محاربة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة في لبنان: مرجعية التشريع قائمة

  • 2020-08-07
  • 10:33

محاربة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة في لبنان: مرجعية التشريع قائمة

  • د. علي بدران

تزداد المطالبة في الآونة الأخيرة بضرورة إسترداد الأموال المنهوبة في إطار عملية مكافحة الفساد، وأيضاً باسترداد الأموال التي تمّ تحويلها من المصارف إلى الخارج بعد تاريخ 17 تشرين الأول 2020، كما المطالبة أيضاً بإقرار قوانين وتشريعات جديدة لمكافحة الفساد لا سيما على الصعيد المالي. 

ما هي الآلية القانونية التي يمكن إعتمادها؟ ومن هي الجهة الصالحة في الخارج للتعاون معها في هذا الموضوع؟ وهل من السهل إسترداد الأموال المنهوبة دون إدانة من القضاء اللبناني، وإعتبارها بالدرجة الأولى أموالاً غير مشروعة ناتجة عن الجرائم المحدّدة في قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الارهاب رقم 44/2015، وهل يُشكّل هذا القانون المدخل الأساسي لإسترداد هذه الأموال من خلال "هيئة التحقيق الخاصة" في مصرف لبنان، وهل لدى "الهيئة" الصلاحية الكافية أم هناك ضرورة لتدخّل القضاء وصدور حكم قضائي؟ وهل يُمكن إستعادة الأموال المُحوّلة إلى الخارج في ظل عدم وجود قوانين تمنع ذلك؟ هل المنظومة القانونية الحاليّة كافية؟ أم هناك حاجة لتحديث بعض القوانين وتشريع قوانين جديدة لمكافحة الفساد وإستعادة هذه الأموال؟

 

أهمية قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الارهاب رقم 44/2015

 

 

يعتبر قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الارهاب رقم 44/2015 أحد ركائز محاربة الفساد والجرائم المالية والتهرّب الضريبي في لبنان. وهو قانون حديث وفق المعايير الدولية، جاء ليعدّل القانون السابق رقم 318/2001 ويحلّ مكانه، حيث أقرّ توسعاً في تعريف جريمة تبييض الأموال وإعتبارها جريمة أصلية بحد ذاتها ولا تستلزم الإدانة بجرم أصلي، وأضاف التعديل أربعة عشر جريمة على الجرائم السبعة القائمة، والتي ينتج عن إرتكابها أموال غير مشروعة سواء حصلت في لبنان أم خارجه، منها الفساد بما في ذلك جرائم الرشوة، صرف النفوذ، الاختلاس، إستثمار الوظيفة العامة، إساءة إستعمال السلطة، والإثراء الغير المشروع، إضافةً إلى التهرُّب الضريبي والتهرُّب الجمركي، وجرائم أُخرى تم تعدادها في المادة الأولى من القانون.

كما إن أبرز التعديلات التي طالها القانون 44/2015، تمثلّت في توسيع صلاحيات "هيئة التحقيق الخاصة" في مصرف لبنان المُنشأة بموجب المادة السادسة منه منذ إقرار القانون السابق 318/2001. وتتمتّع "الهيئة" بالإستقلالية التامة والطابع القضائي لإجراء التحقيقات في العمليات المالية التي يُشتبه بها، والتحقّق من مصادر الأموال والحسابات المصرفية ومتابعة حركة الأموال (Traceability)، وتقرير مدى جدّية الأدلّة والقرائن على إرتكاب أي من الجرائم المذكورة. ويعود لهيئة التحقيق الخاصة وحدها صلاحيّة إتخاذ القرارات برفع السرية المصرفية والتجميد الإحترازي المؤقّت كما النهائي لأرصدة الحسابات أو العمليات المالية المشتبه بها، وللجهات المعنيّة الإجراءات اللازمة لمنع التصرّف بها، والطلب من النائب العام التمييزي إتخاذ إجراءات إحترازيّة في ما يتعلّق بالأموال المنقولة وغير المنقولة، ودون الحاجة لأي ترخيص أو إذن للقيام بالمهام المحدّدة لها.

كذلك وسّع القانون الرقم 44/2015 الجهات المُلزمة بإبلاغ "هيئة التحقيق الخاصة" عند قيامهم بمهامهم ضمن أصول وإجراءات معينة، عن تفاصيل العمليات المالية التي يشتبهون بها تتعلق بهذا القانون، لتشمل المحامين وخبراء المحاسبة المجازين وكُتّاب العدل، وأضاف القانون أيضاً إجراءات العناية الواجبة (Customer Due Diligence)، التي تُسهم في تعزيز المعايير المهنية والأخلاقية، وتمنع إستغلال هذه الجهات لدخول أموال مشبوهة أو غير مشروعة. وقد جاء هذا التوسّع للجهات الملزمة بالإبلاغ، إستجابة لمضمون توصيات "مجموعة العمل المالي" (FATF)2012 التوصية رقم 22 المتعلقّة بالمؤسسات والمهن غير المالية. كما ألزم هذا القانون أيضاً المراقبين العاملين في لجنة الرقابة على المصارف في مصرف لبنان، بإبلاغ "هيئة التحقيق الخاصة" بواسطة رئيس اللجنة عن العمليات التي يطّلعون عليها عند قيامهم بمهامهم والتي يشتبهون بها.

