المواجهة الروسية - الأوكرانية تهدّد الأمن الغذائي العربي

  • 2022-02-28
  • 15:12

المواجهة الروسية - الأوكرانية تهدّد الأمن الغذائي العربي

أسعار القمح ترتفع بصورة غير مسبوقة

  • رشيد حسن

أظهرت الحرب الروسية الأوكرانية فجأة مدى الانكشاف الغذائي لمعظم الدول العربية التي تعتمد على استيراد غالبية حاجاتها من القمح من البلدين المتحاربين لتأمين حاجاتها السنوية وحاجات سكانها المتزايدة إلى الرغيف والمشتقات الباقية للقمح، وتحول موضوع الأمن الغذائي الذي كان مادة دائمة على طاولة الحكومات العربية فجأة إلى تحد داهم وغير مسبوق.

 

العرب يستوردون 63 في المئة من الحبوب التي يستهلكونها

 

هكذا تجد الحكومات العربية نفسها الآن وجهاً لوجه مع ازمة ظنت أن حدوثها أمر بعيد الاحتمال. ورغم الجهود الكبيرة التي بذلت في بلدان مثل مصر والمغرب وتونس لتعزيز الاكتفاء الذاتي في زراعات معينة أو زيادة حصة المحاصيل الأساسية، فإن خطط تحقيق الأمن الغذائي سارت عموماً ببطء ولم تستقطب الاستثمارات الكافية والبرامج التي تؤمن تحول الزراعة إلى سلّة غذاء الاقتصاد والسكان. وها هي الأزمة المفاجئة بين روسيا وأوكرانيا اللتين تنتجان معاً أكثر من ثلثي صادرات الحبوب في العالم تواجه الدول العربية تحدياً كبيراً يتمثل في تأمين مصادر بديلة للبلدين واحتواء ارتفاع اسعار القمح وسلع اخرى في الاسواق العالمية في حال استمرت الازمة لفترة طويلة ودخلت مراحل جيوسياسية معقدة.

مخاطر كبيرة

وفق المعطيات التي تكشفت عن وضع سوق الحبوب والآثار المباشرة المتوقعة للحرب على الإمدادات من أكبر سوقين للحبوب في العالم، ثم الأثر الإضافي للحرب على أسعار الحبوب، فإن الحرب الروسية الأوكرانية قد تمثل تهديداً غير مسبوق للأمن الغذائي لبعض الدول العربية التي لا تمتلك ما يكفي من الوسائل أو الموارد لمواجهة الوضع الطارئ والتبعات المحتملة لأزمة رغيف محتملة على الاستقرار الاجتماعي والسياسي. ومعروف أن توافر الخبز وبسعر مدعوم كانا دوماً موضوعاً حساساً للغاية في الاستقرار السياسي للمجتمعات العربية.

السودان "أوكرانيا عربية" عطل قيامها ضعف الاستقرار

 

إن أهم ما سيشعر به المستهلكون في كل مكان هو الارتفاع الكبير والمتزايد لأسعار القمح والحبوب التي قفزت 20 في المئة منذ مطلع فبراير وسط تصاعد التوتر على الجبهة الروسية الأوكرانية ثم شهدت قفزات جديدة مع  بدء الغزو الروسي لأوكرانيا ليرتفع سعر الطن من القمح إلى 291 يورو (  328 دولاراً)  في 25 فبراير، بينما توقعت مصادر مصرفية دولية أن يرتفع السعر إلى حدود 400 دولار للطن في الأيام القليلة المقبلة في حال استمرار الحرب.

لا بدّ من الذكر هنا أنها المرة الأولى منذ الحرب العالمية الأولى الذي تغلق فيها موانئ البحر الأسود ويتوقف فيها إمدادات القمح من روسيا وأوكرانيا، أكبر مصدرين للغذاء في العالم، فضلاً عن ذلك، فإننا قد نشهد اضطراباً كبيراً في الإمدادات نتيجة العمليات العسكرية وإقفال روسيا وأوكرانيا لموانئهما حتى إشعار آخر. ونتيجة لتلك الإجراءات وللأعمال الحربية، فقد أعلنت شركات شحن عالمية مثل "ميرسك" و"سي إم آي" وقف رحلاتها إلى تلك الموانئ كما أعلنت كبريات الشركات العالمية الناشطة في حقل المنتجات الزراعية في الوقت نفسه إغلاق مكاتبها ووقف نشاطها في أوكرانيا نتيجة للغزو الروسي.

