وداعاً لبنان الدولة: جمهورية الاغتراب تملأ الفراغ

  • 2022-09-23
  • 08:00

وداعاً لبنان الدولة: جمهورية الاغتراب تملأ الفراغ

  • فيصل أبوزكي

لبنان الذي عرفناه منذ الاستقلال انتهى أو يكاد وهو انتهى بكل مكوناته:

الطبقة السياسية التي كانت امتداداً شكلياً للبرلمانية الغربية في الخمسينات تحوّلت الآن إلى صانع انهيار وإفلاس غير مسبوق هبط بمرتبة لبنان في سلم الفساد من 63 في العام 2003 إلى 154 من أصل 180 في العام 2021.

يتزامن ذلك مع انهيارات بالجملة للاقتصاد والنظام المالي والنقدي والمصرفي وللوضع الاجتماعي وانفلات التضخم واستشراء البطالة والهجرة الجماعية والفقر، وبات هذا الوضع سبباً يومياً لحالة إحباط شديد وخوف من الغد وتهافت على الهجرة وترك السفينة الغارقة.

عامل صمود

لكن وسط هذه اللوحة القاتمة لانهيار لبنان الكبير، برز بشكل واضح خلال العامين الاخيرين ولا سيما خلال صيف هذا العام الدور الكبير الذي باتت تلعبه الدياسبورا اللبنانية في تأمين الاستمرار المعيشي للمجتمع اللبناني وفي المساهمة بامتصاص الصدمات التي تهدد وجوده وباتت تهدد عيش قسم كبير من الشعب اللبناني. وظهرت قوة المال الاغترابي وروابط التعاضد التي تشد الأسر اللبنانية في التقديرات الأولية التي تتوقع أن يكون المغتربون قد أنفقوا في موسم الصيف الحالي ما بين 4 و5 مليارات دولار وهذا المبلغ يزيد كثيراً على مبلغ الـ 3 مليارات دولار الذي يجاهد لبنان بشق النفس للحصول عليه (بموجب اتفاق أولي تم التوصل إليه في نيسان/أبريل الماضي) مع أمل ضئيل بإمكان ذلك نظراً لربطه بشروط عديدة تتعلق بالإصلاح لم تثبت الدولة اللبنانية بشكلها الحالي حتى الآن انها راغبة او قادرة على تحقيقها.

بالطبع هناك فارق أكثر أهمية بين تقديمات المغتربين وبين ما يمكن ان يقدمه صندوق النقد الدولي من تمويل وهي أن مساهمات المغتربين تذهب مباشرة للاقتصاد المحلي سواء على شكل مساعدات للأهل والأقارب أم على شكل إنفاق مباشر على أصول وخدمات مختلفة أو بعض الاستثمارات، بينما يفترض أن ترتبط قروض الصندوق (قروض وليست هبة) بإعادة هيكلة ديون الدولة ورسملة المصارف والمساهمة بطريقة ما على إعادة إحياء المالية العامة عبر المنظومة الحالية التي صنعت الأزمة.

المال الاغترابي يغذي الجزء الاكبر من الناتج المحلي

الأمر الآخر المهم هو أن تحويلات أو إنفاق المغتربين هي تدفقات نقدية مباشرة تتكرر سنوياً وقد باتت مساهمتها النسبية في الناتج المحلي أكبر بصورة ملموسة نتيجةً لتقلّص المساهمات من المصادر الأخرى مثل الصادرات والزراعة والسياحة وغيرها من القطاعات وكذلك نتيجة لانكماش الناتج المحلي نفسه إلى ما قد لا يزيد على 20 مليار دولار في العام 2021 وفق تقديرات البنك الدولي. وعلى فرض أن تحويلات وإنفاق المغتربين بلغت 7 مليارات دولار، فإن ذلك يجعل منها المساهم الأول في الناتج المحلي للبنان بنسبة تقرب من 35 في المئة من الناتج المحلي في العام الماضي، علماً ان التقديرات الفعلية ترفع الرقم الى نحو 10 مليارات دولار خلال العام الحالي، وهو مرشح لزيادات مطردة بنتيجة موجات الهجرة الجديدة بعشرات الآلاف من اصحاب الكفاءات والمحترفين والكوادر والخبرات في المجالات كافة.

وفي وقت يشهد لبنان استمرار انهيار مالية الدولة وازمة النظام المصرفي وذوبان قيمة الليرة وتفاقم الأزمة المعيشية، تبرز مساهمات المغتربين كعامل متزايد الأهمية في توفير بعض مقومات الصمود عبر ضخ موارد فائقة الاهمية من العملات الاجنبية ودعم القدرة الانفاقية لاهاليهم وتأمين المساعدات النقدية المباشرة لعشرات الألوف من المواطنين.

