كورونا والمؤشرات الحقيقية لقياس إنجازات مسيرة التنمية عربياً

  • 2020-05-11
  • 17:06

كورونا والمؤشرات الحقيقية لقياس إنجازات مسيرة التنمية عربياً

  • القاهرة - مغاوري شلبي علي

 

هناك طريقتان تستخدمهما الحكومات في البلاد العربية لتقييم انجازات التنمية، الأولى تجيب على سؤال محدد وهو:" أين كنا في الماضي وأين أصبحنا اليوم"، وهذه الطريقة على الرغم من أنها تبرز التغيير الذي حدث في حالة التنمية في بلادنا خلال فترة معينة (في الغالب تكون سنة)، إلا أنها غالباً لا تأخذ في الحسبان ما حققته البلاد الأخرى من انجازات، وأين أصبحت مقارنة بوضع بلادنا اليوم، كما إن هذه الطريقة لا تلجأ إلى تقييم أو مناقشة السياسات والإجراءات التي اتبعتها الحكومات لتحقيق هذا التغيير، وهل كانت هذه السياسات والإجراءات هي المثلى أم كانت هناك سياسات وإجراءات أفضل منها؟

الطريقة الثانية تجيب أيضاً على سؤال محدد وهو: "ماذا استهدفنا وماذا حققنا"، وهي طريقة تقارن بين المحقق والمستهدف في نهاية خطط التنمية، وهذه الطريقة إلى جانب أنها تحمل عيوب الطريقة الأولى نفسها، فإنها تسلّم بأن المستهدف في خطط التنمية قد تمّ تحديده بطريقة سليمة من جانب المخططين، وأنه تمّ أخذ كل إمكانات وموارد الدولة وقدراتها الظاهرة والكامنة عند تحديد مستوى التنمية المستهدف، فحتى لو تمّ تحقيق الأهداف التنموية للخطة بنسبة 100 في المئة، من الوارد أن يكون المُخَطط قد حدّد هذه الأهداف عند مستوى أقل من إمكانات وقدرات هذه الدولة، ومن الوارد أن يكون تحقيقها قد تمّ بسياسات لا تتوافق مع استدامة التنمية، مثل الاستغلال الجائر للموارد القابلة للنضوب، أو على حساب زيادة تفاقم الديون الخارجية، أو على حساب زيادة تلوث البيئة، مما يجور على حقوق الأجيال المقبلة، ويحمّلها في المستقبل أعباء ما تحقق من تنمية للجيل الحالي.

والملاحظ أن الحكومات لا تستخدم طريقة ثالثة يفضلها البعض، وهي الطريقة التي تجيب على سؤال محدد وهو: "ماذا لو لم"، بمعنى ماذا لو لم نسلك هذا الطريق ولم نستخدم هذه السياسات وتلك الإجراءات لتحسين حالة التنمية، وهذه الطريقة تُعرف بطريقة عائد أو تكلفة الفرصة البديلة، وهي طريقة لا تروق للحكومات، ولا تتوفر بيانات كافية لتطبيقها، إلى جانب أن الطريقتين الأولى والثانية تبرزا إنجازات الحكومات بشكل مباشر وسهل من دون الدخول في التفاصيل التي تتطرق اليها الطريقة الثالثة، حيث يكمن الشيطان غالباً في التفاصيل.

آفة خطيرة

كذلك، فإن جائحة كورونا كشفت عن آفة خطيرة تكمن في المؤشرات التي نستخدمها لتقييم انجازات وحالة التنمية في بلادنا، وتتمثل هذه الآفة في أننا نخلط غالباً بين الإحصاءات والمؤشرات والمتغيرات عند الحديث عن حالة التنمية، والواقع أن بعض الأرقام الخاصة بالإحصاءات والمتغيرات قد تكون لها دلالة على أننا نوفر البيئة والوسائل اللازمة لتحقيق التنمية، ولكنها في الغالب ليست مؤشرات تدل على تحسن حالة التنمية في بلادنا، وذلك لأن مؤشر التنمية الحقيقي يجب أن يشير إلى أو يقيس هدفاً محدداً من أهداف التنمية الحقيقية أو عنصراً من عناصرها، ومن دون ذلك تصبح أغلب الأرقام والإحصاءات والمتغيرات التي نستخدمها تعكس فقط خصائص عجلة الاقتصاد وخصائص المجتمع، ولا تعكس حالة التنمية الحقيقية.

