لماذا انهار اتفاق النيل؟

  • 2020-03-12
  • 12:04

لماذا انهار اتفاق النيل؟

آبي احمد يريد تحسين شروط إثيوبيا وتأجيل أي اتفاقات لما بعد الانتخابات

  • رشيد حسن

قرر رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في آخر لحظة رفض التوقيع على مسودّة اتفاق أعدته واشنطن ليكون بمثابة التسوية التي تضع حداً لخلاف مائي عمره أكثر من مئة عام.

التغيب غير الدبلوماسي لإثيوبيا صدم واشنطن التي كانت بذلت جهوداً كبيرة للتقريب بين مواقف الطرفين، لكنه سبب وجوماً وإحباطاً في مصر التي شعرت لوقت أنها أصبحت قاب قوسين من اتفاق تاريخي يضمن حقوقها المائية في مواجهة التحدي الإثيوبي.

فما الذي حدث؟ وهل ما زال هناك اتفاق برسم التوقيع ولو مع تعديلات أم أن تغيب آبي أحمد عن جلسة التوقيع كان بمثابة قطع للمفاوضات، وتعبيراً عن نية أديس أبابا التفرد في ملء البحيرة الهائلة للسد كأمر سيادي يخصها ويعود لها وحدها أن تقرر الوتيرة التي يتم بها.

 

أديس أبابا ستبدأ تحويل النيل إلى السد في يوليو

وتقصير مدة ملء البحيرة تهديد حقيقي لمصر

 

 

والواقع أن التصريحات الإثيوبية الرسمية التي صدرت بعد توقف المفاوضات أظهرت عودة إلى التشدد إذ صرح المفاوض الإثيوبي قائلاً: "النهر (النيل الأزرق) نهرنا والسدّ سدّنا ونحن نقرر كيف سنملأ بحيرته". في الوقت نفسه أعلنت مصادر حكومية في أديس أبابا حاولت التخفيف من وقع إحباط المسعى الأميركي للحل على العلاقة الإثيوبية مع واشنطن، بالقول إن الرئيس ترامب تلقى معلومات مغلوطة عن الملف، وهذا الطرح يعني أن إثيوبيا أصبحت تعارض مسودة الاتفاق من أساسها ولا تنوي العودة للتفاوض إلا على أسس جديدة.

المشكلة بالطبع هي أن سد النهضة الكبير بات على وشك استكمال أعماله وأن الحكومة الإثيوبية ستبدأ بتحويل مياه النيل الأزرق إلى بحيرة السد في تموز/يوليو المقبل من دون أن توضح ضمن أي مدة وما هي حصة المياه التي ستسمح بتدفقها إلى مجرى النيل باتجاه مصر والسودان.

حقيقة الأمر أن ما نشهده الآن ليس انهياراً للاتفاق حول نهر النيل لأنه لم يكن هناك اتفاق أصلاً، إذ إن آخر بيان صدر عن المجتمعين بتشجيع من واشنطن تطرق إلى المبادئ العامة للتعاون والتوزيع العادل للمياه وغير ذلك من التعبيرات الديبلوماسية لكنه لم يحل المشكلة الأساسية وهي الحصة التي ستضمنها إثيوبيا لمصر والمدة التي سيستغرقها ملء السد، لذلك، وعندما اقتربت ساعة  الحقيقة وبات على أديس أبابا أن توافق على أسلوب ملء السد والأمور التقنية الأساسية المتعلقة بالإدارة المشتركة لمياه النيل الأزرق، فإن الحكومة تهربت وفضلت وقف التفاوض حالياً.

من العوامل المهمة التي قد تكون دفعت الرئيس آبي أحمد إلى تأجيل اتخاذ موقف نهائي من ملف الخلاف المائي مع مصر، أن أثيوبيا تتجه إلى تنظيم انتخابات برلمانية عامة في 29 آب/أغسطس من هذا العام وأن الأجواء السياسية المتوترة والدعاية المعارضة قد تحول اتفاقه مع مصر إلى مادة للمزايدة السياسية واتهامه بتضييع حلول إثيوبيا في مياه النيل. علماً أن المعركة الانتخابية ستشهد تنافساً شديداً بين أحزاب الحكومة والأحزاب المكونة للمعارضة في البلاد.

عامل أساسي يجب أخذه في الاعتبار أن سد النهضة وموضوع استغلال مياه النيل الأزرق، تحوّل إلى قضية اعتزاز وطني يوحد الإثيوبيين بمختلف انتماءاتهم الدينية والعرقية، ولهذا، فإن الحكومة الإثيوبية ليس فقط قررت تأجيل التوقيع على أي معاهدة في شأن السد قبل الانتخابات، كما أن آبي الذي يواجه منافسة جديدة من أحزاب المعارضة قرر التحول إلى تبني موقف متشدد من حقوق بلاده في النيل هدف كسب الشعبية واستقطاب الناخبين.