وأشار خبراء في سوق الغذاء إلى أن هناك عاملين أساسيين قد يزيدا من أثر الأزمة على الأسعار العالمية للقمح وكذلك على سهولة وصوله للأسواق المستهلكة، الأول هو أن الاعتماد العالمي على قمح دول البحر الأسود أصبح أعلى من أي وقت، أما الثاني فهو أن مخزون القمح لدى الدول المستوردة أو المستهلكة هو في أدنى مستوياته التاريخية.

العرب حالة خاصة

تمثل البلدان العربية في الأزمة الحالية ومضاعفاتها المتوقعة حالة خاصة فعلاً بسبب طبيعة أراضي معظمها التي لا يصلح قسم كبير منها للزراعة وبسبب النمو السكاني الهائل الذي يسجلونه سنوياً. فهذه البلدان لهذه الأسباب هي بين الاكثر اعتماداً على استيراد حاجاتها من الغذاء (والحبوب) في العالم، وهي تخصص لذلك ميزانيات كبيرة سنوياً لاستيراد القمح من مصادره الرئيسية في روسيا وأوكرانيا وكندا وفرنسا والولايات المتحدة وأستراليا وغيرها. وتبلغ الفاتورة السنوية لاستيراد القمح من قبل الدول العربية أكثر من 110 مليارات دولار وهي تبلغ في دول الخليج التي تستورد تقريباً كل حاجاتها من القمح أكثر من 100 مليار دولار سنوياً.

إلا أنه بينما يمكن لدول النفط تغطية الارتفاع المتوقع في أسعار الحبوب (خصوصاً في ظروف الارتفاع الكبير في أسعار النفط والغاز) فإن عدداً من الدول العربية الباقية ستواجه المشكلة المزدوجة على موازين مدفوعاتها لارتفاع أسعار النفط من جهة ثم ارتفاع أسعار الحبوب من جهة ثانية. وتواجه هذه الدول تحدي الغذاء وأسعار النفط وهي بالكاد خرجت من الخسائر كبيرة التي تحملتها في مواردها من العملات نتيجة الهبوط الكبير في مواردها من السياحة خلال عامين من جائحة الكورونا وكذلك نتيجة لاستنزاف قسم من مواردها في جهود القطاع الصحي لاحتواء الوباء والخسائر التي أصابت قطاعات الأعمال نتيجة التوقف القسري والإغلاقات واضطراب سلاسل الإمداد.

إلا أنه بينما نشهد في دول الخليج ومصر وتونس والجزائر ولبنان اعتماداً كبيراً على الاستيراد من روسيا وأوكرانيا فإننا نشهد في أسواق المغرب العربي وكذلك الأسواق الأفريقية هيمنة أكبر للمصدرين من كندا والولايات المتحدة والأرجنتين وفرنسا. ولهذا، فإن الأزمة الروسية الأوكرانية قد تنعكس بآثار أقل على هذه البلدان بالمقارنة مع آثارها المتوقعة على البلدان العربية الشديدة الاعتماد على السوقين الروسية والأوكرانية، إلا أن اضطراب خطوط الإمداد والتسابق المتوقع على مصادر الحبوب والقمح الأخرى خارج موانئ البحر الأسود سيؤدي في وقت قصير إلى قفزات كبيرة في الأسعار كما إنه سيجبر جميع الدول على التسابق لتأمين عقود الاستيراد وتأمين الأسعار الأفضل من أي مصدر متوافر قبل الارتفاعات الإضافية التي يتوقع أن تشهدها أسعار الحبوب في العالم في حال تعقد الأزمة وتوالي مضاعفاتها الاقتصادية والإنسانية والسياسية.

أحد العوامل التي تؤثر في مدى توافر القمح في الدول العربية ومعدلات أسعاره هو حجم الإنتاج السنوي في الدول التي تزرع الحبوب مثل المغرب وتونس ومصر والجزائر وسوريا وكذلك احتياطات الحبوب المتوافرة لكل من الدول المعنية والتي تتفاوت بشدة، إذ إن مخزونات تونس (التي شهدت تراجعاً كبيراً في احتياطها من العملات) من القمح تكفيها حتى يونيو المقبل فقط بينما لم يعد للبنان الذي يعاني نقصاً أفدح في العملات الأجنبية إمكانية لتخزين القمح بكميات كبيرة بعد انفجار المرفأ وانهيار إهراءات القمح،  وحسب نقيب الأفران اللبنانية فإنه يمكن للاحتياط المتوافر في مخازن التجار وفي خمس بواخر آتية من أوكرانيا أن يكفي لمدة لا تزيد على الشهر ونصف الشهر.

