خطة الحكومة اللبنانية للتعافي: صدم متعمّد للاقتصاد المنهك (2)

  • 2022-04-26
  • 15:45

خطة الحكومة اللبنانية للتعافي: صدم متعمّد للاقتصاد المنهك (2)

إدارة إنشائية للدين العام وتوحيد سعر الصرف

  • علي زين الدين

لا أحد يعلم على وجه الدقّة لماذا مالت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي كل هذا الميل، واستنسخت، على حين غرّة، تجربة حكومة الرئيس حسّان دياب في إعداد خطة التعافي الاقتصادي، منطلقةً من تحديد غير نهائي للخسائر المحقّقة بنحو 72 مليار دولار، و"مقبلة" على منح صكّي براءة للدولة والبنك المركزي معزّزين بإلقاء مسؤولية سدّ فجوة ميزانية مصرف لبنان البالغة 60 مليار دولار، قابلة للزيادة، على عاتق المودعين والمصارف.

وحتى يتبيّن الخط الأبيض من الخط الأسود في هذه الخلطة العجيبة، بدا صريحاً في مندرجات سائر بنود الخطة أن تعمّد تحويل خطأ الحكومة السابقة بحماية الودائع التي تقل عن 500 الف دولار، إلى خطيئة قاتلة بخفض الحماية المقترحة إلى حدود مئة الف دولار فقط، ليس الأسوأ في مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية التي تم تسييجها بالكتمان الشديد وغير البنّاء طوال الأشهر الماضية، لتتمخّض تسريبات مضامينها عن مولود تجتمع في جسده كل أنواع العلل المستعصية.

في الأساس، ثمّة طرح يجافي أخلاقيات التعريف والتحديد تمدّد طواعية في نص خطتي الحكومتين السابقة والحاضرة. فالقول بحماية المودع الصغير والاقتصاص من المودع الكبير ينطلق من تمييز يسيء إلى الصغير في الوصف وإلى الكبير في مقاضاته وإصدار حكم "قراقوشي" بحقّه. ففي الأصل، تكون الوديعة، وليس صاحبها، صغيرة أو كبيرة. والأهم، فإن القياس بحجم الوديعة يدين أولاً من كتب النص، باعتبار أن أغلبهم من ذوي الأعمال والمدخرات الفائقة "الكبيرة" والوظائف الرئيسية في مؤسسات كبيرة أيضاً، محلية وخارجية. اللّهم إذا هم أفلحوا في تحييد مدخراتهم جنباً الى جنب أموال النافذين والفاسدين الذين تحسّسوا مبكراً ملامح الانهيار قبل حلوله.

صدامية المصارف والتجار

لم يكن الموقف الصدامي لـ"جمعية مصارف لبنان" بعد التسريب مفاجئاً، بل إن تلويحها بمقاضاة الدولة والمرجّح أمام مرجعيات قضائية محلية وأجنبية قد يكون المسار الأسلم لجبه إمعان الدولة في مقاربة انحرافاتها المالية بانحرافات أكثر ايذاءً وجسامةً قد تفضي إلى تغيير منهجي في هويّة الاقتصاد الوطني وطبيعته ومزاياه. فأي ركيزة ستبقى بعد تحجيم قسري للجهاز المصرفي توطئةً لإشهار إفلاسه بعد تذويب رساميله وشطب توظيفاته وعزل المساهمات المقرّبة والاقتصاص من المودعين المقيمين منهم وغير المقيمين. وبالتالي، أي اقتصاد يمكن تصوّره بلا مصارف وبلا ادخارات وطنية ووافدة.

فبعد اطلاع الجمعية وأركانها على خطة التعافي المعروضة من الحكومة اللبنانية، والآيلة إلى تحميل المصارف والمودعين القسم شبه الكامل من الخسارة التي نتجت عن السياسات التي اعتمدتها الدولة بحكوماتها المتعاقبة و"مصرف لبنان"، أعلنت رفضها هذه الخطة الكارثية والمخالفة للدستور اللبناني ولسائر القواعد القانونية المرعية الإجراء، جملةً وتفصيلاً، وقد كلّفت مستشاريها القانونيين دراسة وعرض مروحة الإجراءات القضائية الكفيلة بحماية وتحصيل حقوق المصارف والمودعين توخّياً للمباشرة بما تراه مناسباً منها في هذا الصدد.

