"أوميكرون" يهدّد التعافي الاقتصادي العالمي ويطرح السؤال: هل بات علينا العيش مع الوباء؟

  • 2021-12-03
  • 10:00

"أوميكرون" يهدّد التعافي الاقتصادي العالمي ويطرح السؤال: هل بات علينا العيش مع الوباء؟

اختلال سلاسل الإمداد أشعل أسعار السلع وأجبر الشركات على تبديل استراتيجياتها

  • رشيد حسن

وجّه ظهور متحور جديد لفيروس "كوفيد-19" صدمة قوية لما بدا أنه مسار تدريجي نحو التعافي الاقتصادي في العالم وأثار في الوقت نفسه سؤالاً كبيراً حول المستقبل، سؤال هو التالي: هل ستتمكن كل الجهود العلمية والبحوث وحملات التلقيح وإجراءات الاحتراز التي تم إدخالها في العالم من وضع حد لوباء الكورونا وعودة الاقتصاد والمجتمع البشري إلى حال يشبه ما كانا عليه قبل ظهور الوباء في أواخر العام 2019؟ أم أننا سنواجه عبر قدرة الفيروس المتزايدة على التحوّر وتجاوز اللقاحات المعتمدة حالاً من الاستنزاف المستمر لموارد البشرية والعرقلة المتكررة للحركة الاقتصادية والسياحة وسلاسل الإمداد والتجارة؟ وهل يمكن للعالم الذي مرّ بالتجربة الخطيرة للعام 2020 وما نتج عنها من خسائر اقتصادية هائلة وخوف وتخبّط أن يتحمل عودة ولو جزئية إلى إجراءات حظر السفر أو تقييد حركة الأشخاص والمجتمعات؟

لقد كانت الفرضية الأولية التي برزت في مطلع العام الماضي هي أن جهود التلقيح الشامل للسكان أو لنسبة كبيرة منهم ستفضي في نهاية المطاف إلى تشكّل مناعة مجتمعية كافية لاحتواء الوباء وإزالة معظم آثاره على الحياة اليومية للمجتمعات، وتمّ إنفاق مبالغ ضخمة على حملات التلقيح أملاً في احتواء فعلي للجائحة والعودة بالتالي إلى حال قريب من الحالة التي كان عليها العالم قبل ظهور الوباء، إلا أن القدرة الكبيرة التي اظهرها الفيروس على التحوّر غيّر الحسابات وألقى بظلال من الشكوك على المستقبل. وقد ظهرت حتى الآن متحوّرات عدة لـ "فيروس ووهان" كان أبرزها متحور "دلتا" الهندي الذي انتشر وبات المتحور المهيمن في العالم. وقد انصبت كل جهود المكافحة، والآمال بتجاوز الكارثة، على تصميم لقاحات (أو علاجات) تساعد على مقاومة الفيروس بصيغته الأصلية، وعندما ظهرت "دلتا" كان الرأي العلمي أن اللقاحات المتوافرة كافية لتوفير المناعة ضد "دلتا"، لكن معلومات النتائج الفعلية أظهرت في ما بعد قدرة الفيروس على اختراق المناعة التي يحققها اللقاح وبالتالي وجود احتمال قوي بإصابة الملقحين بل والتسبب بدخولهم المستشفيات أو حتى وفاتهم، وظهرت أيضاً قدرة الفيروس على الانتقال حتى من الملقحين إلى غير الملقحين وشكوك كبيرة حول إمكان تحقيق مناعة مجتمعية عبر التلقيح يمكن أن تضع الفيروس والجائحة خلفنا.

عود على بدء

وها هو "أوميكرون" يواجه العالم بحقيقة صادمة هي الحاجة إلى تطوير لقاحات جديدة مصممة خصيصاً لمواجهته، وهو ما قد يحتاج في أقل تقدير وحسب تقديرات شركات الدواء إلى ثلاثة أشهر وربما أكثر من ذلك، وفي انتظار توافر اللقاح الجديد، فإن دولاً كثيرة عادت إلى محاولة حماية نفسها عبر إجراءات احترازية مختلفة من بينها تقييد السفر وفرض الحجر والكمامات والتباعد الاجتماعي مجدداً. ورغم ذلك، فإن الرأي السائد هو أن متحور "أوميكرون" وصل الآن إلى عشرين دولة على الأقل من بينها بريطانيا وألمانيا وإسبانيا والبرتغال وهولندا والبرازيل واليابان والسويد وإيطاليا والولايات المتحدة، وهذا يعني أن الفيروس الجديد سيتحوّل قريباً إلى المتحور المهيمن في العالم. وقد أظهرت المتابعة الأولية أن "أوميكرون" في طريقه للحلول محل "دلتا" مما يعني أن على العالم أن يتعامل معه وأن يطوّر الحمايات واللقاحات اللازمة لاحتوائه. 

