الأستاذ "كورونا" يعيد صياغة مستقبل التعليم

  • 2020-04-24
  • 13:21

الأستاذ "كورونا" يعيد صياغة مستقبل التعليم

الفيروس القادم من الصين يقلب المعادلة: أطلبوا العلم ولو في المنزل

  • سليمان عوده

فرضت أزمة كورونا على معظم المؤسسات التعليمية إغلاق أبوابها، وحتمت اللجوء إلى تدابير استثنائية منها التعليم عن بُعد لضمان استمرارية تقديم المناهج الدراسية المقررة، وسد أي فجوة تعليمية قد تنجم عن تفاقم الأزمة. وبدخول التعليم عن بُعد حيز التطبيق العملي، برز تفاوت في جهوزية بلدان المنطقة على مستوى التعليم المدمج. ففي حين أظهر بعضها استعداداً نسبياً مقبولاً لخوض التجربة الافتراضية الجديدة، اعترضت عوائق عدة سبيل بلدان أخرى. كذلك، ظهر تفاوت في الجهوزية داخل الجسم التعليمي في كل بلد على حدة، ولا سيما بين القطاعين العام والخاص. 

حتمت هذه الوقائع فتح باب النقاش على مصراعيه، عربياً، لدرس ما يتعلق بمدى جهوزية المؤسسات التعليمية لإطلاق التعليم عن بعد، سواء لناحية توافر البنى التحتية المناسبة من منصات الحوسبة وغرف التدريس الافتراضية، أو لناحية تأهيل الجسم التعليمي وتمكينه من خوض غمار التكنولوجيا الرقمية في التعليم، أو لناحية الاستثمار في المنصات التعليمية. كذلك، برز دور لذوي الطلاب، خصوصاً أن التعليم عن بعد يفرض أن يكون هؤلاء أكثر انخراطاً في العملية التعليمية بأكملها. 

يلاحظ مات جايمس، مدير قطاع التعليم في ديلويت الشرق الأوسط، أن أزمة كورونا فرضت عبئاً ثقيلاً على كاهل قطاع التعليم، فأربكت خططه المرحلية، وفرضت تعديلات جذرية على أدائه. يقول: "شهدنا انتقالاً فجائياً وسريعاً من التعليم التقليدي إلى التعليم المدمج، ولم يتسن للمؤسسات التعليمية، في خضم سرعة تفشي جائحة كورونا، الوقت الكافي لكي تستكمل استعداداتها لإجراء انتقال مرحلي سلس ويتسم بالمرونة". 

وقد لا تكون تأثيرات مثل هذا التحول الفجائي قصيرة المدى، إذ يتوقع جايمس أن تبدل الأزمة الراهنة مشهد التعليم كاملاً. يقول: "أظهر قطاع التعليم أنه من القطاعات القليلة القادرة على التكيف مع التحولات التي فرضها كورونا، وذلك باستخدام التقنيات الحديثة، لذا، فالعودة إلى التعليم التقليدي لن تكون خطوة مقنعة مستقبلاً في ظل توافر القدرة على نقل المحتوى التعليمي إلى الطلبة عن بعد من دون إلزامهم بالقدوم إلى المدرسة. كذلك، فرضت الأزمة على ذوي الطلبة أن يلعبوا أدواراً أكثر فاعلية في مجمل العملية التعليمية، وستظل تأثيرات مثل هذا التحول ماثلة في المستقبل". 

فجوة رقمية

ليس التعليم عن بُعد وليد أزمة كورونا، فالطفرة التكنولوجية التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة "جعلت تعميم برامج التعليم المدمج أمراً ممكناً على المستوى العملي، وقد شهدنا على مدار العقود الثلاثة الماضية أمثالاً عدة عن هذا التوجه"، بحسب ما يؤكد آندي فيليبس، الرئيس التنفيذي للعمليات في جامعة ولونغونغ في دبي. أما التحول الذي فرضته جائحة كورونا، فيتمثل في أنها سرعت تبني التعليم عن بُعد في محاولة للحد من تفشي المرض. وإذا كان العالم بعد كورونا سيكون مختلفاً عما قبله، فإن التعلم المدمج قادر على جمع أفضل ما في العالمين، فبإمكان تقنيات التعليم عن بُعد، طبقاً لفيليبس، أن تجمع بين المواد التعليمية عبر الإنترنت وإمكانية التفاعل المباشر التي تتمتع بها الصفوف الدراسية التقليدية. ويختصر ذلك على الطلبة جهداً ووقتاً ثميناً كان ليضيع في التنقل والاستعداد لحضور الحصص الدراسية، بحيث يمكنهم استثمار هذا الوقت في تعميق تجربة التعلم، وجعلها أكثر غنى. كذلك، فإن منصات التعليم الإلكتروني لا تلغي المسافات فحسب، بل تتيح للطلبة أن يعيدوا مراراً وتكراراً محتوى المحاضرات، وبالتالي الحصول على أقصى فائدة ممكنة منها. بذلك، يتحقق الهدف الأول لعملية التعلم، وبما يؤهل الطلبة لسوق العمل الذي بات يعتمد على التواصل الإلكتروني أكثر من أي وقت سابق. 

