تركيا في مرحلة تحول مالي ونقدي وتحتاج الخليج شريكاً استراتيجياً

  • 2023-07-17
  • 20:16

تركيا في مرحلة تحول مالي ونقدي وتحتاج الخليج شريكاً استراتيجياً

خلفيات الجولة الخليجية لأردوغان

  • رشيد حسن

 

منذ أكثر من عقدين ربما والعلاقات العربية التركية تتطور إيجابياً في معظم المجالات، لكنها برغم وجود الإرادة السياسية، لم تنطلق حقيقة لتحقيق الطاقات التي يمكن أن تنجم عن شراكة استراتيجية بين القوتين الاقتصاديتين المتجاورتين، ولاسيما بين تركيا وبلدان الخليج.  وقد يكون أحد الأسباب المهمة هو أنه بينما اختارت دول الخليج بوضوح النمط الاقتصادي الحر والتنافسي، واندمجت بمنظومة الأسواق المالية الدولية، وربطت عملاتها بالدولار الأميركي، فإن تركيا وبسبب التحديات السياسية التي تواجهها في الداخل والخارج التزمت طريقاً خاصاً في الإدارة الاقتصادية والمالية غالباً ما نجم عنه تصادم مع الأسواق وضغوط كبيرة على العملة وعلى موازين الحساب الجاري.

ولهذا السبب، فإن تدفقات الاستثمار العربي إلى تركيا لم تشهد النمو المرغوب والمتوقع، وهي تركزت في القطاع المصرفي والعقار والسياحة، لكنها وفي ما عدا حالات معينة، لم تدخل بقوة في صلب الاقتصاد التركي والقطاعات الاقتصادية الأخرى مثل الصناعة والزراعة، بينما أسفرت موجة الاستثمارات الأولى التي حصلت في القطاع المالي أو في قطاعات الاتصالات أو السياحة عن نتائج متفاوتة بسبب التراجع الكبير في سعر صرف الليرة والفائدة السلبية على الأصول المالية وكذلك نتيجة لمعدلات التضخم القياسية في الاعوام الاخيرة.

وبصورة عامة، فإن تدفقات الاستثمار الأجنبي إلى تركيا تعتبر متواضعة كنسبة من الناتج المحلي (راجع الرسم البياني)، إذ بلغت نحو 1.3 في المئة فقط من الناتج المحلي خلال العامين الأخيرين مقارنة بمعدلات أفضل في دول مجاورة مثل مالطة (23 في المئة) وعُمان (4.6 في المئة) وبلغاريا (9.7 في المئة).

 

 

عبء الديون الخارجية

 

وتحتاج تركيا إلى زيادة كبيرة في تدفقات الاستثمار الأجنبي إلى قطاعاتها الاقتصادية المختلفة بهدف تعزيز معدلات النمو وتحسين الموارد المالية للدولة التي تواجه استحقاقات عدة أبرزها إعادة إعمار المناطق التي دمرها زلزال شباط/فبراير من هذا العام والتي قدرت أضرارها بأكثر من 100 مليار دولار، أما الاستحقاق الثاني فهو الدين الخارجي. وعلى الرغم من معدل الدين الحكومي الى الناتج المحلي لا يزال مقبولاً، فإنه يتعين على تركيا إعادة تمويل أكثر 190.2 مليار من ديونها الخارجية خلال العام 2023 وحده. ويتوقع أن تصل الديون الخارجية لتركيا في نهاية العام الحالي إلى أكثر من 480 مليار دولار، إلا أن الدين العام التركي شهد تراجعاً مستمراً في عهد الرئيس أردوغان من نحو 65.7 في المئة من الناتج المحلي في العام 2003 (وهو تاريخ تسلمه لمنصب رئيس الوزراء لأول مرة) إلى 31.7 في المئة من الناتج المحلي أي أقل من النصف بتاريخ نيسان/أبريل 2023.

 

إصلاحات مالية

 

أعطى فوز الرئيس أردوغان في الانتخابات الرئاسية الأخيرة الإشارة لمراجعة شاملة للسياسات النقدية والاقتصادية التركية، وكان عنوان هذه المراجعة تعيين الاقتصادي التركي العريق محمد شيمشك مجدداً وزيراً للمالية والخزانة والدكتورة حفيظة أركان، التي سبق وعملت في غولمان ساكس وشغلت منصب الرئيس التنفيذي المشارك لأحد أكبر المصارف التجارية الأميركية (First Republic Bank)، في منصب محافظ البنك المركزي التركي.

