لبنان يغوص في عمق مستنقعات السياسة والنقد

  • 2022-01-13
  • 17:00

لبنان يغوص في عمق مستنقعات السياسة والنقد

صندوق النقد مستعجل.. والدولار يستنفد القدرات المعيشية

  • علي زين الدين

مذهلة هي "المنظومة" الممسكة بالقرار في لبنان. فهي تحوز قدرات "انكارية" لما حصل ويحصل في البلد المنكوب، ومزايا عجائبية تمكّنها – غب الاقتضاء – من صرف الاهتمام عن مسؤولياتها الدستورية في متابعة الشؤون ذات الاولوية والتي لا تحتاج اي اجتهاد في التبرير والتوصيف في ظل الأزمات المتلاحقة من دون هوادة، كالسيل الجارف الذي يضرب كيان الدولة ويقوَض ركائزه الاقتصادية ويحشر ناسه تحت خطوط الفقر منذ سنتين وبضعة أشهر.

حقاً . "مَرْتا، مَرْتا، إِنَّكِ تَهْتَمِّينَ بِأُمُورٍ كَثِيرَة، وَتَضْطَرِبِين! إِنَّمَا المَطْلُوبُ وَاحِد". ففي حين تكاد ادارة صندوق النقد الدولي تستجدي تعاوناً لبنانياً لتعجيل انجاز الخطوات الضرورية توطئة لاستئناف جولات المفاوضات الرسمية الهادفة الى عقد اتفاقية برنامج دعم وتمويل، ينكبّ أهل الحل والربط على نبش ملفات خلافية وقضايا جانبية في توقيت طرحها وابتكار منصات بديلة عن المؤسستين التشريعية والتنفيذية المولجتين دستورياً بالضرورات والمحظورات معاً.

هو الانفصام بعينه و"المقصود" تنفيذاً بقرارات وارادات من بيدهم الأمر. وهو ما ترجمه بجرأة خبراء البنك الدولي بوصفه الموضوعي: "الكساد المتعمّد". أما مرآته العاكسة فهي تتجلى أولاً في الميدان النقدي، ثم تتدحرج الى القطاع المالي ومنه الى جيوب المواطنين ومداخيلهم ومدخراتهم، لتصل كرة الثلج الى اسواق الاستهلاك وتضخيم التضخم الذي يحجز للبنان ريادة اضافية ضمن سجل "الأسوأ" عالمياً.

في الأيام القليلة الماضية، اختبر المقيمون من لبنانيين ونازحين النفحات الاولى لعواصف الارتطام الكبير الذي طالما نبّهت المؤسسات الدولية، المالية والانسانية، من سرعة الانزلاق صوبه برعاية "الفشل التام " للدولة. وكنموذج صارخ بدلالاته، لم يكن عابراً في ظل حمأة الانهيارات الأحدث في سعر صرف العملة الوطنية وما تشي به من تداعيات على الاستقرار الهش، ان تمتنع المستشفيات عن استقبال مرضى قوى الأمن الداخلي وعائلاتهم. هنا "سحر" الطلقة المحشوة بأوجاع الناس والعسكر التي تصيب أهدافاً متعددة في اماكن مختلفة.

وقد يبدو المشهد "سوريالياً" في المقاربة والتوصيف، بينما تميط الوقائع عن واقع أكثر قتامة في سوداويته وفي تفاعلاته المرتقبة على حاضر البلد ومستقبل نظامه السياسي والاقتصادي. فدوائر المخاطر آخذة في التوسع، ومثلها أحزمة الفقر والعوز التي تستلهم، بالزيادات المطردة في ضم فئات جديدة، تجارب دول غارقة في الحروب والصراعات والتغييب القسري للسلطات والجفاف الشبه المطلق في الموارد المالية والضخ التواصلي لمحفزات ضيق سبل العيش.

النقد والنقض

في المسألة الأكثر الحاحاً، بدا استئناف جولات التلاعب بالنقد الوطني وبالسلطة النقدية كخطين منفصلين، انما
"الروابط" بينهما في التوقيت التشاركي وفي استهداف اجهاض مفاعيل التدابير الوقائية وشت بما هو أبعد. فالأصل ان تقدم التحركات الحكومية نحو اعداد مشروع قانون موازنة العام الحالي وصوغ العناوين الأساسية لخط الانقاذ يفترض تلقائياً مواكبة واقرار من قبل مجلس الوزراء عاجلاً ومن قبل مجلس النواب آجلاً.