ولأن الأفراد والشركات والحكومات استندت في تعاملها مع تداعيات الجائحة الى ما لديها من رصيد حقيقي للتنمية متراكم خلال السنوات الماضية، كالمدخرات، والاحتياطات من النقد الأجنبي، ومخزونات الغذاء والدواء والوقود، والبنية التحتية في القطاعات المختلفة خصوصاً القطاع الصحي، والبنية الرقمية وتحديداً في القطاع الصناعي والتجاري والمصرفي وقطاع التعليم، أي أن هذه الجائحة أكّدت على أنه في ظل الأزمات زبد التنمية يذهب جُفاءً، ويمكث وينفع الناس ما تحقق وتراكم من تنمية حقيقية، ولذلك لوحظ في ظل الجائحة تراجع حديث الحكومات عن انجازاتها الاقتصادية وفق أرقام وإحصاءات، مثل معدل التضخم وعجز الموازنة العامة، لأنها أرقام تعكس انجازات في مجال الاقتصاد الرمزي فقط، ولا تعكس حالة التنمية الحقيقية وحالة الاقتصاد الحقيقي، وفي ظل جائحة كورونا لم تشفع مثل هذه الأرقام للمواطن حتى في بلاد العالم التي حققت أفضل المستويات فيها.

 كورونا وضرورة تغيير مؤشرات قياس التنمية

إن جائحة كورونا وما نجم عنها من تداعيات تدعونا بقوة إلى تغيير المؤشرات التي تستخدمها الحكومات العربية لقياس مستوى التنمية الحقيقي الذي تمّ إنجازه أو يجب أن ننجزه، فالأمر يتطلب الاهتمام بنوعية الحياة التي يعيشها المواطن، وما يوجد لديه من رصيد تنموي يمكن أن يستند اليه في حالة حدوث الأزمات، ولا شك أن قياس وتحليل جودة الحياة يتطلب مشاركة الجميع من السياسيين والمهندسين والمتخصصين في الصحة وعلم النفس والتعليم والتغذية والاجتماع وغيرهم وليس الاقتصاديين فقط.

ولذلك، نؤكد أنه لا مانع من أن نهتم وتهتم حكوماتنا برصد وتحليل التطورات في أهم الأرقام والإحصاءات والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تصف دولاب الاقتصاد والبيئة الكلية التي تتم فيها عملية التنمية، ولكن الأهم هو التركيز على مؤشرات الاقتصاد الحقيقي، والتعمق في تحليل التحسن في مؤشرات النمو والتنمية، فمن الضرورة أن نهتم – إلى جانب ارتفاع معدل النمو - بمصادر هذا النمو ( من أي القطاعات يأتي النمو الحقيقي في الناتج المحلي الإجمالي، من قطاع الصناعات التحويلية وقطاع الزراعة، أم من قطاع الإنشاءات والبناء وقطاع التعدين)، ونهتم بقياس استقلالية هذا النمو ( هل هو نمو ذاتي أم يعتمد على الخارج بشكل مفرط)، أيضاً يجب أن نهتم بنوعية الوظائف التي توفرها الاستثمارات في الاقتصاد (هل هي وظائف لائقة ودائمة أم وظائف هامشية ومؤقتة أو موسمية)، يجب أن نهتم بالعمالة غير المنتظمة وبالقطاع غير الرسمي وحجمه بالنسبة إلى الاقتصاد ككل، وما هي المخاطر والمشكلات التي يمكن أن يتحملها الاقتصاد الوطني بسبب هذه العمالة وهذا القطاع في حالة حدوث الصدمات الداخلية والخارجية.

