خلافة حاكم في بلد بلا حكم !

  • 2023-07-03
  • 14:00

خلافة حاكم في بلد بلا حكم !

صانع القرار النقدي يختتم 30 عاماً في مصرف لبنان

  • علي زين الدين

بدأت مطلع شهر تموز/يوليو رحلة العد العكسي لانتهاء آخر ثلاثين يوماً من الولايات الخمس القانونية والمتمدّدة على مدى 30 عاماً لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وسط ترقب قلق في أوساط القطاع المالي وأصحاب الحقوق في الجهاز المصرفي في شأن إدارة المرحلة الانتقالية وسط التفاقم المستمر للأزمتين المالية والنقدية تحت ظلال الفراغات المتفشية في السلطات الدستورية وانكفاء حضور الدولة وإداراتها.

 

 

تداعيات محتملة 

 

وقد فرض ارتفاع منسوب الهواجس الداخلية من التداعيات المحتملة على القطاع المالي جراء احتدام معركة الاستحقاق الرئاسي وما تشهده من انقسامات عامودية سياسية وطائفية، إيقاعه الخاص لدى مراكز القرار المالي والمصرفي، ولاسيما لجهة تكثيف الجهود الوقائية والهادفة إلى درء المخاطر القائمة والمرتقبة، ربطاً باحتمالات تكوين محفزات مستجدة لنشوء فوضى نقدية كبيرة تطيح تماماً بالاستقرار الهش الذي تشهده اسعار صرف الليرة.

 

هدوء نقدي 

 

لكن، وبمعزل عن وقائع تكثيف الضبابية التي تظلل استحقاقات إعادة انتظام السلطات انطلاقاً من التمادي بتأخير حسم استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ينجلي الهدوء النقدي، بشكل مثير، في أسواق القطع في لبنان، وسط غياب مشهود لتأثير مسار الاوضاع الداخلية الملتبسة على استقرار أسعار الصرف الفعلية وتقلّباتها اليومية، وبموازاة التقلص الصريح في فوارق تسعير الدولار الأميركي ازاء الليرة بين ردهات الصرافين ومنصة صيرفة التي يديرها البنك المركزي.

 

حسم "الخلافة" 

 

ربطاً، تترقب الأوساط المالية والعامة حسم "خلافة" حاكم مصرف لبنان سلامة بين الاحتمالات المحدودة المتاحة أمام الحكومة للحؤول دون بلوغ مرحلة الشغور في رأس هرم السلطة النقدية، وتوخياً للحفاظ على التهدئة السارية في اسواق العملات والاستهلاك في ظل تنامي حدة الخلافات والاصطفافات السياسية المتصلة باستحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية.

 

جمعية المصارف والحسم المبكر  

 

وتوازياً، شهد القطاع المالي حسماً مبكراً لاستحقاق انتهاء ولاية مجلس ادارة جمعية المصارف بنهاية الشهر الماضي، بعدما افضت المشاورات الى بلورة توافق عريض وشبه اجماع على تعديل النظام الاساسي، بما أتاح التمديد للمجلس الحالي برئاسة الدكتور سليم صفير، وتجنيب القطاع الدخول في "بازار" انتخابي لا طائل منه في ظل الظروف الحاضرة.

وبالفعل، يستمر التداول وبزخم في كواليس مراكز القرار النيابي والحكومي، والهادف الى استنباط مخارج عملانية تؤول الى تحييد القطاع المالي عن الخضات السياسية القائمة حالياً او المرتقبة، ومن دون تجاوز روحية الآليات القانونية السارية، وذلك بالاستناد الى قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات"، وأولوية حماية هدوء الأسواق النقدية والاستهلاكية، طالما يتعذّر التقدم نحو محطة التوافق الداخلي في شأن الاستحقاق الرئاسي. 

