زيارة بينغ تبرز المكانة الدولية للمملكة: اتفاق شامل للشراكة السعودية- الصينية

  • 2022-12-12
  • 15:33

زيارة بينغ تبرز المكانة الدولية للمملكة: اتفاق شامل للشراكة السعودية- الصينية

ثلاثة أيام غيّرت الموازين في الخليج والمنطقة

  • رشيد حسن

 ستدخل الزيارة الرسمية للرئيس الصيني شي جين بينغ إلى المملكة العربية السعودية باعتبارها من الأحداث التي تفتتح تحولات كبرى في العلاقات بين الدول والجغرافيا، وربما وبسبب ما انطوت عليه الزيارة التاريخية التي امتدت لثلاثة أيام من رسائل ومن خطوات واتفاقات استراتيجية، فقد حرصت قيادة المملكة العربية السعودية على إعطاء الزيارة كلّ ما تستحق من مظاهر الحفاوة والتكريم والتغطية الإعلامية الكثيفة، كما بدت الأهمية الخاصة للحدث من خلال العدد الكبير من الاتفاقات والعقود ومذكرات التفاهم التي تناولت مجالات البنية التحتية والإنشاءات والطاقة البديلة وأنظمة الاتصالات والتكنولوجيا الرقمية والأمنية والسياحة والصناعات الجديدة والتعاون الثقافي وغيرها.

لكن إلى جانب الحصاد الوفير الذي ظهر من هذه الاتفاقات، فإن الزيارة حملت أبعاداً استراتيجية بالغة الأهمية.

الشراكة الاستراتيجية

تعتبر ترقية العلاقات السعودية الصينية إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية الشاملة، عنواناً لصيغة من الترابط الوثيق الاقتصادي والتجاري والسياسي أيضاً بين البلدين، إذ إنها تشمل أيضاً، تنسيق السياسة الخارجية والمواقف من القضايا الدولية، أي أننا نتحدث هنا عن معاهدة بكل معنى الكلمة، شملت بأحكامها المجالات كافة التي يمكن التعاون فيها، بما في ذلك المجالات الدفاعية والاستخباراتية والإعلامية والثقافية، وتضمنت قرارات استراتيجية مهمة مثل اعتماد السعودية كمقصد للمجموعات السياحية الصينية أو استقطاب الشركات العالمية الصينية لفتح مقار إقليمية لها في المملكة، أو توقيع "خطة المواءمة" بين رؤية المملكة 2030 ومبادرة "الحزام والطريق"، أو " تشجيع بناء شراكات بين الصناديق الاستثمارية في البلدين".

وقبل الخوض في طبيعة الاتفاقات التي وقعت بين الطرفين ضمن ترقية العلاقات بينهما إلى صيغة الشراكة الاستراتيجية، لا بدّ من التوقف أمام إعلان الرئيس الصيني عن نية بلاده زيادة مشترياتها من النفط السعودي، والاتفاق على عقد اجتماع قمة سعودي صيني كل سنتين، وهو ما يوحي باهتمام الجانبين بإعطاء طابع الاستمرارية للشراكة، وتعزيز أطر المتابعة على أعلى المستويات بهدف حسم المسائل التي قد تطرح في سياق العمل المشترك.

ويذكر أن العلاقة بين الجانبين تنظمها "اللجنة السعودية الصينية المشتركة رفيعة المستوى" والتي تأسست في العام 2016 نتيجة لزيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى الصين، وهذه اللجنة مؤلفة من القيادة السياسية للبلدين، وتعتبر في حالة انعقاد خلال السنة، وترفع إليها مختلف المسائل المتعلقة بملفات التعاون والاستثمارات، إلا أن لقاء القمة المقترح كل سنتين يوفر آلية عليا للبت في المسائل التي تحتاج إلى توافق بين القيادتين.

أهمية البيان المشترك

إن البيان المشترك السعودي الصيني الذي صدر يوم الجمعة الماضي وثيقة مهمة تعرض بالتفصيل لمضمون اتفاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة، فقد تضمن البيان أولاً تأييد كل بلد للمصالح السياسية للبلد الآخر من دون تحفظ، فالصين تدعم المواقف السعودية في أوبك+ وتجاه القضية الفلسطينية (دولة فلسطينية في حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية)، كذلك تجاه إيران وسوريا ولبنان وأوكرانيا وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، ودعم ثقافة الاعتدال والتسامح ومكافحة الإرهاب وجرائم الفساد. والسعودية تدعم مواقف الصين في مبدأ "الصين الواحدة"، لكن مما يلفت الانتباه أيضاً، إشارة البيان المشترك إلى التعاون في المجالين الدفاعي والأمني، وكذلك إلى تعليم اللغتين العربية والصينية في المدارس والجامعات والمؤسسات التعليمية في البلدين.

