لبنان: تسويات تلوح قبيل الارتطام الكبير

  • 2022-03-23
  • 20:00

لبنان: تسويات تلوح قبيل الارتطام الكبير

بعد ارتفاع حاد للمخاطر المحدقة بالقطاع المالي

  • علي زين الدين

يدير أهل السلطة، وإن بتباين نسبي بينهم، الأذن الطرشاء إزاء ما يجري في البلد من قهر معيشي وتقلّصات حادّة في قدرات الصمود الشعبي وفي كل قطاعات العمل والانتاج، وهم لا يخفون غبطة دفينة بتحييدهم عن سهام غضب الناس وتوجيهها حيناً صوب القطاع المالي المنقسم على ذاته، وأحياناً صوب بعض القضاء المحصّن بحماية سلطوية وبعض آخر متريّث في أداء مهامه، تخوّفاً من اغضاب شبح يتراءى ظلّه في الأروقة وبين أوراق الملفات ذات الصلة بالقضايا العامة والرأي العام.

وارتسمت بعض ملامح المشهد الأشد قتامة في منحى الهبوط الأعمق في الهاوية، بارزة بين ثنايا الإضراب التحذيري الذي نفّذته المصارف ليومين متتاليين، وبين استمرار الضغوط القضائية على مكوّنات القطاع المالي ومؤسساته الممثلة خصوصاً بحاكمية البنك المركزي والجهاز المصرفي. وبرز ذلك في التوتر الشديد الذي طغى على عموم الناس وأسواق النقد والاستهلاك، مصحوباً بمخاوف جدية من انزلاقات تطيح بما تبقى من فتات المداخيل والمدخرات، بحيث تصبح "كبش الفداء" الأخير عن كل الخطايا المرتكبة بحق البلد والناس والاقتصاد.

وبحكم التقليد اللبناني بتصعيد المواقف إلى حدودها القصوى قبل الانخراط في تسويات ترضي الجميع ولو على حساب عذابات الناس، تقاطعت معلومات لدى موقع "أولاً-الاقتصاد والأعمال" عن امكانية بلورة توافق يفضي الى المعادلة الدقيقة التي وضعها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وخلاصتها، "من حق القضاء أن يحقق في أي ملف مالي ومصرفي، وخصوصاً استعادة المودعين في المصارف حقوقهم هي الأولوية والثابتة الأساسية في كل المفاوضات التي نجريها مع صندوق النقد الدولي وكل الهيئات المعنية، إلا أن استخدام الأساليب الشعبوية والبوليسية في مسار التحقيقات أساء  ويسيء إلى القضاء أولاً وإلى النظام المصرفي ككل".

وفي الخطوات المطلوبة، بحسب ميقاتي، "من الواضح أن مسار الامور لدى بعض القضاء، يدفع باتجاه افتعال توترات لا تحمد عقباها، وثمّة محاولات لتوظيف هذا التوتر في الحملات الانتخابية، وهذا أمر خطير سبق وحذّرنا منه. ومن هذا المنطلق، نجدّد مطالبة السلطات القضائية المعنية بأخذ المبادرة في تصويب ما يحصل، وفق الاصول المعروفة، والدفع في اتجاه العودة إلى مبدأ التحفظ، وعدم ترك الأمور على هذا النحو الذي يترك انعكاسات مدمرة على القضاء أولاً، وعلى إحدى الدعائم الاقتصادية في لبنان، والتي سيكون لها دور أساسي في عملية النهوض والتعافي".

بالتوازي، ورغم هذه الأجواء الملتبسة، يبدو أن فرصة يتيمة تتهيّأ مجدداً أمام البلد المنكوب عبر تسريع إنجاز مكونات خطة التعافي، والتمهيد المنظم تشريعياً وتنفيذياً لملاقاة الأساسيات والتصويبات التي بيّنها فريق صندوق النقد الدولي خلال المباحثات المباشرة والافتراضية مع الفريق اللبناني برئاسة نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، والتي يرتقب أن تشهد جولة متقدمة ونوعية ابان زيارة البعثة الدولية الى بيروت خلال الاسبوع المقبل.