وتعقيباً، صدر موقف لافت لـ"جمعية تجار بيروت" اعتبرت فيه أن مسؤولية الانهيار المالي، وباعتراف الجميع، تقع على عاتق الدولة، والمصرف المركزي، والمصارف، على التوالي. لكن الصدمة الكبيرة أتت عندما قلبت الحكومة هذه التراتبية المسلّم بها نهائياً، رأساً على عقب، فبرّأت ساحة الدولة والمصرف المركزي من مسؤولياتهما المالية الجسيمة على نحو شبه كلّي، بينما حمّلت المودعين والمصارف فاتورة قدرها 60 مليار دولار، محوّلة بذلك، وبشطبة قلم، مطلوبات الدولة ودينها المتراكم إلى خسائر فادحة يتكبّدها المجتمع والاقتصاد اللبنانيان.
وفي المراجعة، نوهّت الجمعية بأن هذا العطب البنيوي بالذات، والذي كان في صلب خطّة الرئيس حسّان دياب، هو "الذي جعلنا نرفضها في الأساس، مع التأكيد أن الظروف المالية والإقتصادية والإجتماعية السائدة في حينه كانت أقل خطورة بكثير ممّا هي عليه اليوم".
والأنكى بعد هو أن الخطة أدخلت تمييزاً مجحفاً بين الوديعة الصغيرة والوديعة الكبيرة، متجاهلة أن للوديعة المصرفية طابعاً مقدّساً حيث يكفلها الدستور كما وسائر مكوّنات الملكية الخاصة، وأن الحقوق الدستورية لا تتجزّأ، ولا تُصنّف، ولا تُحدَّد، بل هي مُطلقة.
وللتنويه، فإن الحسابات المصرفية تحتوي على مدّخرات أجيال عدة من لبنانيي الداخل والإغتراب، وودائع العرب، فضلاً عن صناديق تقاعد وتعاضد المهن الحرة والمؤسسات الإجتماعية والتربوية والصحية، بالإضافة الى حسابات شركات التأمين التى تغطّي ألوفاً مؤلّفة من المودعين والمضمونين الصغار.

وفي التوصيف، أكدت الجمعية "تضمّ تلك الودائع كافة الأموال التى ادّخرتها المؤسسات الإقتصادية، التجارية منها والسياحية والصناعية والزراعية إلخ... منذ عقود طويلة، لغرض الإستمرارية والتوسّع والاستثمار والتشغيل والتوظيف، كما ولتكوين الإحتياطات والمؤونات".
وعليه، "يرى القطاع التجاري نفسه معنياً بالدرجة الأولى إذا ما تمّ وضع اليد، جزئياً أو كلياً، مباشرةً أو مداورةً، تحت أي ذريعة أو مسمّى، على الحسابات والودائع. فهذا ما قد يؤدّي، لا سمح الله، إلى سحق جنى عمر التجار وسواهم من المواطنين، والقضاء على الأرزاق والأملاك، وخطف المستقبل، وإطلاق حكم الإعدام على ما تبقّى من مؤسسات، وأنّ قمة الظلم تتجلى عندما يدرك المرء أن المبالغ المكوِّنة للـ"فجوة المالية" الضخمة قد بُدّدت، ولا تزال، على يد الدولة، على: تثبيت سعر الصرف، وفرق الفوائد، ومشتريات الدولة، ودعم السلع الإستهلاكية. فكيف يجوز تحميل المواطن أوزار الأخطاء الثابتة التى ارتكبتها الدولة؟

وجلّ ما تطالب به "جمعية تجار بيروت" هو ضرورة أن تعترف الدولة، كشخصية معنوية، بمسؤوليتها الأساسية والأكيدة في تكوين الفجوة المالية الضخمة، وأن تلتزم في تقديم المساهمة المالية الأكبر في ردمها، وذلك من خلال إنشاء صندوق سيادي تُستثمر أصوله، دون أن تُباع، لهذه الغاية. وهذا جوهر المقاربة الإنقاذية التى نبتغيها، خلافاً للطروحات التصفويّة التي تحاول الحكومة أن تفرضها عنوةً على اللبنانيين، وأن خريطة الطريق هذه هي السبيل الوحيد لإستعادة الثقة بلبنان، ولتفادي توجيه ضربة قاضية للمودعين والنظام المصرفي والإقتصاد الوطني وموقع لبنان الإقليمي على حدّ سواء.