وفي حين شابت أوجه قصور عدة الانعطافة الحادة والنوعية نحو التعليم عن بُعد، إلا أن المؤسسات التعليمية استطاعت أن تجتاز الامتحان الأولي بنجاح. يُسجل الدكتور جمال مجاهد، المسؤول عن قسم الإعلام في جامعة بيروت العربية، أن استجابة الأنظمة التعليمية للتحدي الذي فرضته جائحة كورونا كان إيجابياً على العموم. يقول: "سجلت هذه الأنظمة تحركاً سريعاً بهذا الاتجاه، فبادرت إلى تبني تقنيات التعليم عن بُعد، واستطاع الجسم التعليمي أن يتكيف مع المستجدات، وكذلك فعل معظم الطلاب". لكن مجاهد يلاحظ أن ذلك لا يلغي حقيقة أن تحديات عدة ما زالت تقف عائقاً أمام هذه التجربة، من أبرزها "عدم وجود ثقافة التعليم عن بعد، فهي غائبة عند الأغلبية، وتغييرها يحتاج إلى وقت. أيضاً، تبرز تحديات أخرى ذات صلة بالمواد التي تعتمد على التدريب العملي، فضلاً عن التحديات المرتبطة بالبنية التحتية". 

وتمثل الفجوة الرقمية بالتحديد تحدياً رئيسياً للتعليم عن بعد عربياً. يقول الكاتب والمحلل الاقتصادي السعودي طارق الماضي إن التحدي التقني يمثل العقبة الرئيسية التي تواجه التحول نحو التعليم المدمج راهناً. يتمثل ذلك في "غياب شبكة الإنترنت أو ضعف البنية التحتية للاتصالات والإنترنت في بعض المناطق العربية". يضيف: "هناك فجوة رقمية كبيرة في المنطقة. فالعالم العربي شاسع المساحة، ولا تتمتع كل بلدانه ببنية جيدة لتشغيل التقنيات التعليمية من خلال شبكة إنترنت ضعيفة أو اتصالات ضعيفة". فضلاً عن ذلك، يقول الماضي إن "العديد من الأنظمة التعليمية في العالم العربي لم تكن تولي علوم الحساب الآلي والإنترنت أي أهمية، ولم تدرجها في العملية التعليمية منذ بداية التعليم، وبعضها كان ينظر إلى علوم الحاسوب من زاوية ترفيهية، وليس باعتبارها مهارة ضرورية جداً، وقد أثبت فيروس كورونا الآن أنها أهم من كثير من المواد التعليمية الأخرى". 

تذليل الصعوبات

كيف يمكن تذليل الصعوبات التي تعيق عملية التعليم عن بعد في العالم العربي؟ يقول جايمس من ديلويت إن تعزيز أداء قطاع التعليم المدمج والخروج به من ضرورات الاستجابة لتحدي كورونا إلى أداء أكثر استدامة يتطلب عملاً دؤوباً من أكثر من طرف. يقول: “ثمة في البداية بعد قانوني للموضوع، يتمثل في وجوب إعادة النظر في السياسات التربوية الناظمة للقطاع بشقيه الرسمي والخاص في العالم العربي، والتي بات يتعين أن تتضمن بنوداً تسمح للطلاب باختيار التعليم عن بعد كوسيلة للتعليم، من دون أن يعيق ذلك ترفيعهم أو انتقالهم من نظام تعليمي إلى آخر. كذلك، يجب السماح للتلاميذ، خصوصاً من غير المقيمين في بلدان مجلس التعاون الخليجي، بمتابعة الحصص الدراسية من بلدانهم الأصلية". وتكتسي النقطة الأخيرة أهميتها انطلاقاً من حقيقة أن الغالبية الساحقة من الطلاب في بعض بلدان الخليج العربي هي من المقيمين لا المواطنين. أما بالنسبة إلى برامج التدريس، فيؤكد جايمس وجوب تصميم محتوى تعليمي عن بعد يناسب واقع وتطلعات البلدان المعنية، مع ما يتطلب ذلك من تطوير نظم محلية لقياس الأداء الدراسي، وإيجاد أدلة للتدريس توضع في تصرف المعلمين والمعلمات. 

