لبنان يجدّد الليرة بثياب بالية

  • 2023-01-24
  • 12:33

لبنان يجدّد الليرة بثياب بالية

فراغات الدولة والمضاربات والشبهات تجهض المبادرات النقدية

  • علي زين الدين

​ 

ثبت بالقرائن الموضوعية والدلائل السوقية عقم المبادرات الوقائية التي يكررها مصرف لبنان في ظل الفجوات المشهودة التي تسيطر على حضور الدولة، مجسداً بواقع الشلل التشريعي والتنفيذي في منظومة الحكم تحت مظلة الشغور في موقع رئاسة الجمهورية. فسريعاً، أفضت التجربة "المستنسخة" بعد اسبوعي عمل على اطلاقها، إلى نتيجة حاسمة تؤكد انعدام فعالية أي إجراءات تقنية تستهدف أسعار الصرف، ما لم تستند إلى تبدلاّت حاسمة في الأجواء الداخلية القاتمة التي تتكفل، وحتى إشعار آخر، بتعظيم شتى المخاطرالسيادية.

إقرأ أيضاً:

لبنان يتوغلّ عميقاً بانهاك اقتصاده وقطاعه المالي

 وبعكس المتوخى من التدخل النقدي الطارىء، تتكاثر الاشارات غير المطمئنة التي سترافق "المرحلة الانتقالية" القائمة على اعتماد سعر الصرف الجديد عند مستوى 15 ألف ليرة لكل دولار بدءاً من أول الشهر المقبل، بعدما تكفل الحجم الاستثنائي لتجارة العملات وتسخين المضاربات في الأسواق الموازية بتشتيت استهدافات التحرك الاستباقي للعروض المفتوحة للمبادلات النقدية عبر منصة صيرفة، وفرملة تدخل البنك المركزي وسقوفه في ادارة عمليات العرض والطب.

بذلك، فإن الدور المفترض للبنك المركزي كصانع رئيسي لأسواق الصرف والتحكم بإدارة السيولة النقدية، بات مقتصراً على الصد غير المتكافىء لسيل الهجمات الشرسة على سعر الليرة، بل يمكن الاستدلال من خلال الكثير من الإشارات والمؤشرات إلى حقيقة التقلّص الدراماتيكي لهذا الدور المحوري في أسواق صرف العملات، بفعل قوة المضاربات النقدية التي تتغذى أساساً من تعميق حال عدم اليقين، وتستظل حديثاً عوامل اضطراب مستجدة ذات صلة بملفات قضائية بأبعاد محلية وخارجية.

ولعل الأشد مرارة، أن يصير توالي الانحدار الكارثي لليرة حدثاً عابراً، بل يحتدم التباري بين خبراء ومحللّين على توصيف عتبة الخمسين ألف ليرة لكل دولار بمنزلة الركيزة المتينة لانفلات سعر الصرف إلى مستويات فلكية تقارب الفئة الأعلى للعملة الوطنية، أي مئة ألف ليرة، بعدما أسقط صانعو الأسواق الموازية تكراراً وبضربات موجعة وشبه قاضية كل التدابير الوقائية التي تتخذها السلطة النقدية.

استتباعاً، تنحو الترقبات النقدية الى الحيز الأشد قتامة مع تحليق سعر الدولار فوق عتبة 50 ألف ليرة مندفعاً بترقبات وشائعات محمومة عن تفلّت نقدي خارج اي سقوف، تشتد وطأة الضغوط المعيشية التي تسمنها المعطيات الرقمية الكارثية، باعتبار أن أسواق الاستهلاك كافة تعتمد سقوفاً تتعدّى بنسب تتراوح ما بين 10 و20 في المئة السعر الواقعي للدولار في الأسواق، وبموازاة توالي قضم القدرات الشرائية الضئيلة وابقاء سقوف السحوبات المتاحة من الودائع بحدود 24 مليون ليرة شهرياً، اي ما يماثل 1600 دولار بالسعر الجديد لليرة، وباقتطاع تفوق نسبته 70 في المئة حالياً، ومرشح للمزيد.