وشهدت تركيا في ظل القيادة المالية والنقدية الجديدة تحولاً واضحاً في السياسات نحو اعتماد أساسيات السوق بهدف خفض العجز في الموازين وإراحة سعر الصرف وتعزيز مداخيل الدولة والاحتياط النقدي، فتم رفع الفائدة إلى 15 في المئة مع وقف الحكومة لدعم الليرة مما ساعد في تراجع سعر الصرف تجاه الدولار، وجرى رفع ضريبة القيمة المضافة من 18 في المئة إلى 20 في المئة على السلع غير الأساسية ومن 8 في المئة إلى 10 في المئة على السلع الأساسية مثل السلع الغذائية والألبسة، وستؤدي الزيادة في القيمة المضافة إلى زيادة الدخل الحكومي بنحو 7 مليارات دولار سنوياً، وأدت الإجراءات إلى كبح الطلب الاستهلاكي وتراجع العجز التجاري التركي بنسبة 35 في المئة في شهر حزيران/يونيو الماضي مع تراجع الواردات بنسبة 16.8 في المئة  بالمقارنة مع شهر حزيران/يونيو من العام 2021.

وأشار مقال لصحيفة فايننشال تايمز إلى أن الإشارات الإيجابية المتتابعة بدأت تلاقي استجابة من الأسواق ومن المستثمرين بدليل الإقبال على الأسهم والشركات التركية وتراجع معدلات التضخم، وانعكست الخطوات الإصلاحية في تراجع الضغوط على الليرة التركية والتي توقع مصرف HSBC أن تستقر على سعرها الحالي أو ربما أن تبدأ بالتحسن قريباً بعد فترة طويلة من التراجع، واعتبر المصرف الدولي أن القرار الأخير برفع الفائدة من 8.5 في المئة إلى 15 في المئة مرة واحدة يعتبر أوضح مؤشر على عودة السياسة النقدية التركية إلى نهج الواقعية والأخذ بالأساسيات مما قد يبدأ برفع الضغوط المزمنة عن الاقتصاد التركي.

 

 

شراكة استراتيجية

 

يعتبر وجود تركيا في جوار منطقة الخليج التي تزخر بالموارد المالية وتضم عدداً من صناديق الاستثمار السيادية النشطة والمصارف والشركات التي تبحث جميعها عن مجالات الاستثمار فرصة كبيرة يجب أن تمكن تركيا من استقطاب الاستثمارات الخليجية إلى مختلف قطاعات الاقتصاد التركي وأن تكون أساساً لتكامل استثماري وتجاري واسع وزيادة كبيرة في المبادلات التجارية.

لكن لأجل استقطاب هذه الاستثمارات تحتاج تركيا لإحراز تقدم كبير في السياسات الإصلاحية التي بدأ تنفيذها كما تحتاج إلى تطوير وتحسين بيئة الاستثمار خصوصاً تسهيل المعاملات وتعزيز بيئة الحوكمة والشفافية. ومن المؤكد أن نجاح الحكومة التركية في هذه المجالات سيساهم في تعزيز مناخ الثقة بالاقتصاد التركي وسيكون بمثابة قوة الدفع الأهم لتطوير الشراكة التركية الخليجية وزيادة حركة الاستثمار الخليجي في تركيا.

 

جولة مفصلية

 

وضمن هذا الإطار، يجب في الواقع وضع الجولة الخليجية المهمة التي سيبدأها الرئيس أردوغان اليوم الاثنين وتشمل على التوالي كلاً من السعودية وقطر ودولة الإمارات العربية. وهذه الجولة التي تأتي بعد الانتخابات والتغييرات في المواقع المالية والنقدية، شدد أردوغان على أن هدفها الأول هو استقطاب الاستثمارات الخليجية وتعزيز الشراكة الاقتصادية مع دول مجلس التعاون الخليجي. وجرى التمهيد للزيارة بتنظيم الملتقى الاقتصادي السعودي التركي في مدينة أزمير التركية، وتبع ذلك قبل أيام وصول وفد تركي كبير إلى منطقة الخليج برئاسة وزير المالية التركية محمد شيمشك ومشاركة محافظ البنك المركزي حفيظة أركان وعدد من الاقتصاديين والذي سيتولون تظهير التفاصيل النهائية لعدد من الاتفاقات وخطط التعاون بين تركيا ودول الخليج. ومن المؤكد أن عودة الوزير شيمشك إلى قيادة السياسة الاقتصادية والمالية في الحكومة التركية يعطي دفعة كبيرة من الثقة للعلاقات المستقبلية التركية الخليجية والتي يجب أن تترجم في وقت قريب في المزيد من التقارب والعمل المشترك واستكشاف الفرص والتعاون الوثيق بين الحكومة التركية والمؤسسات الخليجية ولاسيما الصناديق السيادية وكذلك التعاون والعمل المشترك بين الشركات في تركيا والدول الخليجية.