في انتظار "أوكرانيا" العربية

يعتبر السودان أحد أكثر البلدان العربية خصوبة وقدرة على إنتاج الغذاء بسبب مساحاته الزراعية الشاسعة ووفرة مياه الأمطار التي يصل معدلها السنوي إلى 1200 ملم وكذلك المياه التي يمكن جرها من نهر النيل، لذلك، فإن الدول العربية تطلعت دوماً لأن تجعل منه بمثابة "أوكرانيا عربية" من خلال تطوير حركة الاستثمارات في ثرواته الطبيعية، إلا أن عدم الاستقرار الذي يعاني منه البلد بصورة مزمنة حال دون تحويل طاقاته الكبيرة إلى واقع اقتصاد على الأرض. وبالنظر الى تاريخ الاضطرابات الذي اختلط بسوء الادارة، فإن السودان لا يزال غير قادر حتى على تأمين حاجيات شعبه من الغذاء، إذ بلغت وارداته من القمح في العام 2021 نحو 2150 طن في مقابل إنتاج سنوي يتراوح كمعدل وسطي ما بين 600 و900 طن فقط.

وعلى الرغم من أن السودان ينتج نحو 4.4 ملايين طن من السرغم سنوياً وكميات من العدس والحمص إلا أنه لا يزال يحتاج بالدرجة الأولى إلى القمح بسبب استخدامه في صنع الخبز. لذلك فهو يحتاج إلى 2.9 مليون طن من القمح سنوياً ويضطر لتغطية فجوة الإنتاج باللجوء إلى الاستيراد وهو ما يستنزف موارده المحدودة من العملات الأجنبية.  وغالبا ما لا تتمكن الحكومة السودانية من الاستيراد بسبب شح العملات فينعكس ذلك بأزمة رغيف وبطوابير طويلة أمام الأفران، وبسبب ذلك، فإن السودان ما زال يعتمد في نسبة أساسية من حاجاته إلى الغذاء على المساعدات الغذائية لبرنامج الغذاء العالمي أو المعونات العينية التي تصله من دول اخرى. 

تحت رحمة الطبيعة

المشكلة هي أن المحصول المنتج محلياً من القمح والحبوب لا يتمتع في الدول العربية بالاستقرار لأنه يتأثر إلى حد كبير بالعوامل المناخية، فبالإضافة إلى الكارثة التي ضربت الزراعة السورية نتيجة الحرب وشح الأمطار في العام 2021 فإن المغرب شهد بدوره في العام نفسه إحدى أسواء سنوات الجفاف مع تراجع معدل تساقط الأمطار بنسبة 64 في المئة عن المعدلات المعتادة مما جعل من العام 2021 السنة الأسوأ للزراعة المغربية منذ 30 عاماً وأصبحت موجات الجفاف في بلدان المغرب تحدث الآن كل سنتين متواليتين بدلاً من كل سنة بعد سنة. أما مصر فإنها تواجه مستقبلاً غير واضح مع استمرار المواجهة حول سد النهضة مع اثيوبيا.

الوضع الحرج في سوريا

ولا بدّ من التوقف بصورة خاصة أمام خطر الأزمة الروسية الأوكرانية على الأمن الغذائي للسوريين الذين بات 90 في المئة منهم تحت خط الفقر أو يواجهون خطر الجوع والفشل في تأمين الخبز والغذاء،  فإن البلد واجه في العام الماضي تراجع محصول الحبوب بنسبة 63 في المئة نتيجة شح الأمطار ووجدت الحكومة السورية صعوبة في إيجاد جهات مستعدة لتصدير القمح إليها، وهو ما رده بعض المسؤولين إلى "الحصار" المفروض على البلد، بينما رده اقتصاديون إلى النقص الكبير في العملات الصعبة وإلى الفساد المستشري في الدولة. وتمكنت سوريا في ذلك العام وفي العام 2021 بصعوبة من سدّ جزء من فجوة الغذاء عبر صادرات القمح الروسي التي بلغت نحو مليون طن في العام، إلا أنه وبالنظر الى الظروف الجديدة والاضطراب المتوقع في عمل الموانئ الروسية والأوكرانية، فإن سوريا قد تواجه وضعاً حرجاً في محاولة تغطية فجوة القمح للعام 2022، أضف إلى ذلك، أن الحكومة ونتيجة لعدم توافر احتياط العملات الأجنبية لم تستطع في العام الماضي استيراد الأسمدة أو توفيرها للمزارعين.