من يسمع المزامير؟

منسق الخطة ورئيس الفريق الاقتصادي، نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي يغرّد في واد آخر ومنعزل تماماً عن مجريات تداخل السلطات واستحقاق الانتخابات النيابية المشكوك بأمر نفاذه حتى لحظة إقفال الصناديق وإعلان النتائج منتصف شهر ايار/مايو. ففي ختام جولة له في واشنطن شملت فريق "صندوق النقد الدولي" ومديره التنفيذي ومع اقسام عدة في الصندوق منها القسم القانوني وقسم الشرق الاوسط، واجتماعات مع المدير التنفيذي للبنك الدولي ومع الاتحاد الاوروبي ومؤسسة التمويل الدولية، يصرّح أن "جميع من التقاهم شددوا على ضرورة أن يبرهن لبنان أنه جدّي بإنجاز كل القوانين المطلوب إقرارها في مجلس النواب كي يصبح البرنامج نهائياً ويصل إلى المجلس التنفيذي لإدارة الصندوق. والقوانين المطلوب من لبنان إقرارها هي: مشروع الموازنة، وتعديل قانون السرية المصرفية، وقانون إعادة هيكلة المصارف الذي تعمل عليه الحكومة ويجب ان ترسله قبل الانتخابات. فإنجاز هذه القوانين الثلاثة من شأنه إعطاء إشارة مهمة للدول المانحة للمباشرة ببرنامج دعم لبنان".

لكن المنسق يدرك تماماً أن ما تتضمنه خطة التعافي، يحوّل البلد واقتصاده ومواطنيه من وصف الدولة ذات السيادة الى متسولين على أبواب المؤسسات العالمية والدول المانحة. فكيف لدولة مدينة بما يصل الى 105 مليارات دولار تتفق عبقريات إدارتها ( المنظومة ) عن خيار استراتيجي، بمعاقبة الدائنين إلى حدود الحكم بإعدام قطاع مصرفي وإدارة تفليسة المودعين فيه. ثم تتباهى بتعديل قوانين ذات مضامين مالية ومصرفية. بل كيف لدولة إن تمنح ذاتها صكّ براءة مزدوج لفعل إخراج لبنان من الأسواق المالية الدولية، وتعقبه بتغطية تبديد نحو 20 مليار دولار من الاحتياطات الحرة لدى البنك المركزي ليذهب ثلثا المبالغ الى النافذين والفاسدين والمحتكرين والمهربين للمحروقات والغذاء والسلع والأدوية وسواها من سلع رفاهية كانت تحظى بالدعم المفتوح على مخزون ودائع الناس المكلومين.

ويشوب هذه التوجهات تحديد اقتراحات عملية وذات صدقية. فالخطة، بحسب المسؤول المالي، ترتكز أساساً على تنصل الدولة عن موجبات الاقتراض الذي تسبب بتوسع الفجوة المالية التي قدّرتها بنحو 60 مليار دولار لدى البنك المركزي، كما تخلو من أي مضمون مطمئن يهدف إلى سدّ منافذ الهدر والفساد في إدارة مؤسسات القطاع العام وأملاك الدولة وأصولها ورفع كفاءة استثمارها. كذلك، تحاذر خطط الحكومة، ومن دون مسوّغ قانوني أو سبب مقنع، التطرّق إلى الثروات الكامنة وفي مقدّمها ثروة النفط والغاز في المياه الاقليمية، فضلاً عن تغييب اقتراحات متاحة لاستثمار مخزون الذهب البالغ حالياً نحو 18 مليار دولار.

ثم، ما سرّ هذه البراءة الاضافية التي تلزم البنوك ومودعيها بتغطية فجوة البنك المركزي التي غطت السياسات المالية للدولة وعجوزات موازانتها وكهربائياتها على مدى عقود؟ كما تكفلت بسد موجبات مكرماتها بسلسلة الرتب والرواتب قبيل انتخابات العام 2018، وبتثبيت متماد لسعر الصرف بذريعة حفظ الاستقرار النقدي، رغم مخالفته توصيات المؤسسات المالية الدولية وشركات التصنيف. الدولة مدينة بأكثر من النصف للبنك المركزي المدين بدوره لتوظيفات مصرفية تتعدى 80 مليار دولار. وحيث إن الدولة هي الخصم والحكم، فلا ضير من الإمعان في تنصّلها من موجبات ديونها وحماية البنك المركزي كمؤسسة من القطاع العام. وبالتالي، لا عزاء للدائن مصرفاً كان أم مودعاً في المصرف.

ومن مدخل تقوية الذاكرة القريبة والادراك، يكشف البنك الدولي، في أحدث تقاريره عن لبنان، بأنه في ظل المستوى العالي من حالة عدم اليقين، يرتقب أن يسجل الناتج المحلي الإجمالي انكماشاً اضافياً بنسبة 6.5 في المئة في العام الحالي، في حال لم تتغير سياسات الاستجابة للأزمة وفي حال عدم وجود حدّ أدنى من الاستقرار السياسي والأمني، لتضاف إلى نسب 7 في المئة و 21.4 في المئة و10 في المئة المحقّقة في السنوات الثلاث السابقة والتي أودت الى تقلّص حادّ للناتج من نحو 54 مليار دولار في العام 2018 إلى ما دون 20 مليار دولار حالياً.