نصّ القانون رقم 44/2015 على جرائم الفساد والتهرّب الضريبي، وهي من الجرائم المرتفعة المخاطر في لبنان، والتي لها تأثير كبير على مالية الدولة، وبالتالي الجهات المعنية المحدّدة فيه من أجهزة إنفاذ هذا  القانون "كهيئة التحقيق الخاصّة" والسلطات القضائية، مكلّفة بالعمل على زيادة فعالية التطبيق (Effectiveness)، والتأكُّد من مدى الإمتثال لمعايير مكافحة الفساد وإساءة إستعمال السلطة والمال العام.

إن التجريم الذي نصّ عليه القانون رقم 44/2015 واضح، ويشمل كل من كان قائماً بخدمة عامة أو خاصة، ويُحدّد الأموال غير المشروعة (illicit funds) برمتها مهما كان مصدرها أو نقلها أو توظيفها أو المستفيد منها، فإدانة أي شخص باحدى الجرائم المنصوص عنها في المادة الأولى من القانون المذكور، تتطلّب مصادرة الأموال الناجمة عن ذلك لمصلحة خزينة الدولة، أي (إسترداد الأموال غير المشروعة) بموجب القانون 44/2015، كما أن قانون العقوبات اللبناني ينصّ على ذات المصادرة والإسترداد بمجرّد صدور قرار قضائي بإتهام شخص معيّن وملاحقته وفق القوانين الموجودة.

 

بين تطبيق القوانين الحالية لمكافحة الفساد وتشريع قوانين جديدة

 

 

إن دراسة النصوص والقوانين تؤكّد أن القانون اللبناني الحالي كافٍ إلى حد كبير لملاحقة المتورطين في جرائم فساد، وذلك على الرغم من بعض الشوائب والحاجة لتعديل بعض القوانين المتعلقة بمكافحة الفساد، وأهميّة إقرار قانون إستقلالية القضاء، الذي يشكّل الدرع الأساسي لتمكين القضاء من تطبيق جميع القوانين. لكن في حال وُجد القرار لملاحقة الفاسدين، فإن المنظومة القانونية الحالية كافية لبدء الإصلاحات البنيوية (Structural Reform) بشكل فعاّل على الصعيدين الإقتصادي والمالي وعلى المستوى الإداري، ومكافحة الفساد وتفعيل أجهزة الرقابة للقيام بدورها، وإرساء نظام الشفافية عبر تطبيق القوانين النافذة والتي يزيد عددها عن الـ 50 قانوناً جميعها تساعد على مكافحة الفساد وأهمّها القانون رقم 44/2015.

 

أبرز قوانين مكافحة الفساد:

 

