لبنان وصندوق النقد الدولي: مفاوضات " بتراء " وأحجيات

  • 2020-05-17
  • 11:10

لبنان وصندوق النقد الدولي: مفاوضات " بتراء " وأحجيات

  • علي زين الدين

تكاد المفاوضات الرسمية بين لبنان وصندوق النقد الدولي أن تتحول الى أحجية، بفضل تقديم الأولوية المحاسبية في تقدير الفجوة المالية على "الخيارات" الإنقاذية. ويزيد في التعقيد "بلة" سوء التحضير المسبق الذي حجب خلفية الإجماع الوطني على الخطة الحكومية، فبدا الفريق اللبناني المفاوض ممثلاً لوجهة نظر آحادية تمثلها الحكومة في واد، وبدت كتل وازنة في المجلس النيابي وغالبية الهيئات الاقتصادية والبنك المركزي وجمعية المصارف في واد آخر. وفي التوصيف النموذجي هي مفاوضات "بتراء"، ما لم يتسع تمثيل الفريق اللبناني لمن يعنيهم الأمر ويقع على عاتقهم "الغرم".

ولن يكون عابراً في المآلات، "اعتكاف" حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عن "افتتاح" جلسات التفاوض وإن مثل الحاكمية بمندوبين من قبله، وربما "يمون" عليه الوسطاء للمشاركة في الجلسات التالية التي تنعقد عبر الفضاء المعلوماتي (فيديو كونفرانس)، وليس مرتقباً ألّا يسمع "جماعة" الصندوق الصوت العالي النبرة  للمصرفيين وجمعيتهم على تقديرات جمع الخسائر ومقترحات الحكومة لتوزيع أحمالها على البنك المركزي والمصارف، فيما المعادلة الحقيقية ساطعة بين مدين متعثر بنحو 93 مليار دولار  وهو الدولة اللبنانية، وبين دائن محاصر بحبس مدخراته التي تدنت دون 150 مليار دولار حالياً وهو المودع المقيم وغير المقيم.

الدولة تنزلق إلى توزيع الخسائر على "المركزي" والمصارف

تقدر الدولة الفجوة المحققة بنحو 241 تريليون ليرة، ثم تفترض خفض سعر الصرف إلى 3500 ليرة لكل دولار في مرحلة اولى وبلوغاً إلى 4300 ليرة بعد ثلاث سنوات، وهي إذ تتنصل من موجبات ديونها، فإنها تنزلق فوراً إلى توزيع الخسائر على البنك المركزي والمصارف بما يحوزونه من رساميل وأصول قابلة للتسييل على غرار المحافظ العقارية، ليأتي بعدهما الاقتطاع من ودائع الناس مرة لتغطية "فائض" الخسائر ومرة لإعادة رسملة البنوك، وطوراً يطول الاقتطاع ممن تزيد ودائعهم على 100 ألف دولار، وطوراً يرتفع الحد إلى 500 ألف دولار، وفي الحالين وعد بصناديق سيادية للتعويض في بلد يعجز عن إقفال ملف تعويضات مهجري الحروب من ثلاثين عاماً.

في قراءة خاصة لـ "أولاً-الاقتصاد والأعمال" ينبه مرجع مالي إلى أن الإصرار على فرض مقدمات خاطئة سيأتي حكماً بنتائج مطابقة. فالحكومة تفترض أن خيار إطفاء الجزء الأكبر من ديونها عبر تحميله للدائنين وخفض كتلة الدين إلى أقل من 100 في المئة من الناتج، هو السبيل الأسهل للحصول على برنامج دعم مالي من الصندوق وإنعاش مقررات مؤتمر "سيدر" لاحقاً، لكنها تسقط "عمداً" قواعد السلوك السليم للدول وحفظ السمعة في الأسواق الدولية، في وقت ترنو فيه إلى الاستحصال على قروض جديدة من هذه الأسواق وجذب مستثمرين استراتيجيين للمساهمة في البنوك "الصامدة" والبنوك الخمسة التي تقترح تأسيسها بهياكل جديدة لاستقطاب عملات صعبة "طازجة" Fresh Money.