 وبحسب وكالة التصنيف الدولية "موديز"، فإنّ اتفاق التمويل الخارجي مشروط بإعادة هيكلة شاملة للدين الخارجي للبنان، والذي يتضمن ديناً بالعملة الأجنبية يقارب نحو 38 مليار دولار، مما يفرض مشاركة كافية من الدائنين لتأمين استدامة للدين. لكن "ونظراً الى سجِل لبنان السابق الضعيف بتطبيق إصلاحات، فإن الإتّفاق المفترض مع صندوق النقد قبل الإنتخابات النيابية والرئاسية سيمثل إستجابة من المؤسسات المالية الدولية لحاجة لبنان الملحة لمساعدات خارجية لوقف التدهور الإقتصادي والإجتماعي".

وتوضح الوكالة، في أحدث تقاريرها، بأن المساعدات المالية الخارجيّة سوف تحفز لبنان على إنجاز تقدم لناحية إعتماد مبادرات إصلاحية مهمّة. لكنها تؤكد في المقابل، بأن أيّ تحسين في تصنيف لبنان يعتمد على ركائز أساسيّة لديناميكيات الدين العام، كالعودة إلى حالة النمو الاقتصادي، والحصول على التمويل، والقدرة على تسجيل فائض أولي في الموازنة والمحافظة عليه، والتي من شأنها أن تحافظ على استدامة الدين ويمكن ان تعيد للبلاد القدرة على الوصول إلى أسواق المال العالمية.

إعادة هيكلة الدين

وضعت الحكومة اللبنانية معادلات متباينة إلى حد التناقض في مقارباتها لإعادة هيكلة الدين العام وتنفيذ الاصلاحات المالية الاساسية. بينما هي تتنصّل من أهمية إنشاء صندوق سيادي تتكوّن موارده من الأصول العامة المنتجة والتطوير الشامل للنظام الضريبي، وتعوّل على تدفّق قروض ميسّرة من الشركاء الدوليين، بما يشمل البرنامج التمويلي الذي تسعى إلى إبرام اتفاقيته مع صندوق النقد الدولي.

ويؤكد مسؤول مالي معني، أن الوضوح المفاجئ في تحميل المودعين والمصارف نحو 60 مليار دولار من إجمالي 72 مليار دولار من خسائر الانهيار المالي والنقدي، تقابله ضبابية تصل إلى مستوى الالتباس في معالجة اصل الفجوة البالغة نحو 100 مليار دولار وفق الأرقام الرسمية للدين العام، والمرجّح ان يتعدى 105 مليارات دولار بعد احتساب مستحقات معلّقة، بينها اكثر من 3 مليارات دولار لصالح صندوق الضمان الاجتماعي (الاحتساب بالسعر الرسمي لليرة).

ومع إطلاق تعهّدات مسبقة بعدم المس بالموارد العامة والتعهد بوقف استجرار التمويل من البنك المركزي، يلفت المسؤول النظر الى تعذّر النفاذ الى أسواق الدين الدولية نتيجة إقدام الحكومة السابقة على تعليق دفع مستحقات سندات اليوروبوندز في ربيع العام 2020، وهي وقائع تنبهّت إليها الحكومة في خطة التعافي، حيث استخلصت أن "جميع ما نحصل عليه من تمويل تقريباً سيكون من المصادر الدولية الرسمية دعماً لبرنامج استدامة الديون وتمديد آجالها".

وفي المقابل، تضمنت خطة الحكومة التزاماً باستدامة مسار الدين العام، والعزم على خفض كتلته الى ما دون 100 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي بحلول العام 2026 والى 76 في المئة بحلول العام 2032. وسيتحقق ذلك من خلال مجموعة من الاجراءات منها ضبط أوضاع المالية العامة ووضع سياسات تعزيز النمو والاصلاح المالي وإعادة هيكلة الدين، فيما يلفت التباين الصريح بين الالتزام بتخفيض الاحتياجات التمويلية الاجمالية الى متوسط يبلغ حده الاقصى 10 في المئة من الناتج المحلي، وبين الإقرار الرسمي بعدم قدرة لبنان على الوصول الى أسواق المال العالمية، بحيث "سيكون جميع ما نحصل عليه من تمويل تقريباً من المصادر الدولية الرسمية".

