لبنان يلامس "عارياً" خطوط التوتر العالي

  • 2022-09-04
  • 14:44

لبنان يلامس "عارياً" خطوط التوتر العالي

  • علي زين الدين


تتفنّن المنظومة الحاكمة في لبنان في إضاعة فرص الانقاذ، مكرّسة أحدث تعريفات "الدولة الفاشلة"، بل هي تعمد الى توليد المزيد من الكوارث ومراكمتها بما يؤول الى استنفاد ما تبقى من فتات احتياطات نقدية بالعملات الصعبة، ومن دون أي اكتراث بحقيقة وضع البلد واقتصاده وناسه على قارعة التسوّل الفاضح والفقدان التام لأبسط مقومات العيش من خبز وغذاء ودواء وطبابة وكهرباء ومياه واتصالات ومواصلات وتدفئة وتعليم ...واللائحة تطول.

وينبغي الإقرار أن إتقان الألعاب السحرية وتبادلها بين مرجعيات القرار والسلطات، أفلح في شراء الوقت المديد الذي يشرف على ختام عامه الثالث، فيما تتبخر الوعود بتصحيح مسار السفينة وتتقلص طموحات المواطنين الى الفرح العارم بتأمين "كفاف" أيامهم، ومن دون اعتبار او قياس لما يعانونه من ذوبان لمداخيلهم ومدخراتهم ومن إذلال الانتظارات الثقيلة على أبواب الصمود المعيشي الصعب.

 وتتجلّى الحقيقة المرّة والموجعة بأبهى صورها، في ما تكشفه حصيلة النزف المجمعة التي مارستها السلطات على مدار تعدى الألف يوم من الانهيارات المتواصلة والتي لوثت عمدا وعن قصد وتصميم نقاء "الثورة" الشعبية يوم 17 تشرين الأول/اكتوبر 2019 . فلقاء انشغال المنظومة "نظرياً حتى اشعار آخر" واشغال الناس بوعد استدانة 3 مليارات دولار خلال 48 شهراً من صندوق النقد، جرى انفاق ما يربو على 20 مليار دولار خلال 3 سنوات، موزعة بشكل رئيسي، على دعم عقيم لمواد ومحروقات، والحدّ من سرعة تدهور العملة الوطنية، وتمويل عجز الكهرباء، وسد النقص في الموازنة العامة ومصروفات الدولة.

وفي النتائج المحققة، تسرّب ثلثا مبالغ الدعم الى التهريب والتخزين الاحتكاري، واستمر الانحدار السريع والقياسي للعملة الوطنية وصولاً الى عتبة 40 الف ليرة لكل دولار كسعر واقعي ومرجعي في اسواق الاستهلاك، وزاد "تسيّب المال العام معززاً بتحلل منهجي لمؤسسات الدولة في الداخل وسفاراتها في الخارج وبدفع موظفي الادارات الى اضرابات مفتوحة. أما تمويل الكهرباء فقد أضحى حكاية خرافية ممجوجة والعنوان الصارخ والمطابق لوصف خيارات ادارة البلد.

وليس من المبالغة التقدير بانحسار الآمال تماماً بإمكانية حصول تغيير جدّي في وجهة المسارات الكارثية خلال الفترة المقبلة، بل ان المعطيات المتكاثرة تنحو أكثرالى تفضيل المنظومة قرار "التملّص" المتدرج من خيار بلوغ المحطة النهائية للاتفاقية الأولية مع بعثة صندوق النقد الدولي، وتجنب ما تفرضه من موجبات تشريعية واجرائية وتدقيقية قد تكشف المستور واثباتات الادانة بشبهات سوء الادارة والصفقات والسمسرات على المال العام وخفايا تبديده في مراحل متلاحقة.

ويزيد من ترجيح كفة "الاحباط " التي تسود الأوساط كافة، ما تظهره الوقائع السياسية من انسداد مسبق وتباينات حادة في المقاربات المتصلة بملفي تأليف حكومة جديدة وانتخاب رئيس جديد للجمهورية، بالتزامن مع بلوغ مرحلة الشلل شبه التام في الخدمات الحكومية الأساسية، وعشية حلول استحقاقات معيشية داهمة تبدأ باستئناف العام الدراسي الجديد قريباً ولا تنتهي عند الضرورات الإنفاقية المرتفعة لفصلي الخريف والشتاء.

ولا يخرج عن السياق، التأخير المتمادي في بلورة الصياغة النهائية لخطة التعافي، بعدما أبلغ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي المجلس النيابي، عبر لجنة المال والموازنة، بإهمال الصيغة السابقة والوعد بتعديلات "جوهرية" عاجلة تشمل إعادة توزيع أعباء الفجوة المالية التي يقدر أنها تعدت مستوى 75 مليار دولار.

وبالموازاة تعثرت الجهود الحكومية في تسريع إقرار حزمة الشروط الواردة في الاتفاق الأولي على مستوى الخبراء، الذي تم إبرامه أوائل أبريل (نيسان) الماضي، ولاسيما بينها إقرار قانوني الموازنة العامة للعام الحالي، ووضع ضوابط استثنائية على الرساميل والتحويلات (كابيتال كونترول)، فضلاً عن موافقة البرلمان على تشريع طارئ ملائم لتسوية الأوضاع المصرفية على النحو اللازم لتنفيذ استراتيجية إعادة هيكلة البنوك والبدء في استعادة صحة القطاع المالي، علماً ان ادارة الصندوق ابلغت الجانب اللبناني رسمياً بأن قانون السرية المصرفية الصادر كأولى الاستجابات من ضمن حزمة الشروط التشريعية، لا يزال تشوبه "أوجه قصور رئيسية"، مما يقتضي إجراء جولة جديدة من التغييرات.