وعلى سبيل التبسيط، نتوقف في ما يلي عند أبرز الأبعاد الاستراتيجية والنتائج الاقتصادية والسياسية المتوسطة والطويلة الأمد لزيارة الرئيس الصيني:

التحالف مصلحة استراتيجية للبلدين

ترقية العلاقات الاستراتيجية بين البلدين هدف سعت إليه القيادة السعودية بناء على تقييمها للمصالح السعودية في مرحلة التحول الوطني والنهضة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يقودها الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي بادر، بعد أول زيارة للصين في العام 2016، بفتح المجال لتعليم اللغة الصينية في السعودية وابتعاث السعوديين للتعلم في الجامعات الصينية، وعقد اتفاقات ثقافية مع الصين لتطوير التبادل الثقافي بين البلدين، وهو ما دل على إدراكه منذ وقت مبكر للأهمية الاستراتيجية لعلاقة وطيدة بين البلدين.

كما إن هذا التطور الكبير في العلاقات بين البلدين إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية سعت إليه الصين بالحماسة نفسها بهدف ضمان العلاقة الوطيدة مع أكبر الدول المصدرة للنفط في العالم والذي يعتبر الشريان الحيوي لصناعاتها ولازدهار اقتصادها، وكذلك لتعزيز العلاقات مع إحدى أهم أسواق المشاريع والتجارة في الدول الناشئة، وهذا فضلاً عن إعطاء دفعة إضافية لقيام عالم جديد متعدد الأقطاب وقائم على التعاون واحترام سيادة الدول ومصالحها وقيام سلام عالمي يحترم القانون الدولي.  

صعود السعودية على المسرح الدولي

وبالفعل، فإن إحدى النتائج المهمة لزيارة الرئيس الصيني إلى السعودية والقمتان اللتان استضافتهما الرياض، وهما القمة الصينية الخليجية والقمة الصينية العربية، هي في أنها ساعدت على تنبه المحللين السياسيين ومراكز الأبحاث إلى التحول التدريجي، ولكن الثابت في الموازين الدولية باتجاه عالم متعدد الأقطاب بدّل وحدانية القطب التي نعمت بها الولايات المتحدة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في 31 كانون الأول/ديسمبر 1991، ويتعزز هذا الاتجاه بصورة خاصة بسبب التحدي الكبير الذي تتسبب به القوة الصينية، ثم صعود الهند كدولة صناعية وتقنية واستعادة روسيا قبل حرب اوكرانيا لقوتها الذاتية التي خسرتها مع تفكك المنظومة السوفياتية، ثم تأسيس منظومة بريكس BRICS التي تضم إلى الصين، كلاً من الهند والبرازيل وروسيا وجنوب أفريقيا.

شهادة من الرئيس تشي

وهذه النقطة أي صعود السعودية على المسرح الدولي شدد عليها الرئيس تشي في مقالة كتبها لصحيفة سعودية، وقال فيها إن المملكة هي عضو مهم في العالم العربي والإسلامي، وهي ايضاً قوة مستقلة مهمة في العالم المتعدد الأقطاب، كما إنها الشريك الاستراتيجي المهم للصين في منطقة الشرق الأوسط، مؤكداً على أن الصين تضع تطوير العلاقات مع السعودية "كأولوية في دبلوماسيتها في الشرق الأوسط"، وأنها مستعدة لزيادة حجم تجارة النفط مع المملكة، وتنفيذ مشاريع مشتركة كبرى في قطاع الطاقة.

ولفتت الحيادية المتزايدة للمملكة في سياساتها الخارجية انتباه المحلل الأميركي آرون ميللر في صحيفة "فورين بوليسي"، والذي كتب يقول في المجلة الواسعة النفوذ "إن الولايات المتحدة بدأت تفقد نفوذها السابق على السعودية، و"إن المملكة العربية السعودية تعمل على تعزيز العلاقات مع الصين منذ سنوات عديدة، وإن هناك تحولاً استراتيجياً في العلاقات بين البلدين".

الثقة السعودية

ومن الأمور المهمة التي يجب ذكرها في هذا السياق، إعلان المملكة العربية السعودية (ودول أخرى مثل مصر والأرجنتين) عن نيتها الانضمام إلى منظومة "بريكس" BRICS، وهو ما قد يتم في أواخر العام المقبل. وبالطبع فإن انضمام المملكة العربية السعودية إلى هذه المجموعة، يستهدف من جهة تعزيز مكانتها الدولية، كما إنه يستهدف في الوقت نفسه، تعزيز قوة المجموعة والتي تضع بين أهدافها تطوير نظام نقدي مستقل.  