في الشق التنظيمي، يرى جايمس وجوب "وضع قواعد بيانات ونظم قياس وملاحظة ومتابعة وتحليل للأداء، تتعلق بالعملية الدراسية ككل وبأداء الجسم التعليمي، فضلاً عن إيجاد منهجية لتلقي الملاحظات من مثلث العملية التعليمية، أي الأساتذة والأهل والطلاب". في المقابل، يبرز وجوب تدريب الجسم التعليمي وإيجاد شبكة مهنية تربط بين أعضاء هذا الجسم، فضلاً عن توثيق الروابط بين المدارس. في مقابل ذلك، يرى جايمس وجوب إرشاد الأهل حول دورهم في العملية التربوية، وتدريبهم على القيام بهذا الدور، ودعم إنشاء شبكة تربطهم، فضلًا عن تمتين العرى بين الأساتذة والأهل. 

بدوره، يعتقد فيليبس أن تدخل الدولة أمر ضروري على مستويات متعددة، يتمثل أولها في وجوب تنظيم عمليات الاستثمار في تقنيات التعليم المدمج، وبما يشمل تقنيات البث الحي والتطبيقات، فضلًا عن منح جميع الطلاب القدرة على الوصول إلى الإنترنت وأجهزة الكمبيوتر. وفي حين يرى أن قياس الفائدة التي يجنيها التلاميذ من العملية التعليمية عن بعد أمر غير متاح إلا بعد انتهاء العام الدراسي الحالي، يضيف أن العناصر الرئيسية التي يجب أن تؤخذ في الحسبان تتعلق بالقدرة على تحفيز التلاميذ، وتهيئة الأهل لمواكبة العملية التعليمية عن بعد، وتهيئة المعلمين والمعلمات لهذه العملية، مع وجوب التأكد من أن تكون البيئة التكنولوجية المواكبة لهذه التحولات داعمة ومستدامة. 

مستقبل واعد 

لا يغيب الكثير من هذه الحقائق عن الهيئات المعنية بتطوير قطاع التعليم في المنطقة. يتوقع تقرير أصدرته مؤسسة دبي للمستقبل أن تسارع الحكومات إلى إقرار لوائح تنظيمية ومنصات جديدة لاستيعاب الطلب المرتفع على التعلم عن بعد، وذلك بالتوازي مع بدء الهيئات التنظيمية في قطاع التعليم بإجراء تغييرات عدة في التعليم التقليدي عبر تطوير حلول مبتكرة تشمل تدريب الآباء على التدريس، لتغيير الأنظمة بصورة استباقية بدلاً من الاستجابة للظروف غير المتوقعة. وبين التقرير أن زيادة الاعتماد على أنظمة التعلم خارج الفصول الدراسية ستسهم بتعزيز مشاركة الطلاب وأسرهم في تصميم أدوات التعلم ومناهج التدريس، وستستفيد الشركات الناشئة في مجال تقنيات التعليم نتيجة لتوجه أعداد كبيرة من الطلاب إلى التعلم عبر الإنترنت، وفي الوقت ذاته، ستتغير الرسوم المستحقة للمدارس ومطوري البرامج ومقدمي المناهج الدراسية عبر الإنترنت كثيراً، خصوصاً في النظم التعليمية التي تدفع فيها الأسر الرسوم المدرسية، وقد تحتاج المدارس إلى مساحة أقل حين تستخدم أفواج الطلاب مرافق المدرسة بنظام التناوب. كذلك، يتوقع التقرير انطلاق حوار عالمي أوسع انتشاراً للاعتراف بجدارة منصات التعليم عبر الإنترنت والمؤهلات والمهارات التي يتعلمها الطلاب بالاعتماد عليها. ويرجح التقرير أن تصبح أنظمة التعليم عن بعد أكثر تخصصاً في المستقبل، وأن تركز على الاحتياجات والاهتمامات المحددة لكل طالب.