إنها مصارف لبنــان والعرب

  • 2020-05-05
  • 11:05

إنها مصارف لبنــان والعرب

  • غسّان العيّــاش

انتظر اللبنانيون بكثير من الاهتمام انعقاد مجلس الوزراء في اليوم الأخير من شهر نيسان/أبريل الماضي، للاطّلاع على الصيغة الأخيرة للخطّة الاقتصادية للحكومة اللبنانية. فاللبنانيون يعتبرون هذه الخطة بمثابة الفرصة الأخيرة لإنقاذ لبنان من الأزمة المالية والمصرفية غير المسبوقة التي انزلقت إليها البلاد. 

ليس هذا فحسب، بل إن الخواطر كانت مشحونة بالقلق، لأن الصيغ التي تسرّبت قبل الإعلان الرسمي عن الصيغة النهائية للخطّة تضمّنت معلومات وسيناريوهات خطيرة، خصوصاً في ما يتعلّق بواقع ومستقبل النظام المالي في لبنان. آخر الأوراق المسرّبة تضمّن تقديراً لخسائر النظام المالي تبلغ نحو 83 مليار دولار، أي ما يعادل 150 في المئة من الناتج المحلي القائم، قبل أن يهبط الناتج بحدّة إلى أرقام لا نعرفها بعد، بحكم الانكماش الشديد الناجم عن الأزمة.

المصدر الآخر للقلق هو ما أوحت به الأوراق الأولى عن نيّة الحكومة تحميل هذه الخسائر الجسيمة للقطاع المصرفي وحده، تقريباً، فتتبخّر كل رساميل المصارف البالغة 20 مليار دولار، ويتمّ تأمين رصيد الخسائر البالغ 63 مليار دولار من خلال تحميله للشرائح الوسطى والعليا من المودعين، بواسطة ما عرف بــ "الهيركات".

جاءت الصيغة النهائية للخطّة الحكومية التي أُعلنت في أعقاب جلسة مجلس الوزراء أدهى وأقسى من كل الأوراق التي تسرّبت من قبل، إذ تضاعفت فيها الخسائر المفترضة للنظام المالي، فبلغت تقديرات خسائر إعادة هيكلة الدين العام 48 مليار دولار، والخسائر المتراكمة في ميزانية مصرف لبنان 44 مليار دولار، وخسائر المصارف المقدّرة على محافظ التسليفات للقطاع الخاص 27 مليار دولار، يضاف إلى كل ذلك مبلغ 41 مليار دولار يمثّل خسائر صافية في ميزانية مصرف لبنان والمصارف بسبب تدنّي قيمة العملة اللبنانية إلى 3500 ليرة.

وعلى الرغم من مضاعفة تقديرات الخسائر، أظهرت الحكومة تصميماً على تحميل القسم الأكبر من الخسائر الضخمة إلى المصارف اللبنانية عبر المودعين والمساهمين، مع استعداد الدولة للمساهمة المحدودة وغير الواضحة ببعض أملاكها ومرافقها.

هذا التوجّه هو قرار واع من الدولة باغتيال القطاع المصرفي اللبناني، بكلّ تاريخه العريق الذي يمتدّ إلى 170 سنة، يوم أجازت الدولة العثمانية لمتموّلين أوروبيين بتأسيس "البنك العثماني"، الذي أنشأ سنة 1850 فرعاً له على مقربة من مرفأ بيروت.

منذ ذلك التاريخ، وخصوصاً منذ تأسيس الجمهورية اللبنانية في مطلع عشرينات القرن الماضي، بقي القطاع المصرفي يساهم في تمويل الاقتصاد اللبناني وازدهاره، ويدعم صموده في وجه النزاعات والحروب والاجتياحات التي شهدتها البلاد.

الدولة مسؤولة عن المصير الذي وصل إليه الاقتصاد، بامتناعها عن خلق اقتصاد منتج قادر على تأمين الحياة الكريمة للجيل اللبناني الراهن وللأجيال المقبلة، وهي مسؤولة بصورة خاصّة نتيجة إخفاق سياستها المالية وتوالي عجوزات الموازنة التي راكمت جبل الدين العام.

الدولة مسؤولة كمؤسّسة قانونية، وكمسؤولين سيطروا على السلطة وغلّبوا سياسات الهدر والفساد وأهملوا مطلب الإصلاح. وبدل أن تتحمّل الدولة مسؤولية الكارثة التي حلّت بالبلاد عن طريق تجنيد أملاكها لردم الهوّة المالية الضخمة، قرّرت بدم بارد اغتيال نظام لبنان المالي، وتحميله وحده ثمن الانهيار.

التعدّي على حقوق المساهمين والمودعين في المصارف له مفاعيل عدة بالغة السلبية، بالنسبة إلى حاضر الاقتصاد اللبناني ومستقبله، يكفي أنه يزعزع الثقة بنظام لبنان المالي والمصرفي والنقدي، كما إن جانباً أساسياً من الموضوع أهمله المحلّلون ولم يتنبّهوا إليه، وهو أن تخصيص القطاع المصرفي بهذا الأذى المتعمّد يعني ضرب أحد الجسور القليلة المتبقيّة بين لبنان وبيئته العربية.  

فقد كان العرب دائماً شركاء للبنانيين في مؤسّساتهم المصرفية، وقد تراوحت هذه الشراكة ما بين حدّ أقصى وحدّ أدنى، بحسب أوضاع لبنان، لكنها لم تغب مطلقاً حتى في أسوأ الظروف، فقد لبّى المستثمرون العرب الدعوات إلى الاكتتاب في رساميل المصارف، وفي الإصدارات الأخرى، كما شكّلت الودائع العربية جزءاً مهمّاً من ودائع القطاع المصرفي في لبنان.

لقد وثقوا بمزايا لبنان الاقتصادية، واعتبروه واحة للحرية والاستقرار ولاحترام الملكية الخاصّة، ولحماية الرساميل وحقوق أصحابها. فإذا بهم يُصدمون، تارة بالقيود على انتقال الأموال وتحويلها وطوراً بحلّ جزء من مشكلة لبنان عن طريق الاقتطاع من الودائع، أو تغريم أصحاب الأسهم في المصارف، وبينهم الكثيرون من العرب.

السياسة أخرجت لبنان من بيئته العربية الطبيعية. فسياسة لبنان الخارجية تتنكّر منذ سنوات للقواعد التقليدية في علاقات لبنان العربية، فتستبدل التضامن الكامل مع الدول الشقيقة بسياسة تدّعي الحياد بين العرب وأخصامهم، في إحدى أسوأ المراحل من تاريخ المنطقة.

وكأن السياسة الاقتصادية تلتقي الآن مع السياسة الخارجية فتهدّد آخر الجسور التي تربط لبنان بالعرب، من خلال الإضرار بالاستثمارات العربية في القطاع المصرفي اللبناني.

 

غسان العيّاش: نائب حاكم مصرف لبنان سابقاً