ثمار النهضة الشاملة

إن هذه الثقة الواضحة بالنفس، وهذا الثقل المتزايد للمملكة العربية السعودية في الشؤون الدولية لم يأتيان من فراغ، بل هما بعض ثمار الجهود التي أطلقها الأمير محمد بن سلمان لتحويل المملكة إلى دولة قوية ومزدهرة ومستقلة في إرادتها ومنخرطة بشكل نشط وفعال في السياسة الدولية، وأي قوة دبلوماسية أو عسكرية أو دبلوماسية، لا بدّ وأن تستند إلى قيادة ذات مصداقية وموثوقية تملك رؤية واضحة للمستقبل ثم إلى إنجازات على الأرض. ومن حسن طالع المملكة أنها وبفعل دورها القيادي لتكتل أوبك+ لمنتجي النفط تمكّنت من الحفاظ على أسعار النفط عند مستويات مؤاتية، وهو ما وفّر لها الفرصة والموارد اللازمة للاستثمار في تنويع الاقتصاد ولمزيد من رسملة صندوق الاستثمارات العامة، وتمويل المشاريع الكبرى ذات الطابع التحولي والصناعات الجديدة ومشاريع البنى التحتية، وحولت رؤية المملكة 2030 الاقتصاد السعودي إلى أكبر ورشة أعمال واستثمارات في العالم، وهذا الوضع يقوّي بالطبع موقف المملكة تجاه العالم، إذ يجعلها سوقاً كبيرة للمشاريع وفرص الاستثمار ومستثمراً عالمياً كبيراً وهو عزز قدرتها على دفع المزيد من الشركات العالمية إلى بدء نقل مقراتها إليها والتوسع في السوق السعودي.

مصدر واعد للسياحة الأجنبية

أضف إلى ما سبق، هذه الورشة الكبيرة التي تتضمن استثمارات بمئات مليارات الدولار لتحويل السعودية إلى بلد مغطى بالمساحات الخضراء والمائية والحدائق والمنتجعات البحرية والمنشآت الرياضية ومناطق الصناعات المتقدمة والمتاحف ومرافق الترفيه وغيرها، وكلها تضع الأسس لتطور كبير متوقع في السياحة السعودية وخصوصاً السياحة القادمة من الخارج، ولا بدّ من الاشارة هنا إلى أن الصين وحدها كانت مصدراً لأكثر من 150 مليون سائح في العام 2019، وقد تضمن البيان المشترك السعودي الصيني تأكيداً على أن الصين ستعتمد السعودية مقصداً سياحياً لمجموعات السياح الصينيين، ما يعني أن الحكومة الصينية ستقوم بتشجيع هؤلاء على اعتماد المملكة مقصداً لهم.  وبالطبع وبما أن الحكومة الصينية تملك تأثيراً مباشراً على خطط السياحة للمواطنين، فإن الموقف الصيني يبشر بفتح الباب للمزيد من السياح الصينيين للقدوم إلى المملكة والتمتع بالثروة السياحية الكبيرة التي تتمتع بها وكذلك زيارة عشرات المقاصد والمشاريع الكبرى السياحية التي يتم العمل على تطويرها ويتوقع أن تبدأ العمل ما بين العامين 2025 و2030، وسيساهم ذلك مساهمة كبيرة في الناتج المحلي السعودي وفي تنويع الاقتصاد وتوفير فرص العمل. ويذكر أن عدد السياح الصينيين إلى السعودية لم يتجاوز 20 ألف سائح خلال العام الجاري.

التطور السعودي والمثال الصيني

جاءت القمة العربية –الصينية لتقدم أدلة وافية للإدارة الصينية على التطور الكبير الذي حققته المملكة نتيجة النهضة الشاملة التي أطلقتها وأحدثت تحولات نوعية في اقتصادها ومجتمعها ومؤسساتها والنهج المتبع في إدارة شؤونها. ومن المؤكد أن الرئيس تشي والوفد الذي جلس للمفاوضة مع السعوديين، وجد خلال مراحل التفاوض التي سبقت الزيارة ثم على الجانب المقابل من طاولة المباحثات، مسؤولين سعوديين من نوع جديد وأسلوباً في تحضير الملفات، يشهد على التحول الكبير الذي تعيشه الإدارة السعودية منذ تسلم الأمير محمد بن سلمان لعملية تطويرها قبل نحو 6 سنوات.  كما أن الزعيم الصيني لا بدّ شعر باحترام كبير لمسلك الملك سلمان ومسلك ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في إدارة هذا الحدث المهم باحترافية نادرة، وهذا التقارب بين الأسلوب السعودي الجديد، وبين النمط الاحترافي للإدارة الصينية سيلعب دوراً مهماً في التعامل السلس بين الدولتين.

السعودية بوابة المنطقة

أخيراً، فإن من أبرز ما كشفت عنه القمة السعودية الصينية هي أن السعودية تبوأت، نتيجة التطور الكبير الذي حققته خلال السنوات الست أو السبع الأخيرة موقع القيادة التي يتوافق الجميع على مكانتها ودورها المحوري في السياسات الإقليمية، وهذا التطور المهم يجعل من المملكة بوابة منطقة الخليج، وكذلك المنطقة العربية وأهم العوامل التي تفسره، هو ثقل السعودية كبلد والحجم الضخم لاقتصادها والازدهار الذي تعيشه وسياسات الانفتاح التي تمّ تطبيقها والمشاريع الكبرى التي يتم العمل عليها وتجعل من المملكة بلد الفرص كما تجعل من نظامها تجربة متقدمة في التنمية الاقتصادية وفي الإدارة والأداء والشفافية.

 

تعقباً على القمة السعودية الصينية إقرأ ايضاً:

ماذا يريد ولي العهد السعودي من مجلس التعاون الخليجي؟