وفي مجال مستويات المعيشة يجب أن نهتم أكثر بمؤشرات مثل نسبة وعدد المواطنين الفقراء والأشد فقراً، ونسبة الإعالة، وليس بمتوسط نصيب الفرد من الدخل القومي فقط، وفي مجال التغذية يجب ألا يقتصر اهتمامنا بعدد السعرات الحرارية التي يحصل عليها المواطن فقط، ولكن يجب الاهتمام بالمؤشرات التي تعكس نوعية الطعام الذي يتناوله المواطن ويحصل منه على هذه السعرات، وفي مجال التعليم، يجب أن نهتم بنوعية التعليم والتدريب الذي يحصل عليه المواطن، وبالمهارات التي يكتسبها من التعليم، وبالبنية الرقمية للتعليم، والاهتمام بعدد المتسربين من التعليم وليس بعدد الملتحقين بالتعليم فقط، وفي مجال الزراعة، يجب أن نهتم بمؤشرات مثل الزيادة في إنتاجية الفدان والمساحة التي نضيفها للأراضي الزراعية والمساحة التي نحميها من التصحر والمساحة التي نمنع تحويلها لكتل خراسانية سنوياً، ويجب أن نركز أيضاً على المؤشرات الخاصة بجودة وأهمية ما ننتجه من محاصيل وغذاء ولا يكفي الاهتمام بالكم فقط.

وفي مجال النفقات العامة، من المهم تحسين المؤشرات الخاصة بحجم الإنفاق، ولكن الأهم هو المؤشرات الخاصة بأولويات الإنفاق وتلبيتها لأولويات المواطنين، ففي مجال القطاع الصحي أوضحت جائحة كورونا عدم كفاية المؤشرات الخاصة بحجم ميزانية القطاع ونسبة ما ينفق عليه من الناتج المحلي سنوياً، ولكن الأهم المؤشرات الخاصة بالطاقة الاستيعابية للقطاع، بمعنى عدد الأسرّة في المستشفيات، وعدد الأطباء، وعدد الممرضات لكل 1000 مواطن، وعدد الأجهزة الطبية المتوفرة لكل مليون مواطن، كما تبيّن أن انخفاض أسعار الخدمات الطبية لا يعدّ إنجازاً في حدّ ذاته، ولكن الإنجاز الحقيقي هو أن تكون الجودة العالية والتكلفة المنخفضة صنوان في الخدمات الطبية.

أهمية دور القطاع الخاص

لقد كشفت تداعيات الجائحة أهمية التركيز أكثر على المؤشرات التي تعكس دور القطاع الخاص في مسيرة التنمية، مثل مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي، وفي توفير فرص العمل، وفي الاستثمار، لأنه شريك للحكومات في مواجهة الصدمات الداخلية والخارجية، والأهم في هذا المجال أن الجائحة طرحت تساؤلاً في غاية الأهمية، وهو كيف يمكن للقطاع الخاص أن يوفق بين تحقيق مصلحته الرئيسية المتمثلة في تعظيم الأرباح وبين المصلحة الوطنية العامة، حيث تتعارض هاتان المصلحتان غالباً في ظل هذه الصدمات، ففي ظل الجائحة، كان التعارض واضحاً بقوة بين التشدد في عملية الإغلاق والإجراءات الاحترازية من أجل المصلحة العامة والحفاظ على سلامة المواطنين، وبين الفتح وتخفيف هذه الإجراءات من أجل مصالح القطاع الخاص واستمرار دوران عجلة الاقتصاد.

وإلى جانب كل ما سبق، أكدّت هذه الجائحة على أهمية عدم الاكتفاء بمعرفة حالة التنمية في بلادنا بعيون العالم الخارجي فقط، وضرورة التركيز على المؤشرات التي تقيس رضا المواطن عن حالة التنمية، أي التركيز على معرفة حالة التنمية بعيون المواطن، لأنه هو الذي يعيش هذه الحالة، وتنعكس على جودة حياته من جوانبها المختلفة.

وأخيراً وللإنصاف، وتقديراً للجهود التي قامت بها الحكومات في كل دول العالم لمواجهة كارثة غير مسبوقة وتفوق إمكانات جميع الدول المتقدمة النامية، وسواءً كانت حكومات تهتم بالمؤشرات الحقيقية أو بالمؤشرات الرمزية لحالة التنمية، نؤكد على أن المؤشر الحقيقي لقياس مدى النجاح في مواجهة هذه الجائحة هو عدم وفاة أي مواطن بسبب فيروس كورونا لأنه لا يملك تكاليف العلاج من هذا الوباء، لأن هذا المؤشر يعكس بشكل مباشر إعلاء شأن المواطن على ما دونه من شؤون.