كابوس لبنان الطويل!

  • 2020-07-14
  • 12:04

كابوس لبنان الطويل!

  • رشيد حسن

 

في لبنان اليوم تسليم عام، من أعلى هرم السلطة السياسية وحتى المواطن البسيط، بأن أزمة الدين والليرة والبطالة الشاملة تسير من سيىء إلى أسوأ وسط انهيار تام في هياكل الاقتصاد وبنيان الدولة ومستويات المعيشة، لكن هذه الصورة المظلمة يضاف إليها الآن، المشهد المخيف للتخبط السياسي واللامبالاة والتهاء الطبقة السياسية عن أي جهود سريعة لإنقاذ البلاد وانصرافها بدلاً من ذلك وحتى وسط الانهيار إلى تقاسم مغانم التوظيفات والصفقات والمنازعات.

حقيقة الأمر هي أن الزوال التدريجي للكيان السياسي والإداري للدولة اللبنانية يجعل لبنان يقترب تدريجياً من اعتباره من الدول الفاشلة حيث يبلغ التداعي السياسي والاقتصادي والامني حداً يجعل العالم الخارجي يدير ظهره للعملية السياسية ولأي محاولات جدية لمساعدة البلد على اجتناب الكارثة الإنسانية واستنباط اتفاقات وحلول تعيد الثقة وتمهد لبداية جديدة كما حصل في الطائف في العام 1989.

إن أبرز مؤشر على الطريق المسدود الذي بلغه البلد، هو تعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وتراجع الآمال بإمكان تنفيذ الإصلاحات الأساسية لبعض القطاعات مثل الكهرباء والجمارك والقضاء والتي لا يمكن من دونها الحصول على اتفاق يسمح بحصول لبنان على التمويل الحيوي الذي يحتاجه ويفتح الطريق أمام تدفق مساعدات "سيدر" وربما غيرها من المعونات.

إن الخطر الحقيقي على البلد بات الآن يتجاوز الوضع المالي إلى زوال الدولة نفسها ومؤسساتها، وبالتالي زوال قدرة لبنان على التفاوض مع العالم الخارجي والمؤسسات الدولية، وفشل "الشعوب اللبنانية"، كما يسميها معلق بارز في إحدى الصحف اللبنانية العريقة، في التوصل إلى توافق على خطورة الأزمة وعلى المصلحة الحيوية للجميع في اجتناب السقوط في الهاوية السحيقة التي بلغوها.

إن استمرار الشلل وإضاعة الوقت في حلول وهمية مثل الاعتماد على الصين الشعبية أو زراعة الخضار ليس فقط يبعد آفاق التوصل إلى اتفاقات إعادة هيكلة مع صندوق النقد الدولي، بل يعني أن البلد، الغارق في المماحكات العقيمة، مضطرّ لاستنزاف ما تبقى لدى البنك المركزي من احتياط في شراء الوقت إلى أن يصل البلد إلى حال من الإفلاس التام ستجعل من الصعب، حتى تأمين العملات الأجنبية اللازمة لاستيراد الغذاء او الدواء أو الفيول والبنزين الضروري لاستمرار الحياة في حدها الأدنى، ومثل هذا الوضع هو الذي يسمح للعديد من المراقبين ووسائل الإعلام الدولية بالحديث عن مجاعة شبيهة بتلك التي تعرّض لها لبنان في أواخر الحرب العالمية الأولى أي قبل ما يقارب القرن الكامل.

 

"سفربرلك" جديدة

 

 

ومن مفارقات التاريخ أن مجاعة 1918 سبقها في العام 1914 ما عرف بـ "سفربرلك" وهو إعلان الدولة العثمانية النفير العام تمهيداً لدخول الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا، وبعد أكثر من مئة عام تؤدي النزاعات الدولية في المنطقة إلى تجنيد ألوف الشباب وموتهم في أكثر من "سفربرلك" وعلى أكثر من جبهة (من سورية إلى ليبيا) دفاعاً عن بلدان أو قوى أجنبية تتنازع السيطرة على المنطقة.