للإطلاع:

السلطة النقدية تخضع مصارف لبنانية للإدارة المؤقتة

ويزيد من شؤم التوقعات، بروز التحذيرات المشروعة من انكشاف القطاع المالي ومؤسساته على شبهات قابلة للتفاعل غير المريح في نطاق التعاملات والقنوات المالية عبر الحدود. فإلى جانب محاذير مضاعفة وتيرة الانغماس في الاقتصاد النقدي والذي انضمت اليه وزارة المال أخيراً عبر فرض التسديد نقداً لجزء من الضرائب والرسوم، حفلت السياسات النقدية الطارئة في نسختها الأخيرة بثغرات تكفلت بفتح كوّة في جدار البنية القانونية المتينة التي تستند اليها المعاملات المالية بين لبنان والخارج.

وبالفعل، فقد فرضت الوقائع الحسيّة، والزاخرة بانحرافات مشهودة في تنفيذ المبادلات عبر المنصة، على البنك المركزي ادخال تعديلات جوهرية على مبادرته وتحويلها مقيّدة بشرطي تمكين الأفراد حصرياً من اجراء عمليات الصرف وبحصة شهرية تقارب مئة مليون ليرة او 2500 دولار فقط، فيما بقيت المضاربات ماثلة ومحتفظة بزخمهما القوي لصد اي محاولة جديدة او معدّلة تستهدف كبح انحدار سعر الليرة.

وبالتوازي، لوحظ ان "هندسة" التدخل النقدي من قبل مصرف لبنان التي تجاوزت ارقامها التداولية نحو 1.5 مليار دولار عبر منصة صيرفة بدءاً من الايام الثلاثة الأخيرة للعام المنصرم، تطلبت "التضحية" بنحو 166 مليون دولار فقط من احتياطه بالعملات الصعبة، بينما هي ساهمت فعلياً في امتصاص جزء وازن من الكتلة النقدية المحررّة بالليرة المتداولة في الأسواق، وهو ما تترجمه معطيات ملخص ميزانية البنك المركزي لمنتصف الشهر الحالي، حيث يبرز تقلص حجم الكتلة الى نحو 67 تريليون ليرة، اي بمقدار 13 تريليوناً عن مستواها في بداية العام.

ويمكن نظرياً احتواء الرصيد المتبقي بالليرة بكامله عبر ضخ نحو 1.34 مليار دولار بسعر الأسواق الموازية او بنحو 1.76 مليار دولار بسعر منصة صيرفة من الاحتياطات المستقرة حالياً عند مستوى 10 مليارات دولار، لكن ضرورات الضخ المستمر للرواتب ولمصاريف القطاع العام وللسحوبات المتاحة من الودائع من شأنها تبديد مفاعيل هكذا تدخل حاسم، طالما لم يستند إلى تحولات ايجابية في المشهد السياسي العام.

يمكنك متابعة:

البنك الدولي يكرّس المعادلة: المنظومة السياسية تمنع تعافي لبنان

وفي ظل خشية مصرفية ومالية من تداعيات اكبر حجماً تنتجها هذه المواجهة المشهودة في الميدان النقدي بين السلطة النقدية و"أشباح" الاسواق الموازية الذين يتكفلّون بالاستحواذ على الدولارات المعروضة بأي وسيلة ومهما ارتفعت الكميات المعروضة، ينشد الاهتمام الى محتوى التدابير الردعية او الوقائية التي يتوقع اعتمادها من قبل حاكمية البنك المركزي، ولا سيما بعد التوقف "الظرفي" للعديد من المصارف عن قبول عمليات صرف جديدة عبر منصة "صيرفة".

ومن الواضح، بحسب خبراء وناشطين في اسواق النقد، ان المعوقات التي تصطدم بها سياسات البنك المركزي وتدابيره التقنية للحدّ من انحدار سعر صرف الليرة، لا تقتصر على العموض السياسي غير البناء الذي يطغى على مجمل الاستحقاقات الدستورية والملفات الحيوية العالقة في شرك الشلل الحكومي والتشريعي، بل هي تستمد صلابتها وقدرتها على جبه التوجهات من وقائع المؤشرات المؤثرة مباشرة في التدفقات النقدية.