نجاحات الاغتراب

لا بدّ هنا من ملاحظة مهمة وهي أن الهجرة المتجددة والمتزايدة للبنانيين إلى الخارج ليست خسارة محض للبلد لأنها في أوقات الشدائد وضيق سبل العيش تقدم لهؤلاء سبلاً لتجاوز الأزمة المعيشية وتحولهم من مشاريع عاطلين عن العمل الى قوى منتجة وإن في المهاجر. وهذه الإمكانية تعتبر ميزة في المجتمع اللبناني لا تتوافر لبلدان اخرى تعيش أوضاعاً مأزومة، وذلك لأن الاغتراب اللبناني يختلف تماماً عن الاغتراب من دول أخرى تمتاز بتصدير العمالة غير الماهرة أو المتوسطة المهارة لأنه اغتراب الكفاءات والمهارات العالية عموماً كما يبدو من الرسم البياني المرفق ويعود ذلك لكون المجتمع اللبناني استثمر عبر الزمن وبكثافة في تطوير أفضل مؤسسات التعليم والجامعات واستثمر في ثقافات التواصل مع العالم وتمكن بذلك من بناء نخبة قادرة على تأمين الوظائف المجزية في المغتربات والتي يمكنها تحقيق فوائض يمكن تحويل جزء مهم منها إلى الوطن. كما إن الكفاءة العالية للمغتربين اللبنانيين مكنتهم من الوصول إلى مختلف أسواق العمل في البلدان الأميركية والأوروبية والإفريقية وبشكل اساسي إلى بلدان الخليج التي شكلت دائماً الحاضنة الأساسية للبنانيي الاغتراب الذين لم ينفصلوا يوماً عن الوطن مما ولد جاليات لبنانية ضخمة منتشرة وكبيرة العدد وهذا أيضاً من أسباب تنامي حجم وقيمة التحويلات الاغترابية وتحولها إلى مرتكز أساسي الاقتصاد اللبناني.

الهجرة ليست خسارة محض

صحيح ان الاغتراب يتضمن نزيفاً في الكفاءات، لكنه كما قلنا صمّام أمان لهذه الكفاءات التي لا تجد في الأزمات غير خيار الهجرة المؤقتة أو الدائمة، أضف إلى ما سبق إن تراجع قيمة النقد اللبناني والأزمة المعيشية عززا الإقبال على السياحة اللبنانية من المغتربين التي باتت كلفة المعيشة لهم في لبنان من العوامل المحفزة لقضاء عطلهم في الوطن أو حتى إعادة أولادهم للدراسة في لبنان الذي ما زال يحافظ على مؤسسات تعليمية ذات جودة عالية على الرغم من الصعوبات الفائقة التي يواجهها البلد.

الاغتراب يملأ فراغ الدولة

وفي ما تشتد الأزمة المعيشية، فإن المال الاغترابي يلعب دوراً متزايد الأهمية في عملية التحول نحو "استقلال" اللبنانيين عن الدولة الفاشلة وتوطيد دعائم الاعتماد الذاتي، كما نرى في نشوء قطاع الطاقة المتجددة على أنقاض البنية المتهاوية لكهرباء لبنان واحتكارات المولدات، كما لعب دوراً في تنشيط قطاع السياحة، كما إنه بات عملياً القناة التي مكنت مئات ألوف الموظفين والمتقاعدين من الصمود المعيشي بعد ذوبان الرواتب والمعاشات التقاعدية واحتجاز المصارف لأموال المودعين.

نأتي أخيراً إلى الأهمية السياسية المتزايدة للمغتربين اللبنانيين والتي برزت بصورة خاصة في الانتخابات النيابية الأخيرة، إذ أدى السماح للمغتربين (الذين ما زالوا يحملون الجنسية اللبنانية) بالمشاركة في الانتخابات إلى بروزهم كقوة سياسية يحسب حسابها وقادرة على التأثير في موازين القوى السياسية في العديد من المناطق، وحسب مصادر وزارة الداخلية اللبنانية فقد تسجل للمشاركة في الانتخابات النيابية الأخيرة في أيار/مايو نحو 225,114 ناخباً وهو ما شكل ثلاثة أضعاف عدد الناخبين من المغتربين الذين سجلوا أسماءهم في انتخابات العام 2018.

ذهبت الدولة...يبقى المغتربون

إن نظرة إلى تطور الأمور في لبنان تظهر تزامناً لافتاً بين أفول الدولة اللبنانية وإفلاسها المتعدد الوجوه وبين الظهور القوي للدياسبورا اللبنانية في المغتربات المختلفة كعامل تعويض وصمود أدى إلى رفع معنويات اللبنانيين وفي الوقت نفسه ضخّ المليارات من الدولارات في شرايين الاقتصاد والوضع المعيشي المتردي لمئات ألوف اللبنانيين التي تخلت عنهم الدولة المفلسة ولم يعد في إمكانها أن تضمن لهم لقمة العيش. بذلك، أصبح الاغتراب اللبناني قادراً على الإنفاق ولو جزئياً على الاقتصاد وعلى اللبنانيين أكثر بما لا يقاس مع قدرة الدولة بخزائنها الفارغة، وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن "جمهورية الاغتراب اللبناني" ستثبت مع الوقت أنها الاحتياط الأهم القادر على تعويض آثار الانهيار الكبير للجمهورية اللبنانية.