وليس عابراً، في ظلّ التطورات الدراماتيكية وذات الوجهة المعاكسة التي تضرب خبط عشواء في ركائز القطاع المالي، أن تبرز بشائر لتعويم قوننة تقييد الرساميل والتحويلات (الكابيتال كونترول)، وفق صيغة محدثة تتضمن ملاحظات صندوق النقد، وأن يفصح رئيس الفريق اللبناني عن تناول المحادثات إدراج موضوع السريّة المصرفية وضرورة تعديل بعض المواد في القانون الحالي بما يسمح بتسهيل مكافحة التهرب الضريبي والفساد بشكل عام.

فالقانون الموعود، من دون تأكيدات واضحة حتى الساعة، وبعد 30 شهراً من استحقاق صدوره على منوال ما تلوذ به الدول "ذات السيادة" وآخرها التدابير الصارمة التي أقرّتها روسيا فور انخراطها في حرب أوكرانيا، يمثل خشبة الخلاص للسلطة وللقضاء وللقطاع المالي على حد سواء، ذلك أن حيثيات الصدام القضائي مع القطاع المالي، كشفت المستوى الحادّ للمخاطر التي ينزلق اليها البلد، وبما يتعدّى التدمير المنهجي لنواة الاقتصاد الوطني الى قطع تام لخطوط معاملاته المالية عبر الحدود التي تقتصر حالياً على بضعة بنوك أميركية يقل عددها عن أصابع اليد الواحدة.

واذ تتّسع تلقائياً فجوة الخسائر المالية التقديرية لتقترب من عتبة 75 مليار دولار جرّاء التمادي بتأخير المعالجات العاجلة وبينها الكابيتال كونترول، والأهم التباطؤ الواضح في تحييد الخيارات الاستراتيجية لخطة كبح الانهيار وبدء التعافي التدريجي، فإنّ التمحيص في القيم الفعلية للودائع بالعملات في المصارف والتي تناهز "رقمياً " 100 مليار دولار، يفرض التوصّل إلى مقاربات متوازنة في توزيع الأحمال، وطبقاً لتوزّع المسؤوليات.

بذلك، تكتسب المعادلة التي أفصح عنها الشامي أخيراً أهمية خاصة في تصويب المقاربات. فهي تنص على "مساهمة الجميع في تحمّل المسؤولية للتعامل مع خسائر القطاع المصرفي مع ضرورة الالتزام بالمعايير الدولية لحل هذه الأزمة، ولهذه الغاية تم الاتفاق على تحضير مشروع قانون للتعامل مع إعادة هيكلة القطاع المصرفي بعد الاتفاق على استراتيجية التصحيح المالي".

ومن المعلوم، أن ملامح الخطة الحكومية للإنقاذ والتعافي ستركز على أولوية حماية الودائع الى حدود 150 الف دولار بالحد الادنى، على ان يتم وضع برنامج واضح لسدادها خلال مهلة زمنية لا تقل عن 10 سنوات ولا تتعدى 15 سنة، بينما تخضع المبالغ الأعلى لمجموعة تدابير تبدأ باقتطاعات محددة والتحويل الى مساهمات رأسمالية واسهم ضمن خطة الانقاذ، علماً ان ترك البنوك بلا سقف قانوني يلزمها بتوزيع عادل للسيولة، سيفضي حكماً الى تكاثر استثنائي في الدعاوى المرفوعة ضدها من قبل المودعين الميسورين، وبالتالي حجب "المدد" النقدي عن الفئات العاجزة عن تكبّد مصاريف المحامين.

إنما، من الثابت أيضاً ان النواة الصلبة للاحتياطات النقدية لدى البنك المركزي التي انحدرت الى نحو 11 مليار دولار حالياً، ومعها رساميل المصارف وأموالها الخاصة، ذابت أو تكاد في لهيب تفجر الأزمات، وفي أتون "الانتقام" الحكومي الذي أخرج لبنان من الأسواق المالية الدولية في آذار/مارس 2020، وأودى بمحافظ البنوك من سندات اليوروبوندز إلى قاع سعري يعادل 10 في المئة فقط من القيمة الاسمية، ثم عبر التغطية بقرارات رسمية استثنائية لتبديد نحو 14 مليار دولار خلال سنتين على سياسات الدعم العقيمة.