 

ماذا يقول القانون؟ 

 

ووفق المعطيات المتوفرة، فإنه مع تعذّر تعيين البديل على رأس السلطة النقدية من قبل حكومة "تصريف أعمال"، فإن الخيار الأول والمرجح في احوال عادية، يرد صريحاً في قانون النقد والتسليف (المادة 25)، ويقضي بانتقال الموقع والمهام حصراً الى نائبه الأول الدكتور وسيم منصوري، وهو إجراء تحوّطي يقوم اساساً على حصول شغور "مؤقت" أو غياب قسري للحاكم الأصيل، ويتيح المهلة الضرورية لتمكين الحكومة المكتملة الصلاحيات من اصدار مرسوم التعيين.

وبحال لم تطرأ تطورات مغايرة للمعطيات الحالية، فإن منصوري والذي يشغل منصبه الحالي كنائب أول للحاكم منذ 3 سنوات ضمن ولاية تمتد حتى شهر حزيران/يونيو 2025، سيتولى كامل مسؤولية الموقع بعد "زوال" التحفظات. وكل الدلائل تشير إلى أن عملية التسلم والتسليم تجري بسلاسة، وبنمط متدرج وهادىء بدأ بالفعل وسيستمر حتى حلول موعد الشغور، ارتكازاً على التعاون القائم والظاهر بين شخصيّ الخلف والسلف وحرصهما المشترك على انسياب العمل والمهام بشكل نظامي واعتيادي في كل مرافق السلطة النقدية ومكوناتها المؤسساتية.

ووفق مصادر معنية ومتابعة، فإن منصوري المتخصص بالقانون (دكتوراه في تخصص القانون الدستوري من جامعة "مونبيليه 1" في فرنسا)، والحائز على خبرات في الادارة المالية، يحبّذ ادارة الموقع ومسؤولياته بعقلية فريق العمل، وسيترجم ذلك بحصر القرارات النقدية المفصلية بالمجلس المركزي، وبالتنسيق الصريح والتام مع نظرائه النواب الثاني والثالث والرابع، بشير يقظان وسليم شاهين والكسندر موراديان، ولاسيما في ظل الأزمات الصعبة والمعقدة التي تعانيها البلاد على كل الصعد، وحساسية الاستحقاقات والمسؤوليات التي تحاصر القطاع المالي ومؤسساته على مستويي السلطة النقدية والجهاز المصرفي.

 

تحرك استباقي

 

لكن حساسية الاوضاع القائمة في الميدان المالي والنقدي، تفرض التحرك الاستباقي لتلافي تبعات المرحلة الانتقالية الذي سيجري تحت ظلال الارباكات الداخلية والغموض السياسي غير البناء. ولذا، ثمة قناعات سياسية وتتمدّد ايضاً الى الاوساط المالية والمصرفية، بأنه ليس بوسع النائب الأول منفرداً في ظل ازمة متفلتة وغير مسبوقة حمل ثقل الموقع والمهام التي ستوكل اليه، ولاسيما ان سلامة يتسلّم قيادة البنك المركزي والقرار النقدي منذ ثلاثين عاماً بالتمام والكمال. 

ووفق السيناريو البديل، تركز الاقتراحات المتداولة، والتي يرتقب اعتماد احدها خلال الاسبوعين المقبلين، على خيارين أساسيين يخصّان وضعية حاكم البنك المركزي. فإما يستمر التعاون معه "استشارياً" في إدارة المرحلة الانتقالية، وإما تضطر الحكومة، في حال امتناع منصوري لأي سبب، الطلب من سلامة الاستمرار في مهامه الى حين تعيين حاكم جديد.

وتبرز أهمية موقع الحاكم، نظير أوسع الصلاحيات الممنوحة له قانوناً ليس بادارة المصرف العامة وتسيير اعماله فحسب، إنما ايضاً بتكليفه، ومن دون طابع حصري بتطبيق مندرجات قانون النقد والتسليف، وهو الممثل الشرعي للبنك المركزي، ويوقع باسمه جميع الصكوك والعقود والاتفاقات، ويجيز اقامة جميع الدعاوى القضائية، ويتخذ جميع الاجراءات التنفيذية او الاحتياطية التي يرتئيها بما في ذلك التأمينات العقارية، كما ينظّم دوائر المصرف ويحدد مهامها، ويعيّن ويقيل موظفي المصرف من جميع الرتب.

