبنان هو استمرار التدابر السياسي بين الفرقاء والزعامات. الشعب باقٍ أكثر منهم، وعليهم أن ينضموا إلى صفوفه، والقول إن الضائقة المالية والنقدية الخانقة في لبنان ليست ناتجة أساساً عن هذه الحال المشتتة للقدرات والجهود، هو قول غير صائب.

لا تزال كروم لبنان وجباله وأماكن الترفيه والبنوك والدكاكين قائمة، ولكن ينقصها الألق الإبداعي الذي أعطى لبنان الكثير من ميزاتها النسبية في منطقتنا.