لا يتوافر حتى الآن تقييم متفق عليه لخصائص المتحور الجديد ومدى خطورته، وقد أبلغت سلطات جنوب أفريقيا التي تعاملت مع الحالات الأولى منه أنه سريع العدوى لكنه قد يكون أخف وطأة من "دلتا"، وعلى سبيل المثال، فقد أعلنت منظمة الصحة العالمية أنه لم تحصل حتى الآن حالة وفاة تسبب بها المتحور الجديد ورحبت أوساط علمية بإمكان أن يحل متحور أخف وطأة للفيروس مكان متحور "دلتا" مشيرةً إلى أن هذا التطور قد يكون مؤشراً على التضاؤل التدريجي لقوة الفيروس، لكن ينبغي انتظار المزيد من الوقت قبل توافر معطيات كاملة عن المتحور الجديد.

بوادر التعافي في خطر

الأمر الأكيد مع ذلك هو أن ظهور متحور "أوميكرون"، حتى وإن كان أخف وطأة من سابقه، يوجه ضربة لمسار التعافي الاقتصادي وهو سيؤخر حتماً قدرة العالم على مواجهة الاختناقات والأزمات التي نجمت عن الموجة الأولى للكورونا في العام 2020 قبل توافر اللقاحات. وقد ظهر "أوميكرون" في وقت يعاني العالم فيه أصلاً من اختلالات فادحة في سلاسل الإمداد وتراجع قدرات المصانع ونقص كبير في العمالة وزيادات غير مسبوقة في معدلات التضخم وأسعار السلع لم نشهد مثيلاً لها ربما منذ 30 عاماً.

وقد انعكست الاختلالات الفادحة في حركة نقل البضائع والسلع إلى ارتفاع غير مسبوق في تكلفة شحن أي إرسالية عن طريق البحر بلغ حسب تقدير لصحيفة "لويدز ليست" المتخصصة في النقل البحري 336 في المئة خلال العام الماضي بينما ارتفعت تكلفة عقود الشحن الطويلة الأجل بنسبة 465 في المئة، وبالطبع فإن هذا الارتفاع غير المسبوق في تكلفة النقل مع استمرار الاختناقات في المعروض السلعي باتا من أهم مكونات الارتفاع المتسارع في أسعار مختلف السلع والقفزات التي تسجلها معدلات التضخم في مختلف الدول الصناعية.

ويهدد "أوميكرون" بصورة خاصة تباشير الانتعاش في حركة السياحة العالمية التي شهدت زيادة بنسبة 58 في المئة خلال أشهر الصيف بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام 2020، علماً أن الحركة السياحية ما زالت أقل بنسبة 64 في المئة عن المعدلات التي كانت عليها قبل الجائحة في العام 2019.

خيارات محدودة

يواجه متحور "أوميكرون" السلطات النقدية في الدول المتقدمة بخيارات صعبة في تعاملها مع تفاقم معدلات التضخم وتسارع علامات التعافي الاقتصادي، إذ قامت هذه السلطات بتوفير برامج تحفيز هائلة وضخت تريليونات الدولارات من أجل دفع الدماء في عروق الاقتصاد وتحريك العمالة وتنشيط الاستهلاك، وأدت هذه السياسة مع وجود الاختناقات في المعروض السلعي إلى قفزات كبيرة في معدلات التضخم، وإلى بروز تفكير بإعادة تطبيع السياسات النقدية عبر التقليص التدريجي للتيسير النقدي والبدء لاحقاً برفع الفوائد بهدف احتواء الضغوط التضخمية، إلا أن ظهور متحور "أوميكرون" مع آثاره الانكماشية المحتملة قد يدفع السلطات النقدية لإعادة النظر بخيار رفع الفوائد. وبذلك ستجد البنوك المركزية نفسها أمام خيارين أحلاهما مرّ، فهي إما أن تبقي على سياسة التحفيز الحالية مع ما تحمله من مخاطر خروج التضخم عن السيطرة وتحوله الى مشكلة هيكلية وإما أن تلجأ إلى رفع أسعار الفائدة لتخفيف الضغوط التضخمية وعندها فإنها قد توجه ضربة مبكرة إلى طلائع التعافي الاقتصادي. وهذا في وقت يتوقع لمعدلات التضخم أن تستمر مرتفعة نتيجة عوامل غير نقدية مثل نقص العمالة (وارتفاع تكلفتها) واختلال سلاسل الإمداد وارتفاع تكلفة النقل والارتفاع المتوقع لتكلفة إعادة توطين الصناعات ونقل مراكز الإنتاج إلى مواقع قريبة من سوق الاستهلاك.

الخلاصة البسيطة هي أننا أمام عالم جديد قد يصبح فيه العيش المستمر مع فيروس الكورونا ومتحوِّراته المتتابعة جزءاً من حياتنا اليومية وتحدياً مستمراً للاقتصادات العالمية والمجتمع الإنساني، وقد نصل بعد حين إلى إيجاد السبل للعيش في "اقتصاد الكورونا" كما يمكن تسميته إلا أنها ستكون حياة مختلفة تماماً عن عصر ما قبل الجائحة والذي سيدخل بهدوء -وسط الصخب المستمر- إلى خزانة الذكريات.