"معايير الصين 2035": هل تشعل الحرب الباردة التكنولوجية؟ (1/2)

  • 2021-02-08
  • 14:35

"معايير الصين 2035": هل تشعل الحرب الباردة التكنولوجية؟ (1/2)

  • كتب ياسر هلال

بلغت العلاقات الأميركية الصينية درجة عالية من تضارب المصالح ما ينذر بتحول التنافس بينهما إلى حرب باردة في بعض المجالات بخاصة المجالين التكنولوجي والمالي.

"معايير الصين 2035" تجاوز للخط الأحمر لأنها توسع سيطرة الصين
من الانتاج المادي لتشمل وضع معايير وقواعد الانتاج والتبادل العالمي

 

"أولاً ـ الاقتصاد والأعمال" تطرح هذه القضية من خلال سؤالين وتحاول الإجابة عليهما في حلقتين متتاليتين:

السؤال الأول: هل جاء تحذير الرئيس الصيني في منتدى دافوس أواخر الشهر الماضي "من مخاطر نشوب حرب باردة جديدة" متأخراً، بعد أن تجاوزت الصين الخط الأحمر في غاراتها المتلاحقة على حصون أميركا وكان آخرها وأخطرها إعلان استراتيجية "معايير الصين 2035" في يوليو الماضي، المتعلقة بالثورة الصناعية الرابعة ما يضعها في منافسة مباشرة مع أميركا ليس على موقع الصدارة تجارياً وصناعياً، بل على المشاركة في وضع أسس وقواعد النظام العالمي.

السؤال الثاني (الحلقة الثانية): هل تكون الدولة العميقة في أميركا قد "أسقطت" ترامب الذي فشل بمواجهة الصين، ونجح بعزل أميركا واستعداء حلفائها، ليتولى بايدن لململة الجراح وإعادة بناء قوة أميركا وتحالفاتها، استعداداً لتصعيد المنافسة مع الصين وليصبح الخيار بين "حرب فاترة" في الفضاء الرقمي الذي بات جاهزاً للتقسيم أو حتى "البلقنة"، وبين حرب باردة في مجالات أخرى يتم فيها الحفاظ على قدر من التعاون والتنسيق بين القوتين.

هل جاء تحذير الرئيس الصيني من مخاطر نشوب حرب باردة، متأخراً؟

 

قبل تناول أهمية وخطورة "معايير الصين 2035"، لا بدّ من استعراض بعض المعطيات المتعلقة "بما يصح تسميته استراتيجية أميركا "لفك الارتباط" مع الصين، بما يكفل وضع هذه المعايير في سياقها الصحيح، ولنلاحظ أنه في الوقت الذي كانت فيه أميركا "تنام على حرير" تفوقها العسكري والسياسي والاقتصادي والمالي وأوهام القطب الواحد، كانت الصين "تنسج حرير" مقعدها على طاولة النظام العالمي، وتراكم عناصر القوة والمواجهة ومن ضمنها على سبيل المثال:

  1. اقتصاد ينمو بمعدلات قياسية وسيطرة في الصناعة والتجارة الدولية وسلاسل الإمداد، وبيئة أعمال جاذبة للشركات الدولية.
  2. إطلاق مبادرة الحزام والطريق.
  3. اقتحام حصون القوة المالية الأميركية من خلال اليوان الرقمي وقابلية تحويل اليوان إلى ذهب ووسائل الدفع الرقمي.
  4. تعزيز حضورها في المؤسسات الدولية وبخاصة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والهيئات المعنية بالمعايير وتكنولوجيا المعلومات.
  5. تغيير عقيدة الجيش الصيني من الدفاع عن حدود الصين إلى حماية مصالح الصين في العالم، والاندفاع لبناء قوة بحرية ضخمة وإقامة قواعد عسكرية كانت الأولى في جيبوتي.