ومن مفارقات التاريخ أيضاً أن ما يجري اليوم يشبه المجاعة التي حصلت بسبب الحصار الذي فرضته الدول الأوروبية على الدولة العثمانية وهو حصار يذكّر بالعقوبات الدولية على سورية وإيران. لذا وفي انتظار السيناريوهات الأسوأ فقد اللبنانيون تحت وطأة الانهيار المتسارع لليرة والتآكل المخيف لقدراتهم الشرائية أي اهتمام بالوضع السياسي أو بالشأن العام ليتركز هذا الاهتمام بصورة شبه وحيدة على الأزمة المعيشية الخانقة والتقهقر المتسارع للأسر اللبنانية إلى حال من العيش البدائي ومن الفقر، يجب العودة بالذاكرة عقوداً إلى الوراء للعثور على حالة تماثلها، بل لا يمكن في الواقع المقارنة بين ما يحصل في لبنان اليوم وبين أسلوب العيش الذي كان سائداً مثلاً في الخمسينات من القرن الماضي أو حتى قبله والسبب بسيط وهو أن أسلوب العيش البسيط كان استمراراً لتقاليد تاريخية لم يعرف الناس غيرها وتكيفوا معها حتى أصبحت حياتهم العادية، ومما جعل الحياة البسيطة سهلة على اللبنانيين وأن أكثرهم كانوا يملكون بيوتهم ويعيشون في الأرياف في مجتمع زراعي يقوم على درجة من اقتصاد الاكتفاء، وهذا الاقتصاد تلقى في ما بعد دعماً كبيراً من انفتاح أبواب الوظائف الحكومية في السلكين المدني والعسكري، وذلك قبل أن تصبح المغتربات الخليجية ابتداء من الستينات مصدراً إضافياً لدعم الثروات اللبنانية الخاصة واحتياط العملات للدولة اللبنانية .

 

سجناء المدن

 

أما اليوم، فإن الأزمات الخانقة التي سقط لبنان في دوامتها أدت وفي وقت قصير إلى إعادة اللبنانيين من وضع الرفاه والاستهلاك والمالي السهل إلى حالة من الفقر وتدهور مستوى المعيشة والفقدان المفاجئ لأبسط مقومات الحياة مثل الإنارة والغذاء والمدرسة وفرصة العمل والرعاية الصحية.

إنه وضع سريالي فعلاً أن تجد أفراد الطبقة الوسطى وأصحاب الشأن الذين كانوا وحتى صيف العام الماضي يعيشون حالة من الرفاه واليسر النسبي وهم يقفون في محلات اللوازم المنزلية ليشتروا مصابيح الكاز أو يتقاطرون على محطات المحروقات لتأمين غالون من المازوت، وأن تسمع في الوقت نفسه، قصص الأسعار الخيالية للغذاء وأن يخبرك كثيرون بأنهم يتحولون مجبرين إلى نباتيين، بعد أن أصبح اللحم بعيد المنال لأكثرية المواطنين الذين انهارت القوة الشرائية لرواتبهم أو تقاعدهم، وقد حذر البنك الدولي في تقرير أخير من أن أكثر من نصف اللبنانيين سيعيشون تحت خط الفقر قريباً في حال استمرار الأزمة الاقتصادية وعدم التوصل إلى حلول لإنقاذ البلاد.

 

الظلمة المقبلة

 

وكأن تراجع قدرة اللبنانيين على توفير الغذاء لأنفسهم وأسرهم لا يكفي، يطل عليهم الآن شبح سقوط البلاد في الظلام التام مع توقعات بعجز الدولة في وقت ما عن الاستمرار في توفير الفيول لشركة الكهرباء أو المازوت للمولدات الخاصة بذلك، فإن التقنين الشديد للطاقة الكهربائية لا يقتصر الآن على ساعات التغذية لشبكة كهرباء لبنان، بل أصبح يشمل أيضاً آلاف المولدات الكبيرة التي يشغلها القطاع الخاص أو البلديات والتي لم تعد تجد ما يكفي من المازوت للاستمرار بخدماتها للسكان، كما لم تعد قادرة في ضوء التسعير الحكومي الإلزامي على تغطية نفقاتها وخصوصاً نفقات الصيانة وزيت المحركات، في بعض القرى خفضت البلديات أو مشغلي المولدات ساعات التغذية إلى ثلاث ساعات صباحاً وثلاث ساعات مساء ما دفع المواطنين للتهافت على شراء مصابيح الكاز التي كانت أصبحت تذكارات من الماضي، ويتسبب انقطاع الطاقة لساعات طويلة في اضطراب متزايد في خدمات الإنترنت كما يصيب في الصميم استخدام المكيفات في المدن في فصل الصيف الحار  كما يتوقف اضطرارياً استخدام البراد المنزلي الذي بات بمثابة حجر الزاوية في مطبخ الأسرة اللبنانية.

هذه الحالة من تردي ظروف المعيشة لم يشهد لها لبنان مثيلاً في تاريخه الحديث وهي مرشّحة للتفاقم بحيث تعيد لبنان فعلاً ربما 90 عاماً إلى الوراء عندما كان الاقتصاد بدائياً والعيش عيش الكفاف وخدمات الطاقة الكهربائية نادرة في أكثر الأرياف اللبنانية ومحصورة في المدن بعدد من الأحياء من دون غيرها.