توازياً. سجلت إدارة صندوق النقد الدولي تقدماً واعداً في مقاربة الملف اللبناني. وفي أحدث المستجدات، أعلنت متحدثة باسم الصندوق أن "فريقاً من الصندوق سيبدأ بعثة افتراضية في آخر أسبوع من كانون الثاني، في ما خص المفاوضات مع لبنان، والمناقشات مع السلطات اللبنانية ظلت مستمرة حول العديد من التحديات الكثيرة التي تواجهها، بما في ذلك موقف الاقتصاد الكلي والمالية العامة والقطاع المالي. وينوي الصندوق مواصلة الانخراط الوثيق مع السلطات في الأسابيع المقبلة لمساعدتها على صياغة استراتيجية إصلاحية شاملة تعالج التحديات الاقتصادية العميقة التي يشهدها لبنان".
ولم يفت المسؤولة في الصندوق التنويه بـ " أهمية أن يتوفر التأييد السياسي على نطاق واسع لتنفيذ هذه الاستراتيجية، بما في ذلك تأييد أي حكومة تتولى زمام السلطة في المستقبل، وبحيث يجب أن تؤدي الإصلاحات اللازمة إلى استعادة الاستقرار الاقتصادي الكلي، والعودة بالديون إلى مستويات مستدامة، واسترداد ملاءة القطاع المالي، والعودة إلى تحقيق نمو مرتفع وأكثر احتواءً لكل شرائح المجتمع على المدى المتوسط".

وقبلها، كان الرئيس الجديد للفريق الدولي ​أرنستو راميريز، الذي تسلّم مهامه في أوائل العام الحالي خلفاً لـ مارتن سيريسولا، استطلع الشهر الماضي، على رأس البعثة المتخصصة، الخطوات التحضيرية التي يمكن أن يبنى عليها قبيل ايفاد بعثة موسعة للتفاوض قريباً على تفاصيل برنامج التعافي الاقتصادي والمالي المتوقع مع لبنان، وحيث اعتبر رئيس الفريق اللبناني، نائب رئيس مجلس الوزراء سعادة الشامي، أن "الحكومة اللبنانية تعمل بجدية على هذا البرنامج وقد قطعت أشواطاً في هذا المجال، علماًِ أن الصندوق كان أكد في مناسبات عدة استعداده لمساعدة لبنان على الخروج من أزمته الحالية".

في المقابل، لم يطل الانتظار، فطارت الرسائل من الداخل الى من يعنيهم الأمر في الداخل والخارج، وفي العيّنة منها : الاستعصاء مستمر على حاله في منع التئام مجلس الوزراء، اعلاء الخلاف الدستوري بشأن المرجع الصالح للعقد النيابي الاستثنائي، تجديد ذرائع التباعد مع دول الخليج، تعثر اقتراح طرح "قضايا" على طاولة حوار رئاسية، تأجيج المضاربات على سعر صرف الليرة وتتويجها بإصدار مذكرة منع سفر بحق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، عودة التحركات الشعبية بصيغ مختلفة الى الشوارع.

ومن الواضح ان هذه الاشارات تعاكس تماماً توجهات رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، والذي يكرر من دون ملل، أن "الجهد الأول مطلوب منا نحن، ومن واجبنا وقف التعطيل والعودة لطاولة مجلس الوزراء، لإنجاز ما هو مطلوب، كما كانت بالغة في الاقصاح عن توجسه، " أقول ليس صحيحاً إننا تدخلنا في عمل القضاء، أو في شأن أي قرار يتخذه القضاء. وجلّ ما شددنا عليه، ليس الدفاع عن أشخاص بل الحفاظ على المؤسسات، واتباع الأصول في التعاطي مع أي مسألة تتعلق بأي أمر قضائي، ومنها ما يتعلق بواقع المصارف، انطلاقاً من أولوية الحفاظ على حقوق المودعين، وفي الوقت نفسه عدم ضرب ما تبقى من مقومات اقتصادية ومالية، تبقي هذا الوطن واقفاً على قدميه بالحد الأدنى".

وشدّد على أنه "طالما أننا على مشارف إنجاز المهمات الأساسية التي نعمل على تحقيقها، فإننا مستمرون بالمهمة التي قبلنا المسؤولية على أساسها، وندعو الجميع إلى التعاون معنا لإنجاح هذه المهمة بما يعيد العافية إلى لبنان واللبنانيين". كما أكد السعي إلى "عودة الحكومة سريعاً إلى الاجتماع حتى تنتظم أمور البلد والناس، ونتابع مسيرة الإنقاذ قبل أن يغدرنا الوقت ونصبح ضحايا أنفسنا"، معتبراً أن "لبنان يستحق كل تضحية، واللبنانيون يتطلعون إلى عودة الحياة إلى لبنان، وإنقاذه من مخاطر الإفلاس والتدهور. ونحن فخورون بصداقات لبنان الدولية ونشكر كل اهتمام وحرص على مساعدة لبنان للنهوض وإستعادة دوره على الساحتين الاقليمية والعالمية، لكن الجهد الأول مطلوب منا نحن اللبنانيين".