 

 

تاريخ من عدم الثقة

لكن الانتخابات النيابية ليست السبب الأهم للتشدد الحكومي الإثيوبي في موضوع سد النهضة لأن السبب الأهم هو تاريخ طويل من شعور الغبن والتهميش لدى الإثيوبيين منذ المعاهدة الأولى حول النيل التي وضعتها بريطانيا في العام 1920 بهدف تأمين ما يكفي من مياه النيل لزراعات القطن التابعة للصناعات البريطانية، ثم معاهدة العام 1959 التي تقاسمت عبرها مصر مع السودان مياه النيل من دون احتساب حصة لأي من دول الحوض الأخرى وخصوصاً إثيوبيا التي ينبع النيل الأزرق من أراضيها. وارتدى النزاع مع الوقت طابع المواجهة بين العرب الأقوياء والأمم الأفريقية الفقيرة والتي تريد لنفسها مكاناً بين الدول المتقدمة، وفي هذا النزاع تألبت دول الحوض الأفريقية وأصدرت تفاهماً بينها يرمي إلى توزيع عادل لمياه النيل بين مختلف بلدان الحوض. واللافت للانتباه أن نزعة التضامن بين الأفارقة ظهرت في موقف السودان (البلد الأفريقي العربي) من النزاع الذي أبدى تفهما للموقف الإثيوبية وهو أمر صدم القاهرة وكان سبباً لـمواقف "استغراب" في الصحافة المصرية ومن بعض الأوساط الرسمية في القاهرة.

استحقاقات مصرية

إن انهيار مفاوضات واشنطن يعتبر مؤشراً على صعوبة الموقف المصري في التفاوض على مياه النيل وصعوبة الموقف القانوني الذي يركز على الحقوق المكتسبة لمصر في مياه النهر بالاستناد إلى اتفاقات لم تكن إثيوبيا أو أي من دول الحوض الأفريقية الأخرى طرفاً فيها. ولنلاحظ أن واشنطن لم تتجرأ على الدخول في موضوع الحصص من النهر لكونه حساساً جداً لإثيوبيا ولشعوب دول الحوض الأفريقية، لهذا، ومع ميل الولايات المتحدة لدعم مصر كحليفة قوية في المنطقة إلا أنها حرصت على الاستمرار في دول الوسيط من دون ممارسة ضغوط واضحة على الموقف الإثيوبي.

ما الذي يمكن لمصر القيام به إذاً؟

الحكومة المصرية لا تزال تشدد على أنها تريد حلاً دبلوماسياً للنزاع، علماً أنها قبلت ضمنا المطالبة بأن تضمن إثيوبيا لها حصة لا تزيد على 34 مليار متر مكعب، وهذا في حد ذاته تنازل مهم بالمقارنة مع الـ 55 مليار متر مكعب التي كانت تعتبرها مصر حقها من مياه النهر. لكن حتى هذه الكمية غير مضمونة خصوصاً إذا قررت أديس أبابا ملء بحيرة السد في فترة قصيرة نسبياً قد لا تتجاوز السبع سنوات بينما تصر مصر على فترة تتراوح ما بين 11 و21 عاما.

والحقيقة، فإن الموقف المصري أصبح ضعيفاً منذ اليوم الأول لإعلان إثيوبيا بدء العمل بسد النهضة، لأن فرص التفاوض من موقع التوازن كانت قائمة بصورة أفضل قبل البدء في أعمال السد لكنها تراجعت لصالح موقف إثيوبي قوي بعد ارتفاع بلوكات الاسمنت في السد الكبير.

لذلك، فإن مصر أمام واقع مائي جديد ستكون مضطرة لمواجهته عبر مقاربات خلاقة جديدة تتركز على الاستخدام الفعال لمياه النيل، والتخلص من الزراعات العالية الاستهلاك للمياه مثل الأرز والقطن وتجديد البنية التحتية لشبكة الأنابيب، ووقف الري بالجر وتحسين نوعية مياه الشرب في البيوت، وتحسين إدارة الصرف الصحي وإعادة تدوير المياه المبتذلة.  وقد أظهرت دراسة أجرتها جامعة الإسكندرية أن ما يمكن أن توفره مصر نتيجة إصلاح قطاع المياه ووقف الهدر يمكن أن يعوض أو يزيد على ما يتوقع أن تخسره مصر نتيجة خفض حصتها من تدفقات نهر النيل، وهذا الخفض الذي لا يبدو أن مصر قادرة على تأخير استحقاقاتها في ظل التغيرات الكبيرة الديمغرافية والاقتصادية التي تشهدها دول حوض النهر التسع.