ويبدو المشهد أكثر تعقيداً على الجبهة النقدية، إذ تصاعدت الخشية من تنامي سيطرة الأسواق غير النظامية على سوق القطع جراء تقليص الحصص التجارية المتاحة للحصول على الدولار المدعوم جزئياً، والتقنين المعتمد على حصص الأفراد بمعدل 500 دولار شهرياً، وهو ما سيفضي إلى تأجيج التقلبات الذي تعكسه المبادلات النقدية في الأسواق الحرة (السوداء) صعوداً وهبوطاً في تسعير الدولار وفقاً لمصالح المضاربين، مقابل تراجع قدرات السلطة النقدية على التحكم بالسيولة وضبط تضخم الكتلة النقدية بالليرة، ولا سيما مع الاضطرار إلى مضاعفة مخصصات موظفي القطاع العام والعسكريين وبدلات النقل ومكافآت الدوام في الإدارات العامة.

وبالفعل، دخل لبنان مرحلة نقدية عالية الحساسية مع تدني مخزون احتياطات العملات الصعبة دون عتبة 10 مليارات دولار، واذ تكشف احدث بيانات ميزانيّة مصرف لبنان إنخفاضاً في موجوداته الخارجيّة بمبلغٍ قدره 396.14 مليون دولار خلال النصف الثاني من شهر آب/أغسطس 2022، لتتدنى رقمياً إلى 14.75 مليار دولار شاملة محفظة سندات يوروبوند من الديون الحكومية تبلغ 5.03 مليارات دولار، فهي حملت في باطنها انذاراً مزدوجاً بتخطي الخط الاحمر النفسي مع تدني الاحتياطات السائلة الى 9.72 مليارات دولار من جهة، بموازاة تقلص قدرات السلطة النقدية على تولي دور المرجعية الحاكمة بإدارة السيولة في اسواق القطع الاجنبي.

وفي مقارنة البيانات على صعيدٍ سنوي، يتبيّن ان قيمة الموجودات الخارجيّة لمصرف لبنان تقلصت بنسبة 24.65 في المئة، اي ما يوازي 4.83 مليارات دولار، مقارنةً بالمستوى الذي كانت عليه في نهاية شهر آب/أغسطس 2021. وهذه الحصيلة السلبية المحققة في عام واحد تناهز فعلياً نحو 6.4 اضعاف الحصة السنوية التي يتوق لبنان الحصول عليها كقرض تمويلي ميسر من صندوق النقد.

والأسوأ في تحليل البيانات، بحسب مصادر مصرفية ومالية متابعة، احتفاظها بنمط التآكل المتدرج من دون تسجيل اشارات التحسن المفترض للتدفقات النقدية خلال موسم السياحة الصيفي في الشهرين الماضيين، واللذين شهدا " طفرة " استثنائية في اعداد الوافدين بما وصل الى نحو 1.3 مليون سائح، جلّهم من اللبنانيين العاملين في الخارج والمغتربين، وانفقوا ما يزيد على 3.5 مليارات دولار ساهمت عملياً في التخفيف من "الاحتقان" النقدي وفي تلبية جزء وازن من الطلب على السيولة بالدولار.

بذلك، فإن إحدى المشاكل النقدية الرئيسيّة، بحسب وكالة "فيتش" الدولية للتصنيف الائتماني، هو الرصيد الصافي السلبي للإحتياطات بالعملة الأجنبيّة لدى مصرف لبنان وتداعياته على المصارف والمودعين. فمطلوبات المصارف بالعملات الأجنبيّة بلغت 104 مليارات دولار منتصف العام الحالي، في حين بلغت توظيفات المصارف بالعملة الأجنبيّة لدى مصرف لبنان 79 مليار دولار، ولكنّها غير متوفّرة لها بما أنّ إجمالي إحتياطات البنك المركزي بالعملة الأجنبيّة قد وصلت دون 10 مليارات دولار، وذلك دون إحتساب إحتياطات الذهب التي تقدّر قيمتها بنحو 17 مليار دولار والتي تتطلّب تشريعاً قانونياً في مجلس النوّاب للتصرف بها بأي وجه.

ولا يزال هاجس رفع سعر دولار الاستيراد (الجمركي) مسيطراً على تعاملات التجار وقراراتهم رغم التبريد الذي فرضه تحويل مرجعية البت به إلى المجلس النيابي. فواقع الأمر، وبإقرار وزير المال يوسف الخليل، «أنها مسؤولية يجب على الجميع وعي أهميتها للحد من الانهيار، ولتلافي تحمّل الطبقات من ذوي الدخل المحدود والأقل دخلاً، تبعات هذا الانهيار، وأيضاً ولإعادة استنهاض أجهزة الدولة لتستعيد دورها في خدمة المواطن، بينما تعتمد  الأسواق الاستهلاكية عملياً السعر الرائج للدولار، وبالمثل تجري إضافة تعهد بسداد الفارق المتوقع على السلع التي يتم التعاقد على استيرادها لصالح أفراد أو شركات، وفي مقدمها السيارات الجديدة غير المتوفرة في صالات العرض.