ما لم يفصح عنه ميقاتي في المسألة القضائية "الطارئة" عبر نشاط استثنائي، أبلغته مصادر معنية ومتابعة لموقع "أوّلاً-الاقتصاد والأعمال "، فالاصرار عبر جهة محددة على "قبع" سلامة ورميه بحزمات متتالية من الاتهامات، يتعدى في اضراره المباشرة وغير المباشرة شخص الحاكم ليضرب تلقائياً وبضربات مؤلمة، وربما قاضية، في سمعة البلاد المالية وتعاملاته مع الأسواق الدولية، والمهشّمة اصلاً بفعل اعلان التوقف عن دفع موجبات سندات لبنان الدولية (يوروبوندز)، وهو ما ما يفترض ان يخضع عاجلاً أم آجلاً للتمحيص وسبر خلفياته كونه لم ينجم عن عدم الامكانية، حيث كان بحوزة البنك المركزي حينها اكثر من 30 مليار دولار من الاحتياطات بالعملات الصعبة، كما كانت تتوفر خيارات عملانية وغير مكلفة من خلال مبادلة مستحقات باكتتابات جديدة (سواب) والدخول في مفاوضات مباشرة وفورية مع الدائنين ( للموضوع حكاية وحيثيات لاحقة).

ليرة ودولار

بالنتائج الأولية المحققة لهذه العوامل المتناقضة، انزلق لبنان الى مستنقع الهاوية النقدية، بعدما سجل سقوطاً حراً وجديداً في سعر صرف العملة الوطنية ازاء الدولار الاميركي الذي خرق سقف 33 الف ليرة قبل ان يرتد قليلاً، دافعاً بذلك حصيلة التراكم في فقدان القيمة التبادلية المعادلة الى نحو 95.5 في المئة ومعززة بترقبات غارقة في السلبية لجهة مستوى القعر الذي سينحدر اليه سعر الصرف، فيما يرتفع منسوب الهواجس وتتعمق حال "عدم اليقين" بشأن منحى التطورات المقبلة وسط ازدياد حدة التأزم الداخلي المتصل بمجمل الملفات والاستحقاقات.

وفي تحرك وقائي جديد، أدخل سلامة تعديلاً على التعميم 161 المتعلّق بجراءات استثنائية للسحوبات النقدية، بحيث تمت إضافة بند يمنح المصارف الحق بأن تشتري الدولار الورقي من مصرف لبنان مقابل الليرات اللبنانية التي بحوزتها أو لدى عملائها على سعر منصة صيرفة، من دون سقف محدد، وذلك زيادة عن الكوتا التي يحق لها شهرياً سحبها بالليرة اللبنانية، وأصبحت تأخذها بالدولار الأميركي على منصة صيرفة.
مع ذلك، كشف هذا التطورالدراماتيكي المستجد في اسواق المبادلات، عقم التدابير التقنية والوقائية التي يتخذها البنك المركزي للحدّ من وتيرة انحدار سعر الليرة وسرعة التغير في التسعير مع اتساع القفزات الى الآلاف يومياً عوضاً عن المئات. فيما تشي التداعيات الفورية في اسواق الاستهلاك بتجدد الموجات العالية للتضخم ودفع لبنان قدماً في صفوف الريادة العالمية في هذا المضمار وبنسب تتعدى خسائر الليرة بسبب التأثيرات المصاحبة والناتجة عن توجه الدولة الى اعادة هيكلة ورفع بدلات اكلاف الخدمات العامة ( كهرباء، مياه، اتصالات وسواها ) والرسوم الحكومية والدولار الجمركي، فضلاً عن الارتفاعات العالمية في اسعار السلع والمواد الاساسية واكلاف الشحن والاستيراد ومشاكل سلاسل الامداد والتوريد.

تآكل المداخيل

في رصد أولي لحجم الخسائر المحققة في محفظة المخصصات والرواتب وملحقاتها العائدة للقطاع العام وحده والذي يضم نحو 330 الفاً بين عسكريين وموظفين مدنيين، يتبين ان الاعتمادات الاجمالية التي تناهز 6500 مليار ليرة سنوياً تتعرض لتقلصات مذهلة في حدّتها إزاء الدولار الذي يمكن اعتماده في تبيان مدى اتساع الخلل في القدرات الشرائية للمداخيل. فالمضاهاة وفق السعر الرسمي للدولار البالغ متوسطه 1507 ليرات، تظهر ان كلفة مداخيل القطاع العام كانت تقارب نحو 4.3 مليارات دولار قبل انفجار الازمات في خريف العام 2019، لتنحدر تباعاً وبصورة متدرجة ودراماتيكية وصولاً الى نحو 200 مليون دولار حالياً، وهو رقم مذهل في مدلولاته.