معايير الصين 2035

في هذا السياق من مراكمة عناصر الصين لعناصر القوة بمواجهة أميركا، جاء إعلان استراتيجية "معايير الصين 2035"، والتي اعتبر الرئيس شي جين بينغ أنها "ستعزز قدرات الصين التكنولوجية وتضمن استقلاليتها، وتدعم جهود التنمية" وتولى نائب رئيس الاتصال الدولي السابق للحزب الشيوعي الصيني، تشو لي الشرح بكثير من الصراحة بقوله "إنها تشكل استجابة لتصعيد شامل للمنافسة بين الولايات المتحدة والصين". 

ماهي المعايير التقنية وما أهميتها:

للتوضيح وتقليل الشرح نستعير العبارة الشهيرة لمؤسس شركة سيمنز التي أطلقها في القرن التاسع عشر قبيل الثورة الصناعية، وهي "من يضع المعايير، يمتلك السوق"، ونضيف عليها شيئاً من روح العصر لتصبح من "يضع المعايير التقنية للثورة التكنولوجية.. يحكم العالم".

 

هدف الصين المشاركة في إدارة النظام العالمي
وليس تدميره، والجلوس إلى جانب أميركا وليس مكانها

 

أما ماهية المعايير والمقاييس التقنية، فهي القواعد والنظم الخاصة بصناعة المنتجات، وهي حاضرة في كل مناحي حياتنا اليومية، من قابس الكهرباء إلى السيارات الذاتية الحركة والذكاء الاصطناعي والمدن الذكية وصولاً إلى الأقمار الاصطناعية المدنية والعسكرية، ومعروف أن اعتماد معايير موحدة في التصنيع هو الشرط الأول لكي تعمل منتجات الشركات والدول كافة مع بعضها بعضاً، أما إذا وضعت كل دولة أو شركة معاييرها الخاصة، فتصبح المنتجات محصورة بأسواق محددة والدول أشبه بجزر معزولة عن بعضها. وعليه، فإن الدولة أو الشركة التي تضع المعايير وتتحكم بها، تضمن مسألتين: الأولى زيادة انتاجها بالحد الأقصى طالما تضمن تسويقه في أسواق العالم كافة، والثانية جني أرباح طائلة من بيع حقوق ملكية هذه المعايير.

كيف يعمل النظام الدولي للمعايير؟

تمّ انشاء العديد من المؤسسات والمنظمات الدولية لتولي مهمة توحيد المعايير ووضع القواعد، ويعمل نظام المعايير من حيث المبدأ وفق فرضية حق كل صاحب مصلحة سواء كان دولة أو شركة ان يجلس إلى الطاولة كمشارك وكمنافس في اقتراح المعايير لمنتجات أو أنظمة. ومن أهم الشروط في عمل النظام، توافر الإجماع لاعتماد أي معيار جديد، الاستخدام الطوعي للمعايير، وتنمية الصناعة وتشجيع الابتكار.

هذا بالمبدأ وإذا كان العالم "جمهورية أفلاطون"، أما في الواقع والتطبيق، فإن أميركا وبقية الدول الغربية ظلت حتى وقت قريب تهيمن على وضع المعايير.

تهيب الصين من نشر معاييرها

قامت الصين في شهر يوليو 2020 بإعلان الخطوط العريضة لاستراتيجية المعايير، على ان يتم نشر الوثيقة مفصلة في نهاية العام 2020، ولكن يبدو ان الصين لا تزال تتريث في ذلك بانتظار جلاء الموقف الأميركي. وعلى أي حال، فإن ما نشر يفيد بأنها تشمل مختلف المجالات ذات الصلة بالثورة التكنولوجية مثل: شبكات الجيل الخامس، الطاقة والطاقة المتجددة، الخلايا الكهروضوئية الشمسية ، معدات تكنولوجيا المعلومات، الذكاء الاصطناعي، إنترنت الأشياء، الأمن السيبراني، وتتوسع هذه المعايير لتشمل الأنظمة والبرامج المتعلقة بالرعاية الصحية الذكية والضمان الاجتماعي والتقاعد الخ..