  1. قانون من أين لك هذا؟ الذي أُقر في العام 1953، والذي لا يزال مجرّد قانون على الورق، ولم يُغيّر شيئاً على مستوى الفساد، هذا القانون الذي يحمل إسمه صفة السؤال ولم يُجيب عليه أحد لغاية اليوم.. ولم يُعاقب أحد بسببه عمل في القطاع العام أو الخدمة العامّة، ولم يُلاحق أو خضع لمحاسبة أو مساءلة أي شخص بموجب هذا القانون منذ اقراره.
  2. قانون "الاثراء غير المشروع" رقم 154 تاريخ 27/12/1999، والذي لم يُوضع بعد موضع التنفيذ، رغم أهميته بالحد من الفساد في المؤسسات العامة ومحاسبة الفاسدين ووقف الهدر في المال العام، وإمكانية النيابة العامة من تحريك دعوى الحق العام، فالقانون يُعاقب على الإثراء الذي يحصل عليه الموظّف والقائم بخدمة عامّة وكل شريك في الإثراء غير المشروع (المواد 351-366) من قانون العقوبات اللبناني، والتي تُشكّل جرماً جزائياً في الجرائم الواقعة على الإدارة العامّة. علماً أن القانون المذكور يتضمّن بعض الثغرات ويتطلّب بعض التعديلات، أهمها موضوع تقديم كفالة مصرفية من الشاكي بقيمة 25 مليون ليرة لبنانية مرفقة مع الشكوى، فضلاً عن المسؤولية المترتبة على المدّعي، والغرامة الباهظة في حال عدم كفاية الشكوى أو إبطالها.
  3. قانون مكافحة تبييض الأموال وهو نافذ منذ العام 2001 تحت الرقم 318 قبل تعديله بالقانون رقم 44/2015 الحالي، وهو قانون جزائي، ويعتبر الفساد في المادة الأولى منه من الجرائم التي يجوز فيها رفع السرية المصرفية من خلال "هيئة التحقيق الخاصة" في مصرف لبنان، والتي ليست بحاجة لأي ترخيص للقيام بالمهام التي حدّدها هذا القانون، ولا تشكّل السرية المصرفيّة بحد ذاتها عائقاً قانونياَ أمام إجراءات الملاحقة في جرائم الفساد، وهي أفعال في أغلب الأحيان يمكن توصيفها قانوناً على أنها جرائم تبييض أموال.
  4. قانون الاجازة للحكومة الإنضمام إلى إتفاقية الأُمم المتحدة لمكافحة الفساد رقم 33 تاريخ 16/10/2008، وهي الإتفاقيّة التي أقرّتها الجمعية العامّة للأُمم المتحدة (UNCAC)، وأصبحت نافذة بتاريخ 14/12/2005، وتُعتبر هذه الإتفاقيّة المُتعدّدة الأطراف الأكثر شمولاً وقوّة في مكافحة الفساد الذي لم يعد شأناً محلياً، بل أصبح ظاهرة دوليّة. كما توفّر الإتفاقية التي تضمُ ما يزيد عن 190 دولة إطاراً جديداً لتقوية التعاون الدولي في مكافحة الفساد الذي يقوّض سيادة القانون بين الدول، وتُلزم الإتفاقية الدول الأطراف فيها، ومنها لبنان بتنفيذ مجموعة واسعة ومفصّلة في تدابير منع ومكافحة الفساد، وتعزيز إنفاذ القانون والتعاون القضائي الدولي، من خلال توفير آليات قانونيّة فعّالة لتعقُّب وتجميد وإسترداد الأموال والموجودات الناتجة عن الفساد بإعتباره المبدأ الأساسي للإتفاقية، كما المساعدة التقنيّة وتبادل المعلومات وفقاً لآلية تعاون مُلزمة للدول الأطراف.
    إن إنضمام لبنان لهذه الإتفاقية، والتي تُعتبر أول أداة دوليّة لإستعادة الأموال الناتجة عن الفساد، جاء لمواكبة التطورات الحاصلة في مجال مكافحة الفساد الذي أصبح يُهدّد القيم الأخلاقية والتنمية والعدالة وتطبيق القانون للخطر، وبغية منع الفساد والكشف عنه لتعزيز النزاهة والمساءلة، والعمل على إرجاع الموجودات والأموال الناتجة عن أنشطة الفساد، لأنها في الواقع مسألة في غاية الأهمية بالنسبة للدول الناميّة حيث الفساد ونهب الثروة الوطنية على مستوى مرتفع.
  5. قانون حقّ الوصول إلى المعلومات الرقم 28 تاريخ 10/2/2018.
  6. قانون حماية كاشفي الفساد الرقم 83 تاريخ 10/10/2018.
  7. قانون دعم الشفافية في قطاع البترول الرقم 84 تاريخ 10/10/2018.

 

قد يتبيّن وجود نقص أو ثغرات في بعض القوانين تتطلّب الحاجة لتعديل أو تحديث معيّن، وأحياناً تشريع بعض القوانين لتحقيق الإصلاح المنشود، على سبيل المثال:

أولاً: اقتراح قانون رفع الحصانات عن جميع القائمين بالخدمة العامّة وإدارة المال العام أكانوا من الحاليين أم السابقين.

ثانياً: إنشاء محكمة خاصّة مستقلة تنظر في ملفات الفساد والجرائم على المال العام، نظراً لبطء الإجراءات أمام القضاء العادي، تكون مدعومة من أهل الإختصاص من خبراء ماليين ومصرفيين وخبراء محاسبة مجازين لديهم الخبرة والكفاءة.

ثالثاً: إجراء بعض التعديلات على قانون مكافحة الفساد في القطاع العام، وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، تكون مستقلة ونزيهة قادرة على تفعيل المحاسبة القضائية، وتوسيع الصفة لأعضائها عبر إنتخاب محامٍ من قِبل نقابة المحامين في بيروت والشمال، وإنتخاب خبير محاسبة مجاز من قبل الجمعية العمومية في نقابة خبراء المحاسبة المجازين بناءً على ترشيحات من النقابتين، بدل تعيينهما من قبل مجلس الوزراء، وعضو من الخبراء المتخصصين في شؤون مكافحة الفساد أو المالية العامة.

رابعاً: توسيع صلاحيات الهيئة الوطنية لتشمل رفع الحصانات عن كافة الموظفين في القطاع العام، وإجراء التحقيقات والملاحقات بجرائم الفساد دون الحاجة للحصول على الإذن المسبق الملحوظ في القوانين، وتأمين الحماية اللازمة لكاشفي الفساد، إضافة لمنح الهيئة حق رفع السرية المصرفية عن حسابات المشتبه بهم بشكل مباشر أو عبر "هيئة التحقيق الخاصة" في مصرف لبنان من خلال القانون44/2015.

خامساً: مكافحة الفساد فعلياً يتطلّب وجود ثقة بجدّية التدابير المتخذة لتطبيق القوانين، يجب أن يتكامل العمل التشريعي والرقابي، وهو الأساس لإمكانيّة إستعادة الأموال المنهوبة. ما الجدوى من تشريع قوانين جديدة إذا لم تُطبّق القوانين القائمة؟ المشكلة في فعّالية التطبيق، وعدم وجود النيّة والقُدرة أحياناً لملاحقة الفاسدين.