صندوق الاستثمارات العامة السعودي: صندوق سيادي بأدوار دولية ومحلية

  • 2020-06-24
  • 09:45

صندوق الاستثمارات العامة السعودي: صندوق سيادي بأدوار دولية ومحلية

الصندوق بات لاعباً رئيسياً في الأسواق الدولية ومساهماً في دعم وتحفيز الاقتصاد المحلي

  • رشيد حسن

 

اجتازت المملكة العربية السعودية في خمس سنوات مسافة حاسمة في مسيرة التحول الاقتصادي والاندماج في الاقتصاد العالمي، هذه المسيرة التي تتجاوز في طابعها الجذري الاصلاح التقليدي لتشكل نهضة تغييرية شاملة. وظهرت الملامح الجديدة للدور السعودي الجديد على النطاق العالمي أولاً في تحول المملكة إلى لاعب فاعل في مجموعة العشرين ثم تبنيها لسياسات أكثر ديناميكية في نطاق أسواق النفط، لكن الدور السعودي الجديد في العالم يبدو الآن بأكثر ما يكون وضوحاً في استراتيجية تحويل قوتها المالية، من قوة "نائمة" في الاستثمارات السائلة والاحتياط المالي، إلى قوة "ناعمة" تتمثل في الدور الذي يلعبه صندوق الاستثمارات العامة سواء على صعيد المساهمة في أبرز الشركات العالمية أو في حصص وازنة في الشركات ذات الأهمية في قطاعات استراتيجية أو عبر عقد شراكات كبرى مع دول مهمة للمملكة.  

 

 

 

 

تحولات الصندوق

 

 

لكن تحول السعودية إلى قوة مبادرة في أسواق الاستثمار العالمية تطلب تحقيق تحولات أساسية في دور صندوق الاستثمارات العامة الذي تطور من صندوق يمتلك ويدير أصول القطاع العام إلى أحد أكبر الصناديق السيادية وإلى لاعب رئيسي في الأسواق الاستثمارية الدولية وفي عملية التحول الاقتصادي، وهو ما تطلب بدوره إدخال تغييرات تحولات كبيرة في الأدوار المنوطة بالصندوق وفريقه الاستثماري وفي استراتيجيات عمله على النطاق الخارجي أم على النطاق السعودي الداخلي.

وبات من الممكن القول بأن دور صندوق الاستثمارات العامة بالنسبة الى ادارة القوة المالية السعودية بات أشبه بدور شركة أرامكو في إدارة القوة النفطية للمملكة، وهذا التكامل الطبيعي بين الدورين هو من أهم الأسباب التي تفسر حرص ولي العهد الأمير محمد بن سلمان على أن يكون على رأس كلا المؤسستين، اللتين تمثلان الركيزتين الاستراتيجيتين لاقتصاد المملكة ولرؤية 2030.

 

 

 

أدوار متداخلة

 

خلال عملية التحول السعودي، تبلورت بصورة أوضح مجموعة الأدوار المتداخلة والمتكاملة التي بات يتولاها صندوق الاستثمارات العامة، والتي تميزه عن بقية الصناديق السيادية في المنطقة أو في العالم، وقد سلطت استثمارات بمليارات الدولارات قام بها الصندوق أخيراً في مجموعة مختارة من الشركات العالمية، الضوء على دوره في بناء محفظة أصول استثمارية في الشركات العالمية المؤثرة وذات المستقبل الواعد، كما أظهرت قدرة متزايدة على اقتناص الفرص تمثلت في تركيز الصفقات على عدد من القطاعات والشركات التي تأثرت أسهمها بصورة كبيرة بسبب جائحة كورونا. ولفت نشاط صندوق الاستثمارات العامة السعودي أنظار المحللين الذين ركزوا بصورة خاصة على أنه أظهر تفرّداً وجرأة منذ مطلع العام في تملك حصص وأسهم الشركات العالمية في وقت احتفظ معظم اللاعبين بموقف الترقب تحت وطأة الظروف الناجمة "جائحة كورونا"، ويراهن الصندوق كما يبدو على أن الأسهم التي تمّ شراؤها باتت مقومة أقل بكثير من قيمتها الحقيقية وأنها ستشهد بالتالي تحسناً سريعاً مع عودة الأوضاع الاقتصادية الدولية إلى طبيعتها بصورة تدريجية، وقد استفاد الصندوق من ميزة امتلاكه لفريق سريع الحركة ولسيولة وافرة في وقت كانت الخسائر الكبيرة في الاسواق المالية تثقل على ميزانيات معظم المستثمرين.

 ويسعى الصندوق من خلال بناء محفظة استثمارات عالمية إلى المساهمة في تنويع مصادر الدخل والنمو من خلال زيادة المساهمة السنوية لعائدات المحفظة في دخل الدولة السعودية فضلاً عن تنمية الخبرات السعودية في قطاع المال والاستثمارات، وبناء قاعدة كفاءات سعودية متطورة قادرة على العمل في الأسواق الاستثمارية الدولية.