وتجدر الإشارة هنا إلى أن أهمية وخطورة هذه المعايير لا تكمن في طبيعتها وأهدافها، فقط (راجع الكادر) بل لأنها تأتي استكمالاً لـ "إستراتيجية صناعة الصين 2025" التي كرّست موقع الصين كمنافس على المرتبة الأولى عالمياً في الانتاج الصناعي وفي التجارة الدولية وسلاسل الإمداد، ما يعني ان استراتيجية المعايير ستوسع نطاق سيطرة الصين من الانتاج المادي لتشمل وضع معايير وقواعد الانتاج والتبادل في العالم.

.. لكنها طبقتها قبل إعلانها

بغض النظر عن توقيت إعلان المعايير ونشر الوثائق المتعلقة بها، فالحقيقة ان الصين قطعت فعلاً شوطاً طويلاً في فرضها وجعلها أمراً واقعاً. ولنلاحظ بعض الحقائق والمعطيات التي تؤكد ذلك وأهمها:

طريق الحرير الرقمي: نجحت الصين بربط تنفيذ مشاريع البنية التحتية المنفذة في إطار "مبادرة الحزام والطريق" باعتماد المعايير التقنية الصينية خصوصاً في ما يتعلق بشبكات الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي والمدن الذكية والآمنة، وتم إبرام اكثر من 116 اتفاقية لإنشاء مدن ذكية وآمنة من بينها 25 مشروعاً في مدن أوروبية.

الجيل الخامس: رسخت شركات التكنولوجيا والاتصالات الصينية وتحديداً شركة هواوي موقعها كلاعب لا يمكن تجاهله أو إغضابه خصوصاً في مجال شبكات الجيل الخامس، وصولاً إلى الاقتراح المقدم إلى الاتحاد الدولي للاتصالات لاعتماد "بروتوكول الإنترنت الجديد" والذي سيتم اختباره خلال الربع الأول من العام الحالي، وسيتم عرضه في اجتماع الاتحاد الدولي للاتصالات الذي سيعقد في الهند في نوفمبر 2021.

هيئات المعايير الدولية: يبقى الانجاز المهم هو نجاح الصين في تعزيز حضورها ونفوذها في المنظمات والهيئات الدولية عموماً والهيئات المعنية بالمعايير التقنية تحديداً، فنشير على سبيل المثال إلى المنظمة الدولية للمعايير (المقاييس) ISO، التي تحتل الصين منذ العام 2008 مركز العضو السادس الدائم في مجلس المنظمة، كما تمّ في العام 2015 انتخاب رئيس صيني لها، وكذلك الحال في اللجنة الكهروتقنية الدولية وهي من أهم هيئات المعايير، إذ يشمل نشاطها قطاعات الكهرباء والإلكترونيات والتقنيات ذات الصلة، حيث نما نفوذ الصين فيها ليصل إلى تعيين ينبياو شو رئيساً لها في يناير 2020. أما في الاتحاد الدولي للاتصالات فقد تم في العام 2019، إعادة انتخاب هولين جاو كأمين عام.

الاندماج المدني ـ العسكري: تركز "معايير الصين 2035" على تشجيع وتسهيل دمج جهود البحث والتطوير المدنية والعسكرية، لتوفير الجهد والمال وتعزيز الاستخدام المزدوج للابتكارات وبخاصة في مجالات الحوسبة السحابية، البيانات الكبيرة وتقنية الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي، ولا تزال هذه المبادرة تحاط بسرية كاملة وتتهم مراكز البحث الغربية الصين بأنها تستهدف من ورائها تقوية القدرات التكنولوجية للجيش الصيني خصوصاً وان الرئيس الصيني نفسه يرأس لجنة تطوير الاندماج العسكري- المدني.