الاسواق الناشئة وتحديات المستقبل

  • 2021-05-29
  • 07:00

الاسواق الناشئة وتحديات المستقبل

  • د. وليد صافي

استاذ الدراسات العليا في الجامعة اللبنانية- كلية الحقوق والعلوم السياسية

 

يحتل النقاش حول مستقبل الاسواق الناشئة حيزاً واسعاً وذلك لأهمية النموذج الذي قدمته هذه الاسواق في جذب الاستثمارات الاجنبية وفي الحفاظ على استدامة النمو، الامر الذي ادى إلى ارتفاع حصة هذه الاسواق في الناتج الاجمالي العالمي الى 35 في المئة.  وعلى الرغم من التحديات التي واجهت الاسواق الناشئة وهروب رؤوس الاموال وهبوط العملات، مازالت توقعات عدد كبير من الاقتصاديين والمحللين الماليين واعدة في شأن الفرص الاستثمارية التي توفرها هذه الاسواق ومستقبلها في الاقتصاد العالمي.

وفي هذا المجال، توقع التقرير الصادر عن الشركة المهنية الدولية بعنوان "العالم في 2050" أن من بين الاقتصادات العشرة الاولى في العالم ستكون الدول الناشئة مثل الصين، الهند، اندونيسيا، البرازيل، روسيا، المكسيك، كما توقع التقرير بأن تشهد الاسواق الناشئة ارتفاعاً بنسبة حصتها من الناتج المحلي العالمي الاجمالي.

التوقعات المتفائلة لمستقبل الاسواق الناشئة تقابلها توقعات بنك "مورغن ستانلي" الاستثماري التشاؤمية حيث خفض نظرته المستقبلية لعملات وسندات هذه الاسواق بالإضافة الى توقعات تراجع العملات بنسب تتراوح ما بين 4 و 5 في المئة، كما تقابلها تقارير المؤسسات المالية الدولية التي تشير الى هروب مليارات الدولارات من هذه الاسواق باتجاه الاسواق المتقدمة وفي مقدمها الاقتصاد الاميركي. وبحسب بيانات معهد التمويل الدولي، فإن المستثمرين الاجانب يتجهون الى تسييل محافظهم المالية المستثمرة في ادوات الدين في الاسواق الناشئة مثل السندات وكذلك الاسهم. وقد بلغ اجمالي الاموال النازحة من تلك الاسواق منذ ايلول 2020 وحتى آذار/ مارس 2021 نحو 4.9 مليارات دولار.

ويشير معهد التمويل الدولي ايضاً الى أن الأسواق الناشئة باتت غير جاذبة لاستقطاب اموال واستثمارات خارجية جديدة، حتى لو رفعت بعضها اسعار الفائدة المحلية. واشارت بيانات اخرى الى أن حجم ديون الاسواق الناشئة التي يحين اجل سدادها تقدر بنحو 200 مليار دولار في العام 2021، الامر الذي يشكل ضغطاً كبيراً على عملات الدول واحتياطاتها من النقد الاجنبي ويؤدي الى زيادة وتيرة الاقتراض الخارجي بأسعار فائدة عالية.

 ليست المرة الأولى التي تواجه فيها الاسواق الناشئة تحديات هروب الرساميل والتراجع في عملاتها، ولعل الازمة المالية التي شهدتها اسواق شرق آسيا العام 1997 هي من اقوى الازمات التي حوّلت معجزة الاقتصاد الآسيوي الى كارثة اقتصادية في ذلك العام.  وفي العام 2014 شهدت بعض الاسواق الناشئة هروب رؤوس الاموال، ولكن حجم الرساميل التي خرجت من هذه الاسواق في ذلك العام لم تطرح ازمة شبيهة بالأزمات السابقة. ولا شك في أن تراجع العملات في العديد من البلدان الناشئة ومستويات المديونية العالية قد رفعا من نسبة المخاطر في اسواقها.

لذلك، فالسؤال المطروح بقوة هو: هل ما زالت الاسواق الناشئة تمتلك ميزات تفاضلية لجذب الاستثمارات؟

من الخطأ وضع الاسواق الناشئة كافة في وعاء واحد حيث إن عدداً من هذه البلدان يعتمد على تصدير السلع الاساسية، والبعض الآخر يعتمد على تصدير الصناعات، وبالنتيجة كلاهما ينمو ويتطور بطريقة مختلفة، لكن القواسم المشتركة بين هذه الاسواق أنها تتأثر بشكل بالغ بسياسات بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي، إذ يعتبر كثير من المحللين الماليين ان حركة هروب رؤوس الاموال التي شهدتها هذه الاسواق في مراحل مختلفة سببها الرئيسي التقليص التدريجي لبرامج شراء الاصول لدى البنك الفدرالي، والذي من شأنه ان يرفع توقعات اسعار الفائدة في الاسواق المتقدمة، علماً ان الاسواق الناشئة والتي اتجهت الى المزيد من المديونية بعد ازمة الرهن العقاري في العام 2008، قد استفادت من اسعار الفائدة المتدنية على مدى عقد من الزمن.

ويبدو أن اسباب نزوح الاموال من الاسواق الناشئة في هذه المرحلة مرتبطة ايضاً بسياسات البنك الفدرالي، وبعوامل جديدة منها سرعة تعافي الاقتصاد العالمي وضخامة حزم التحفيز المالي في الولايات المتحدة الاميركية، وكذلك التوقعات القوية بزيادة سعر الفائدة على الدولار في العام 2022 ونمو الاقتصاد الاميركي بنسبة تفوق 5.6 في المئة في العام 2021، واستمرار زيادة المخاطر في الدول الناشئة مع التأثيرات الضخمة لجائحة كورونا على اقتصادات هذه البلدان. ولعل المثل الصارخ في هذا المجال هو عدم قدرة الهند على مواجهة الموجة الجديدة وانهيار القطاع الصحي، حيث تشير التوقعات بأن يصل عدد الاصابات فيها الى مليون اصابة في اليوم مع آلاف الموتى.

بالطبع هذه التحديات الكبرى التي تواجهها الاسواق الناشئة من المفترض ان تدفع باتجاهات البحث عن مسارات جديدة، ولاسيما في التأسيس لجذب الاستثمارات الطويلة المدى، والتي تقلل من نسب المخاطر التي تطرحها سياسات البنك الفدرالي الاميركي، وتقليص نسبة الديون الحكومية المملوكة لمؤسسات اجنبية.

من جهة ثانية، قام العديد من هذه الدول بإصلاحات بنيوية عقب ازمة اواخر التسعينات واعادت الجاذبية الى هذه الاسواق، فإن تداعيات كورونا على اقتصادات هذه الدول من المفترض أن تفتح مسارات الاصلاح كما يجري في الصين والسعودية، كما إن المسار الجديد الواعد لهذه الاسواق، يكمن بالقدرة على تسريع الانخراط في الاقتصاد الرقمي حيث من المتوقع ان تبلغ الايرادات الرقمية العام 2025 في اقتصاد جنوب شرقي آسيا نحو 500 مليار دولار.

 وأخيراً، ارتفاع اسعار السلع الذي نشهده منذ نهاية 2020 يشكل فرصة ايضاً امام الدول الناشئة التي تعتمد اقتصاداتها على تصدير السلع، لتجديد الاستثمارات ولاسيما في قطاع الطاقة الخضراء التي من المتوقع ان تحتل 50 في المئة من سوق الطاقة في حلول العام 2050.