ومن الإشارات الملتبسة وفقاً للمسؤول المالي، إقرار الحكومة بأن تحقيق أهداف الدين العام تتطلب إعادة هيكلة سندات "اليوروبوندز"، والإفصاح عن نيتها التواصل مع الدائنين لبدء مناقشات إعادة الهيكلة بطريقة منظمة. فالتوجه في هذا السياق يجيء متأخراً نحو سنتين بالتمام من تعهّد مماثل أطلقته الحكومة السابقة، وما تقترحه الحكومة في شأن توزيع الخسائر يشي بسيناريو لا يقلّ وطأة عن الأحمال التي ستلقى على عاتق المودعين والمصارف.
وتقرّ الحكومة بأن استعادة الملاءة المالية تعدّ أولوية ملحة لتعزيز الثقة في الدولة وتقديم الخدمات الحيوية العامة، بعد سنوات عديدة من العجز الكبير، وضعف الايرادات، والهدر والافراط في الإنفاق، وتضخيم الدين العام الى مستويات غير مستدامة، وقد اصبح جزء منه الآن ضمن المتأخرات على الحكومة بعد عجزها عن السداد.

توحيد سعر الصرف

تتجنب الحكومة اللبنانية، حتى إشعار آخر، الإفصاح عن توجهاتها المتصلة بتوحيد سعر صرف الليرة والآليات التي سيجري اعتمادها لتحقيق هدف إرساء نظام نقدي جديد يقوم على الشفافية والمصداقية ضمن مسار التعافي المالي، والذي يشكل نواة خطة الإنقاذ التي يفترض أن ترفعها قريباً بصياغتها النهائية إلى إدارة صندوق النقد الدولي، بهدف الوصول إلى استحقاق إبرام اتفاقية برنامج تمويل بقيمة 3 مليارات دولار لمدة 4 سنوات.

ويرى مسؤول مالي معني أن مسألة توحيد سعر الصرف، تمثل عقبة رئيسية ضمن حزمة الشروط الإجرائية والتشريعية التي طلبها فريق الصندوق، ذلك أن أي سعر لليرة لا يؤثر في إعادة هيكلة مكوّنات ميزان المدفوعات ومعاملات الحسابات الجارية للاستيراد والتصدير فحسب، بل يصيب مباشرة التوازنات الهشّة للمداخيل الوظيفية في القطاعين العام والخاص المبرمجة على أساس السعر الرسمي الحالي البالغ 1515 ليرة لكل دولار، كما يطال بمفاعيله كتلتي المدخرات والقروض القائمة لدى البنوك.

وفي ظل تقلص احتياطات العملات الصعبة لدى البنك المركزي الى نحو 11 مليار دولار مما يحدّ من سيطرته على المبادلات النقدية، تتعزز الاشارات في أوساط القطاع المالي بأن الخروج الآمن من معضلة تعدد اسعار الصرف لن يكون ميسراً قبل الشروع بتنفيذ خطة الانقاذ الموعودة، والمشروطة حكماً بتعاون السلطات المعنية السياسية والنقدية وبتوفّر استقرار داخلي نسبي بعيد استحقاق الانتخابات النيابية المقررة منتصف الشهر المقبل، وبما يترجم فعلياً تعهدات رؤساء الجمهورية ومجلس النواب ومجلس الوزراء بالتأييد المسبق لمندرجات الإصلاحات الهيكلية الضرورية. وبذلك، تشكل الأساسيات القانونية الموعودة ومن ضمنها مشروع قانون موازنة العام الحالي، المرجعية القانونية المعتمدة للقطاع المالي في مرحلة الانقاذ والتعافي.

فمن دون امتلاك قدرات كافية لإدارة التحكم بالسيولة والسعر المرجعي الذي يمكن اعتماده عبر آلية التعويم الموجه التي تتطلب تدخل البنك المركزي في كبح المضاربات والحد من توسع الهوامش، وريثما يتم توقيع الاتفاق التمويلي مع صندوق النقد الدولي، يتعذّر على الحكومة عبر وزارة المال والسلطة النقدية الإقدام على اتخاذ قرارات حاسمة في الموضوع النقدي، حسبما يؤكد المسؤول المالي، إنما يمكن وبموافقة خبراء الصندوق، الاعتماد على منصة "صيرفة" التي يديرها البنك المركزي كمحطة انتقالية لبلوغ مرحلة تعويم سعر صرف الليرة، وبالتزامن مع بدء ورود الدفعات التمويلية من قبل الصندوق.

(جزء ثالث: التضخم المفرط والحماية المفقودة للأمن المعيشي والاجتماعي)