واذ يعول جموع العاملين في القطاع العام على تحسين طارىء في المداخيل عبر المنح والزيادات في بدلات النقل والمساعدات الاجتماعية وسواها، فإن احباطهم يزداد تعمقاً بفعل تأخير اقرار موازنة العام الحالي واحالتها كمشروع قانون الى المجلس النيابي بسبب تعذر انعقاد الجلسات الدورية لمجلس الوزراء للاسباب المعروفة وذات الصلة بشروط مسبقة على الجبهة القضائية. بينما تتكاثر في المقابل وبصورة لافتة حالات الاستقالات والهجرة والهروب من الخدمة في الاسلاك العسكرية كنتيجة تلقائية لتراكم عجوزات المداخيل حتى عن تأمين اكلاف الحد الادنى والابسط من مقومات العيش.

ومع تواصل "نحر" مداخيل موظفي الدولة، يبدو القطاع الخاص، والذي عمد مبكراً الى تسريح عشرات الآلاف من اصل نحو المليون من عامليه وموظفيه سعياً الى صمود صعب، تائهاً في خيارات الحفاظ على انشطته ولو بالحدود المتدنية، بل تصاعدت في الاشهر الاخيرة وتيرة هجرة الاعمال لتلحق بالهجرة الكثيفة للكفاءات والمهنيين في المجالات كافة، والتي تعدت الرقم 250 الفاً من الاطباء والمهندسين والممرضين والمتخصصين في قطاعات المصارف واسواق المال وادارة الاعمال والتسويق والفنادق والمطاعم وغيرهم من المميزين والناجحين في القطاعات الحيوية. 

 

حراجة ومخاوف

تتفق مصادر معنية ومتابعة على وصف المرحلة الحاضرة بالحرجة جداً على المستوى النقدي وادارة السيولة. فالعوامل السياسية الشائكة والمتخمة بالصعوبات والتعقيدات على عتبة الانخراط العام في استحقاق الانتخابات النيابية، تستهلك بسهولة كامل مفاعيل الاجراءات الوقائية التي يتخذها البنك المركزي وبما يشمل الضخ اليومي للدولارات النقدية بمتوسط يقارب 20 مليون دولار عبر منصته الخاصة، ثم تتحول تلقائياً الى ضغوط شديدة على سعر صرف الليرة واسواق المبادلات النقدية التي تعمّها الفوضى وعشوائية التسعير خارج اي سيطرة للسلطات النقدية والقضائية والامنية.

وتسود مخاوف جدية من تكوين مناخات مؤاتية لتمدد الاضطرابات الى الاستقرار الامني الهش في ظل الانحدار الخطير في الاوضاع المعيشية الى درجة "اعدام" القدرات الشرائية لغالبية المقيمين بعدما تعدى متوسط الغلاء واقعياً نسبة الألف في المئة، وحيث تقلص الحد الادنى الرسمي للاجور الى 20 دولاراً شهرياً، ولم تسلم المداخيل الاعلى من الانخراط في دوامة العجوزات المتنامية، وبما يشمل حتى المخصصات المعتمدة للوزراء والنواب والمديرين العامين وذوي الرتب العسكرية العليا التي انحدرت الى ما دون سقف 400 دولار شهرياً، مع التنويه بالتقلصات الموازية في التعويضات ومخزون حسابات نهاية الخدمة.

وبالتوازي، تسجل الأكلاف غير الاستهلاكية ارتفاعات صاروخية تعجز كل مستويات المداخيل عن مواكبتها. فالأسر التي تنجح بصعوبات بالغة في تأمين الحدود المتدنية من الخدمات الطبية والدوائية، تصطدم بمرارة انعدام القدرات تماماً عن اللحاق باكلاف الاستشفاء عند الضرورات، بعدما اضحت التغطيات التي تؤمنها المؤسسات الضامنة كصندوق الضمان الاجتماعي وصناديق التعاضد تقتصر على اقل من 10 في المئة من الكلفة المستحقة وذات الارقام الفلكية لأغلب المواطنين باعتبار ان حزام الفقر يضم نحو 80 في المئة من المقيمين، وتمدد التعثر الى شركات التأمين الخاصة التي تربط تغطيتها بنوع عملة الاقساط التي تجبيها، وبذلك تقتصر الاستفادة المطلوبة على الذين يسددون متوجباتهم بالدولار النقدي.