بذلك، ترتقي المخاوف المشروعة الى مستويات تأجيج الاضطرابات الظاهرة والكامنة بما يتكفل بنسف الاستقرار الهش والدخول مجدداً في فوضى عارمة تتكىء على العنوان النقدي الذي يحشر المزيد من المقيمين في زاوية العوز والفقر المدقع. وما الارتفاعات المتوالية التي تسجلها اسعار المحروقات يومياً، سوى اشارة الى موجة غلاء جديدة وعاتية تصل بالتضخم الى ارقام فلكية بعدما تخطت حصيلتها التراكمية عتبة الفين في المئة على مدى سنوات الأزمات الملتهبة المتواصلة من دون هوادة.

درء الشبهات

الى جانب المخاوف التي يمكن ان تنتج عن التحقيقات الاوروبية التي جرت في بيروت بشأن عمليات مالية تحتمل شبهة تبييض الأموال، ارتفع منسوب الحساسية من تبعات سياسة الغاء سقوف المبادلات النقدية، ولو لأيام قليلة، تهيباً من وضع القطاع المصرفي بكامله ومن دون سند تمثله "الدولة السيادية" في مواجهة مرحلة ملتبسة ودقيقة قد تصيبه باضرار غير محسوبة تمتد خطورتها الى شبكة علاقاته مع البنوك الخارجية المراسلة.

بذلك، لم تقتصر الخيبة على حقيقة استئناف رحلة انحدار الليرة، بل زاد في رداءة الحصيلة تلقي عدد من كبار المديرين في مصارف لبنانية والمسؤولين عن عمليات القطع والخزينة، اتصالات من نظرائهم في بنوك اميركية واوروبية مراسلة تستوضح طبيعة الاجراءات الذاتية التي تم اعتمادها في مواكبة عمليات المبادلات النقدية المفتوحة عبر منصة صيرفة، طبقاً لمندرجات قرار البنك المركزي، ولا سيما لجهة مقتضيات التزام قاعدة "اعرف عميلك" التي يتم تصنيفها كركيزة اساسية في مكافحة شبهات الجرائم المالية بأنواعها كافة.

مصارف خارجية تتجه لرفع درجة التحوط؟

وركزت بعض الاستسفارات الواردة من الخارج، بحسب معلومات من مصادر مصرفية رفيعة المستوى، على كيفية تحقّق البنوك من مصادر كميات النقود التي جرى ضخها من الأفراد والشركات مع الارتفاع الحاد لمتوسطات المبادلات من نحو 50 مليون دولار الى نحو 300 مليون دولار في ايام محدّدة تلت صدور البيان الأحدث الخاص ببيع الدولار من قبل مصرف لبنان، قبل ان يعمد الى تعديله لاحقاً بواسطة تعليمات مباشرة للبنوك.

ولوحظ ان الأسئلة التي اتخذت طابعاً "ودياً" ولم تخرج في طرحها وابعادها عن آليات التواصل المعتادة بين الطرفين، عكست اشارات توجس لدى المصرفيين المحليين، ولا سيما انها تشاركت في التقصي عن حيثيات فتح سقوف المبادلات النقدية والتخلي عن الشرط الأساسي القاضي بحصر العمليات لصالح زبائن كل مصرف على حدة، ومبررات التنويه المعلن بامكانية التوجه الى منافذ محددة لاتمام عمليات المبادلات، كذلك الاستفهام عن موجبات العمل وفتح المقرات والفروع خلال ايام عطلات رسمية.

وتكتسب مخاوف المصرفيين مشروعية بفعل الشبهات الدولية التي تحوم حول اي عمليات نقدية بأحجام غير مألوفة. فبرغم مراعاة خصوصيات التحول اللبناني الى الاقتصاد النقدي تحت وطأة الانهيارات الثقيلة للعملة الوطنية ولمالية الدولة والناتج المحلي والمتتالية على مدار 40 شهراً من دون هوادة، فإن ادارات المصارف الخارجية، والتي تقدّر بايجابية حصانة القطاع المالي المحلي وتحتفظ بخطوط التعاملات معه، تسعى في الوقت عينه الى رفع درجة التحوط من امكانية مرور عمليات تحتمل الشبهات وتصيبها بأضرار جانبية.