ووفقاً لإفصاح  الشامي، تستمر الاجتماعات الافتراضية مع الفريق المكلف بالملف اللبناني لدى ادارة صندوق النقد الدولي، تحضيراً لزيارة بعثة الصندوق الى بيروت الأسبوع المقبل لاستكمال المفاوضات. وفي جدول الاعمال المرتقب، "استكمال البحث في موضوع القطاع المصرفي بهدف حماية المودعين قدر الإمكان ولا سيّما الصغار منهم وإعادة تفعيل دور القطاع المصرفي بشكل يخدم الاقتصاد من خلال تمويل القطاع الخاص وذلك لتحفيز النمو وخلق فرص عمل".

في الخلفيات الأعمق، ينوّه مسؤول مالي لموقع "أولاً-الاقتصاد والأعمال"، بأولوية رفع الستار تماماً عن الجانب المعتم من الصراع المحتدم. فعلى المسرح: دولة تستمر بتعمّد الكساد الاقتصادي وإفقار الناس وفق خلاصات التحقق والمراقبة الحيثية التي أفصح عنها البنك الدولي ومؤسسات عالمية موثوقة في عالم المال والتقييم الائتماني، وقضاء متنوّع الأهواء يتخلى بعضه طوعاً عن "الأصول" وموجبات التحفظ، مستجيباً لشعبويات الدفاع عن المال العام السائب وحقوق المودعين، ومصرف مركزي لا يقوى على استعادة حضوره المفصلي في الميدان، بعدما تخلى طوعاً عن قدرته على "الممانعة" إزاء شهية تبديد احتياطاته على مذبح الدعم وتلبية مصاريف الدولة. وفي الموازاة، قطاع مصرفي منهك شرّع أبوابه للعواصف المفتعلة من كل صوب سياسي ومالي. ثم اخيراً ، وليس آخراً ، مودعون وأصحاب حقوق لا حول لهم، يلهثون خلف فتات الرواتب وجنى العمر.

وفي الأصل، تبدو دورة الأموال الضائعة أحجية عصية على التقصّي والادراك، بحسب المسؤول المالي. فالمدخرات في البنوك، جرى استثمار ثلثها في الاقتصاد بما تعدى 50 مليار دولار، وتوظيف الشريحة الأكبر لدى البنك المركزي بما يفوق 70 مليار دولار، من دون احتساب الاحتياطي الالزامي بنسبة 15 في المئة (14 في المئة حالياً) من اجمالي الودائع بالعملات الأجنبية، ليتوزع الباقي اكتتابات في سندات " اليوروبوندز" وسندات الخزينة بالليرة.

في المقابل، تولى مصرف لبنان دور المموّل الأكبر للدولة التي استساغت في عهود حكومات متتالية تغطية التمادي في الانفاق والاستدانة بموازنات وقرارات عادية واستثنائية، واستسهلت تخطي الدين العام عتبة 100 مليار دولار، وهو يستمر بتلبية الاحتياجات المالية بحماس غير مفهوم، ربطاً بعلم صاحب القرار بحقائق الهدر والفساد في كل المراحل الفائتة والحاضرة، والمعزز بتنبيهات مؤسسات دولية من خطورة انحرافات المالية العامة، كما توافق مع خيارها بتعيينه الحامي لتوجهاتها بالحفاظ على الاستقرار النقدي من دون تحفظ على موجبات مرونة النقد ضمن هوامش يستطيع الدفاع عنها حال الوقوع في سيناريو أزمة عاتية، ولاسيما التقدير السليم للامكانات المتاحة في ظل ما شهده البلد من الفراغات المتوالية في السلطات وتقلص دور الدولة وحضورها وتحول الاقتصاد الى شبه عقم في انتاجيته.