ولا تقف الخطة عند هذا الحدّ، فالحكومة صنّفت محفظة ديونها بكاملها بالليرة وبالعملات كخسائر فورية محققة، بينما هي حقيقة موزعة على آجال بعيدة. وكان من الأجدى أن تبادر الى تجميد "خدمة" الدين لسنوات محددة (5 سنوات مثلاً)، يتم التفاوض في شأنها مع الدائنين، فترفع تلقائياً العبء الثاني حجماً على الموازنة بعد بند الأجور والمخصصات للقطاع العام، وهو باب لحوار إصلاحي مكمل مع صندوق النقد، أيضاً كان عليها المبادرة ومن دون أي تأخير في وضع مشكلة الكهرباء وفجواتها على مشرحة العلاج الإصلاحي الفعلي، وتحرر المالية العامة من الوزن الثالث الثقيل.

المودع قد يدفع الأثمان مضاعفة

وفي مقاربة التوزيع، يبدو أن المودع الذي تستهدف خطة التعافي إنقاذه وتخليص مدخراته من "براثن" المصارف، سيدفع الأثمان مضاعفة كونه "المقرض" الأخير للدولة فيما تتنصل الحكومة مسبقاً من أي مسؤولية في تغطية الفجوة. يقول المرجع المالي: ما هو المنطق الذي احتكمت إليه الشركة الاستشارية وحشد الخبراء في السراي والوزارات في قياس عمق البئر واجتراح الحل بردمها؟. فإذا صح القياس، وهو أمر مشكوك فيه نظير التقدير بالليرة وبسعرين متناقضين للدولار ما بين 1500 و3500 ليرة، فكيف يصح أن تسحب الدولة مياهها وتبتكر العلاج باقتراح طمرها وتحميل كلفة الردم لمن ضخ المياه فيها سابقاً، عوض أن تتحمل مسؤولياتها لوصف العلاج الشافي بتركيز التوجهات والجهود على اعادة تعبئة البئر الجافة؟

عموماً، ترمي الحكومة جزءاً من الأحمال إلى البنك المركزي بعد أن احتسبت خسائره ضمن خسائر الدولة، وهي عملية محاسبية لا تتفق مع تقييم البنك المركزي الذي سيتقدم، وفق معلومات توفرت إلى "أولاً-الاقتصاد والاعمال"، بتحديد صريح يزوده للحكومة وللصندوق يبين بنود ميزانيته من الموجودات والمطلوبات ولكيفية ادارتها وفق المعايير المحاسبية ذات الخصوصية لميزانيات البنوك المركزية، وبما يشمل ادارة المستحقات الموزعة على آجال طويلة ومعظمها مكتتب به من قبل المصارف المحلية.

وترمي الحكومة الجزء الآخر من الأعباء على القطاع المصرفي الذي تحمل الدفعة الأولى بنحو 12 مليار دولار عقب تعليق دفع مستحقات سندات الدين الدولية (اليوروبوندز)، وفي المضمون: الناس أودعوا مدخراتهم في البنوك، وهي وزعت أغلبها بين توظيفات في المركزي وتمويل للدولة، والبنك المركزي وجه التوظيفات لتغطية مصاريف الدولة وعجوزاتها المسنودة بمراسيم وقوانين موازنة، والحصيلة دين حكومي ربما يفوق فعلياً نحو مئة مليار دولار في حال احتساب مستحقات قائمة لمصلحة الضمان الاجتماعي ومقاولي الأشغال العامة والمستشفيات وسواها، وتوظيفات لدى المركزي تقارب 70 مليار دولار، أما المودع فيستجدي دولاراً لا توفره المصارف وليرة تطير في مهب المضاربات وتضخم الأسعار، وقلبه على "جنى العمر" المهدد بالتبديد والضياع.

ماذا عن سعر الصرف ومرجعيته؟ وماذا عن ضرورات الانسجام بين السلطتين النقدية والتنفيذية؟ وماذا عن سد ثقوب التهريب والفساد وإعادة هيكلة القطاع العام؟ وماذا عن إنشاء مصارف جديدة وإعادة هيكلة المصارف العاملة؟

هذه عينة من تساؤلات كبيرة ومحورية لن تقتصر الإجابات عليها على الفريق اللبناني المفاوض، فأهل الصندوق يعرفون بلدنا جيداً، بل أكثر مما نتصور كما يقول المرجع المالي، ولكل بند وقائعه ومقترحاته في قراءة متواصلة ...