 

هدوء النقد

 

في الأثناء، تتوافق التوقعات في الأوساط المالية والمصرفية على استمرارية العمل بمنصة "صيرفة" التي يديرها البنك المركزي، بعدما أرست بالتجرية الأحدث للتدخل المباشر منذ 21 آذار/مارس الماضي، إمكانية تحييد سعر الصرف عن ضغوط الارباكات الداخلية واستعادة الدور المحوري للسلطة النقدية في إدارة السيولة وتدفقاتها عبر تحديد هوامش شبه مستقرة للتقلبات في سعر العملة الوطنية، وأيضاً بين سعري المنصة البالغ حالياً نحو 86 الف ليرة والمبادلات في الأسواق الموازية التي تراوح ما بين 92 و93 الف ليرة لكل دولار. 

وبينما لا يزال هدف استعادة "الاستقرار" النقدي بعيد المنال في ظل تواصل هزات الأزمات الداخلية بكل تشعباتها، يبدو، بحسب مصادر مالية ومصرفية معنية، أن الفصل الساري حالياً بين مساري ضبط الفوضى النقدية وتعميق الغموض السياسي، يحظى بتغطية كافية من قبل مراكز القرار في السلطتين التشريعية والتنفيذية، وعبر الدعم الضمني للتدخل الأخير للبنك المركزي عارضاً بيع الدولار النقدي المفتوح لصالح الأفراد والشركات عبر منصة صيرفة، والمستمر، بخلاف سوابقه، للشهر الرابع على التوالي.

وفي تتبع المعطيات المؤثرة، لوحظ ان تلبية طلبات الشراء لم تتأثر بارتفاع متوسطات التداولات على المنصة بما يتعدّى 150 مليون دولار يومياً، ممّا يرجّح متانة قرار "الاستمرار" بالتدخل من قبل المركزي، وذلك بمنأى عن التأثيرات الجانبية، سواء منها الآنية ذات الصلة بالملفات القضائية الداخلية والأوروبية التي تخص الحاكم رياض سلامة، او الآجلة نسبياً والمرتبطة بانتهاء الولاية القانونية الخامسة للحاكم عينه بنهاية الشهر المقبل. 

 وتساهم مؤشرات جديدة محققة ومرتقبة في ترسيخ دور المنصة كسوق رئيسية للمبادلات النقدية، مما يؤكد التوقعات بمواصلة العمل بآلياتها بعد حسم ملف الحاكمية، كذلك التطلّع الى امكانية استثمار مزاياها في بلورة سياسية نقدية جديدة تبدأ بتوحيد تشكيلة اسعار الصرف ومعالجة ما افرزته من تشوهات عميقة ومؤذية لاستهداف الانقاذ والتعافي في "العهد" الجديد.

ويمثل البون الشاسع بنسبة تقارب 6.3 اضعاف، بين سعر الصرف الرسمي البالغ 15 الف ليرة للدولار الواحد، والسعر المتداول في الاسواق الموازية النقدية والاستهلاكية البالغ نحو 92 الف ليرة، العقدة الأكثر استعصاء التي تواجه مركز القرار النقدي في المرحلة المقبلة، ولا سيما لجهة ما تفرزه من معطيات محاسبية خاطئة في اعتماد السعر غير الواقعي ضمن ابواب الموجودات والمطلوبات في الموازنة العامة وميزانيات القطاع المالي (بنك مركزي جهاز مصرفي ومؤسسات مالية)، فضلاً عن الاجحاف الكبير بحق أصحاب الحسابات بالدولار لدى البنوك، والذين يجري فرض السعر على سحوباتهم الشهرية المتاحة، وتحميلهم اقتطاع نحو 84 في المئة من اصل المبلغ الدفتري.