ونتيجة للنشاط المستمر منذ سنوات في تملّك حصص الشركات، فقد زادت نسبة الاستثمارات الخارجية التي يديرها الصندوق من 2 في المئة في العام 2015 إلى 15 في المئة من المجموع حالياً، كما ارتفع عدد العاملين فيه إلى 450 موظفاً مع توقع أن يزداد العدد إلى 700 في نهاية العام الحالي. ويضع الصندوق لنفسه معياراً للأداء هو تحقيق معدل عائد على حقوق المساهمين يتراوح ما بين 4 و5 في المئة وأعلنت إدارته أخيراً أن الصندوق في طريقه لتحقيق هذا الهدف.

 

 

دينامو الاقتصاد الجديد

 

يختلف صندوق الاستثمارات العامة السعودي عن غيره من الصناديق السيادية التي تستهدف تعظيم العائد المالي على محفظة الاستثمارات في الدور الاستراتيجي الذي يلعبه كمحرك فاعل للتنوع الاقتصادي في المملكة من خلال برنامجه عبر مبادرات محددة الى تعظيم اصول الصندوق واطلاق قطاعات جديدة وتوطين التقنيات الحديثة وتنمية أنشطة البحث والتطوير وبناء شراكات اقتصادية استراتيجية. فالصندوق هنا وبموازاة دوره في بناء حضور استثماري سعودي في الشركات الدولية يعمل داخل المملكة بمثابة الذراع الاستثمارية التي تمكّن الدولة السعودية من إطلاق المشاريع الطموحة لرؤية 2030 وذلك من خلال توفير التمويل الاستثماري الأولي وكذلك من خلال توفير عامل الثقة والضمان للشركات الدولية التي تحتاج المملكة لاستقطابها إلى تلك المشاريع. وهذا الدور التحفيزي للصندوق يسلط الضوء على دور داخلي له يختلف عن عمله في إدارة محفظة الاستثمارات الخارجية لأن الصندوق يقوم بتوظيف جزء من موارده في مشاريع كبرى قد تحتاج لسنوات قبل أن تبدأ بتحقيق الدخل، وهو لهذه الجهة يكتسب وظيفة مختلفة عن وظيفته الخارجية ويظهر بالتالي أحد أهم أوجه تميّزه عن الصناديق السيادية لأكثر الدول خصوصاً في الدول المتقدمة. وغطت الشركات التي أطلقها الصندوق داخل السعودية قطاعات مثل الترفيه (القدِّية) والتجارة الرقمية (نون) والمدن العالمية الحديثة (نيوم) والاستثمار السياحي (تطوير ساحل البحر الأحمر)، كما تضمنت الاستثمار في الصناعات الدفاعية وفي إعادة الرهن العقاري والتأمين وفي قطاع إدارة النفايات وغيرها.

 

شراكات دولية

 

 

إلى جانب استثمارات المحفظة ودوره المحوري في إطلاق المشاريع الجديدة المندرجة ضمن برامج التحول الوطني ورؤية المملكة 2030، يعمل صندوق الاستثمارات العامة كمحرك لخطط الشراكة الاقتصادية والاستثمارية مع الدول المهمة للمملكة، إذ وقّع الصندوق في العام 2015 اتفاقاً مع صندوق الاستثمار المباشر الروسي لتنفيذ استثمارات مشتركة بقيمة 10 مليارات دولار، وأعلن الصندوق الروسي لاحقاً أن السعودية أدخلت إلى روسيا استثمارات بقيمة 2.5 مليار دولار، كما وقّع الصندوق في تشرين الاول/أكتوبر من العام نفسه اتفاقاً بقيمة ملياري دولار للتعاون في إنتاج الطاقة المتجددة ودعم الشركات المتوسطة والصغيرة مع فرنسا.

تكتسب جهود صندوق الاستثمارات العامة السعودي في بناء محفظة استثمارات خارجية أهمية كبيرة ليس بسبب حجمها، بل بسبب تحول الصندوق إلى لاعب قوي ومبادر في الأسواق الاستثمارية العالمية، وما سينجم عن ذلك من تصاعد دوره كقوة استثمارية وتنامي تجربته وفريقه الإداري. وتظهر المبالغ الإجمالية التي وجهها الصندوق لتنمية محفظته الاستثمارية أنها لا تزال تمثل جزءاً بسيطاً من موارده المالية، كما إن مبادرة مؤسسة النقد العربي السعودي إلى مد الصندوق بسيولة بلغت نحو 40 مليار دولار، تشير إلى أن القيادة السعودية ترى فرصاً واعدة عديدة في السوق نتيجة الأزمة التي تسببت بها جائحة كورونا وهي تريد استخدام ميزة الاحتياطات المالية المتوافرة لمدّ الصندوق بما يحتاجه من الموارد للإفادة من تلك الفرص.

ولا تتعارض سياسة دعم موارد صندوق الاستثمارات العامة مع السياسة الرسمية التي تفرض الحفاظ على مستويات معينة من الاحتياط الخارجي بهدف حماية مالية الدولة والنقد السعودي، كما إنها لا تتعارض مع وجود موارد كبيرة يحتفظ بها الصندوق للقيام بدوره الموازي لدوره الاستثماري وهو التحفيز المباشر للإقتصاد السعودي ودعم المشاريع الكبرى وخطط تنويع الاقتصاد.