وبالفعل، فقد احتوت البيانات المتلاحقة التي عممّها البنك المركزي، ما يكفي من الدوافع التي تثير "حشرية" المسؤولين المعنيين في البنوك المراسلة، ولا سيما الأميركية بينها، لفهم ما يجري في تنفيذ مبادلات بعملة الدولار. فهذه البنوك تتولى تنفيذ معظم العمليات المالية الخارجية الخاصة بالتحويلات من والى لبنان وسداد الاعتمادات وفواتير الاستيراد الواردة الى حسابات لديها تخص الجهاز المصرفي اللبناني وبشكل اساسي البنك المركزي.

المزيد حول السياسات المالية في لبنان:

سلامة يملأ "الفراغ اللبناني" بتغيير تكتيكات اللعبة النقدية

فمع قراره برفع سعر تداول الدولار عبر منصة صيرفة من نحو 32 الف ليرة الى 38 الف ليرة، اكد المركزي، انه سيقوم ببيع الدولارات على هذا السعر مقابل الليرات اللبنانية للأفراد والمؤسسات من دون سقف لقيمة العمليات، كما اكد انه ليس من شروط متعلقة بتنفيذ هذه العمليات والتي ستنفذ تلقائياً حينما تتقدم المصارف من مصرف لبنان بالليرات وسيسلمها فوراً الدولارات، مع التنويه بأنه سيمدد ساعات العمل بما يتعلق بهذه العمليات حتى الساعة الخامسة مساءً من كل يوم عمل حتى نهاية شهر كانون الثاني\ يناير الحالي، ليستلحق ذلك ببيان يوعز كل مواطن لم يتجاوب معه مصرفه المعتاد ان يتجه الى احد البنوك الذي وافق على تنفيذ هذه العمليات.

خوف من الوقوع في المحظور

 وفي مقابل هذه الهواجس، يؤكد مسؤول مصرفي كبير ان لبنان الذي بلغ قطاعه المالي مرحلة متقدمة في الادارة الرقمية للمعاملات النقدية عبر البطاقات المصرفية والحسابات الالكترونية قبل انفجار الازمات في خريف العام 2019، معني بكل سلطاته وقطاعه الخاص بدرء اي ضرر يصيب بنيته القانونية وتطبيقاتها الاجرائية التي تتسّم بمواصفات دولية متقدمة للغاية في مجال مكافحة العمليات المالية غير المشروعة.

كذلك، ينبغي التنبه الدائم لتبديد اي شكوك خارجية تخص السياسة النقدية وادارة السيولة بالليرة وبالدولار ومنع اي عمليات تهريب للعملات عبر الحدود، توخياً لعدم الوقوع في محظورات تزيد الوضع المالي والنقدي تأزيماً، وربما تدفع الى خفض تصنيف لبنان لدى المؤسسات الاقليمية والدولية المختصة بمكافحة غسل الأموال. 

 وتستند الحصانة القانونية في اغلب تطبيقاتها الرقابية والاجرائية الى مندرجات  القانون الرقم 318\2001، والذي يتوسع في تحديد الأفعال الواقعة تحت تعريف غسل الأموال لتشمل اي مقاصد لاخفاء المصدر الحقيقي للاموال غير المشروعة أو اعطاء تبرير كاذب لهذا المصدر بأي وسيلة كانت.

أيضاً، فإنه من المهم للغاية، بحسب المسؤول المصرفي، عدم التهاون في التزام الموجبات الاجرائية التي يفرضها القانون، ولا سيما لجهة "التحقق من الهوية الحقيقية للزبائن الدائمين للمؤسسات المصرفية والمالية وتحديد هوية صاحب الحق الاقتصادي في حال تم التعامل بواسطة وكلاء أو تحت ستار اسماء مستعارة عائدة لاشخاص أو لمؤسسات أو لشركات أو عن طريق حسابات مرقمة".